تكلمنا في المقال السابق الفكرة التسلطية أم الحدث العقلي التسلطي؟ عن مفهوم الحدث العقلي التسلطي والخبرة النفسية المعرفية لصاحبه، ونحاول في هذا المقال أن نشرح مفهوم الفعل القهري مع إعطاء أمثلة من شكاوى مرضانا ومن شكاوى أصدقاء موقعنا ومستخدمي خدمة استشارات مجانين، وما أكثر الموسوسين على مجانين، وكذلك نعطي بعض الأمثلة من تراثنا وثقافتنا، ونبدأ بذكر التعريف الطبنفسي المعتمد للفعل القهري فهو فعل أو سلوك حركي أو عقلي متكرر ومُقَيَّس Standardized أي أن له قواعدَ محكمةً أو معايير وشروطا معينة.
معنى الفعل القهري كَخِبْرَةٍ نفسيةٍ:
الفعلُ القهري هو بشكل أو بآخر فعل يلجأ إليه المريض تحت تأثير إلحاح الحدث العقلي التسلطي -السابق له غالبا- لأجل التخفيف من حدة التوتر أو القلق أو الخوف، والفعل هنا قد يكون عضلياً أو حركيًّا بالمعنى المعروف كأنْ يغسل المرءُ يديهِ أو ينظِّفَ مكانَ جلوسِهِ أو أن يلمسَ المقبض.... إلى آخرهِ، أو يكون فعْلاً عقليًّا كأنْ يعُدَّ المرءُ عَدَدًا معينا من الأرقام أو يسترِجِعَ في ذهنه جملةً أو مقولَةً ما أو مقطعًا من أغنيةٍ ما.
إذن فالأفعالُ القهريةُ هي أفعالٌ يضطَرُ المريضُ لفعْلِها ليُقَـلِّلَ من إحساسهِ بعدم الراحة والضيق والتوترِ وَزيادة إلحاح الأحداث العقلية التسلطية ولكن تلك الأفعال لا تعطيه الراحة إلا لوقتٍ قصيرْ أو أن يمارس أفعالاً معيَّنَةً بشكل طَقَسِيٍّ حسب قواعِدَ محْكَمَةٍ! أو الاثنين معا.
وَفي الطب النفسي يوصف فعل ما بأنه فعلٌ قهْرِيٌّ إذا توفرتْ فيه الشروطُ التاليةُ:
1- أنَّ يحِسَّ المريضُ بأنه مرغمٌ على فعل معين يراهُ بلا جدْوَى أو زائدًا عن الحد الطبيعي أو أن يفعل شيئًا يفعله كل الناس ولكن بشكل طقسِيٍّ مبالغٌ فيه وحسبَ قواعِدَ صارمةٍ.
2- أن يُحاوِلَ المريضُ منع نفسهِ من تكرارِ هذا الفعل ولكنه دائما ما يفشلُ بسبب ما يعتريه من ضيق وتوتر "وغالبًا ما يكون ذلك بسبب الأحداث العقلية التسلطية المصاحبة" كلما منع نفسهُ من تكرار الفعل.
3- أن تكونَ الاستجابةُ للأفعالِ القهرِيَّةِ بنوعيها الحركيِّ أو العقليِّ من قِبَل المريض من أجل منع أو إنقاص المعاناةِ المصاحبِةِ للامتناع عن فعلها أو من أجل منْعِ حدوثِ مكروهِ ما، لكنَّ ذلكَ إما غيرُ منطقِيٍّ "من حيثُ انعدام العلاقةِ بينَ الفعلِ القهرِيِّ والحدثِ المخشِيِّ" أو أنَّ الفعل القهريَّ مبالغٌ فيه بشكل واضحْ.
كلنا بالطبع يغسل يديه وينظف مكان جلوسه ويلمس المقبض وكلنا كذلك يعد مستخدما الأرقام وكلنا يسترجع في ذهنه جملاً ومقولات ومقاطعَ من أغاني لكننا نفعلُ ذلك لأننا نختارُ فعلهُ فيغسل الإنسانُ يديه لأنه يريدُ مثلاً أن يأكل أو لأنها اتسختْ لسببٍ أو لآخر وينظف الإنسانُ مكانَ جلوسه عندما يراه غير نظيف كأن يكونَ عليه بعضُ الغبارِ مثلاً وكل إنسان يلمس المقبض ليفتحهُ أو ليغلقهُ أو لينظفهُ وكلنا يسترجعُ في ذهنه جملاً لأنه يريدُ تذكرها لما لها من علاقة بما يمرُّ به من خبرةٍ في وقتٍ معين وكلنا يسترجع مقاطعَ من أغاني لأنه يحبها أو يحبُّ ما تثيرُهُ في نفسه من مشاعرَ كل هذا يحدث برغبةِ الإنسانِ ويراهُ مناسبا ويستطيع عدم فعله أو التوقفَ عنه متى شاءَ وبكل سهولةٍ متى أرادَ ذلك.
أما أن تجدَ امرأةٌ أن عليها أن تغسل يديها مثلا 50 مرة قبل أن تأكل أو بعد أن تلمس مقبض الثلاجةِ لكي تتأكدَ من نظافة يديها "رغم علمها واقتناعها بأن مرة واحدة تكفي لكي تنظف يديها" أو دونَ أن يكونَ لديها مبررٌ لذلك! أو أن يجد إنسانٌ نفسه مرغما على أن يمسح الكرسيَّ بمنديل مبلل عِدَّةَ مرّات قبل أن يمكنه الجلوسُ عليه وربما ظلَّ واقفًا ساعات لعدم وجود المنديل وقد يكونُ لديه مبرر لذلك "ولكنه يعرف أنه زائدٌ عن اللازم فقد يكون الكرسيُّ نظيفا أو يكون هناك منديل جاف مثلاً" وقد لا يكون لديه مبرر أصلا لذلك لكنه لن يستريح إلا إن فعل؛ وكذلك أن يجد إنسانٌ نفسه مرغما على لمس المقبض وتحريكه عدة مرات ليتأكد من غلق الباب "رغم علمه بأنه أغلقه بنفسه جيدًا" أو لكي يمنع سقوط الحائط المجاور للباب مثلا "رغم علمه ويقينه بأنه ليس هنالك رابطٌ منطِقيٌّ بين لمس المقبض وثباتِ الحائط في مكانه!" أو أنه يلمسُ المقبضَ عدة مراتٍ لمجرد أن هذا الفعل مريحٌ ومطمئنٌ بالنسبة لهُ "رغم يقينه بأن لا علاقة منطقية بين لمس المقبض وراحة الإنسان واطمئنانه!".
واستكمالاً لما ضربت من أمثلة فإن هناك من يجد نفسه مضطرًا أن يَعُـدَّ حتى الألف مثلا قبل أن يبدأ في غسل وجهه في الصباح أو أن عليه أن يكرِّرَ جملة ما عشرين مرة قبل أن يتكلم مع رئيسِهِ في العمل وهناك من لا يستطيعُ منع نفسه من عدِّ أعمدة الكهرباءِ في الطريق إلى آخر ذلك مما لا حصرَ له من أمثلة ولكنَّ الذي يعنيني هنا هو إحساس الشخصِ بأنه مجبرٌ على فعل فعلٍ ما رغم علمه ويقينه بعدم جدواه أو عدم وجود معنى له أو أنه زائدٌ عن الحد المعقول وهو في نفس الوقت يعرف أنَّ الإجبارَ نابعٌ من عقله هو ولكنه لا يستطيع التوقف ومهما حاول المقاومةَ فإنه يفشل في الكفِّ عن ذلك الفعل القهريِّ ذلك أن محاولة المريضِ منعَ نفسه من الاستسلام للفعل القهريِّ تسبِّبُ له حالة من الضيق والتوتر والقلق لا يخفف حدَّتَها إلا تنفيذُ الفعل القهرِيِّ فيستسلمُ المريض فقط ليهدأ قليلاً لكنَّ الحلقة المفرغة لا تنتهي فسرعانَ ما تعاودُه الرغبةُ الملُحَّةُ في تكرار الفعل والضيق والتوتر الشديد إذا حاولَ منع نفسه من الفعل.
ويمكنُ أن تأخُذَ الأفعالُ القهرية شكلا آخر هو الشكلُ الطقسي كأن يفعل الإنسانُ شيئًا يفعله كل الناس ولكن بشكل طقسِيٍّ مبالغٌ فيه فمثلاً كانت واحدَةٌ من مريضاتي تجد نفسها مضطرةً لأنْ تغسلَ حباتِ الأرزِ حبةً حبةً بالماءِ والصابون قبلَ أن تطبخَـهُ لأسْرَتِها، والنتيجةُ هيَ أنها أصبحت لا تستطيعُ الطبخَ أصلاً للأسرة (وائل أبو هندي,2002 ).
وأختارُ هنا من تراثنا العربي الإسلامي فهنا مثالان مما ذكرهُ عبد الوهاب الشعراني (عبد الوهاب الشعراني , 1976) في المنن الكبرى كأمثلةٍ على الموسوسين:
1- "وقد رأيتُ من ذهبَ أيام النيل إلى بركةٍ خارجَ القاهرة ليطهرَ ثيابهُ؛ فما زال يغسلها ويجففها إلى آخر النهار، ثم ضمَّ ثيابهُ، ولبسَ بعضَها ثم شكَّ في بعضها، ثم شك في أنه هل غسلها؟ أم لا؟ وكان قد مر على صيادي السمك في طريقه إلى البركة، فلما رجعَ قالَ لهم: هل رأيتموني مررتُ عليكم بكرةَ النهار ومعي ثيابي؟ فقالوا لهُ: ما رأيناكَ، فقال: إذن أنا ما ذهبتُ إلى البركةِ، ثم ذهبَ من بكرةِ النهار إلى البركةِ ثانيًا!".
2- وَشهدتُ أنا بعينيَّ موسوسًا دخلَ ميضَأةً ليتوضأ قبل الفجر من ليلة الجمعة فلا زال يتوضأ للصبح حتى طلعت الشمسُ، ثم جاءَ إلى باب المسجد فوقفَ ساعةً يتفكر، ثم رجعَ إلى الميضأةِ، فلا زال يتوضأ ويكررُ غسلَ العضو إلى الغاية، وينسى الغسل الأول، ولم يزل حتى خطبَ الخطيبُ الخطبةَ الأولى، ثم جاءَ إلى باب المسجد فوقفَ ساعةً ورجعَ، فلا زالَ يتوضأ حتى سلمَ الإمامُ من صلاة الجمعة، وأنا أنظرُ من شُبَّاكِ المسجد، ففاته صلاةُ الصبح والجمعة!.
ومن أحاديث سيد الخلق عليه أفضلُ الصلاة والسلام ما تعرض فيه للأفعال القهرية وقدم أيضًا فيها الكيفية التي يجب أن يتصرفَ المسلمُ على أساسها فإن كان مصدرها الشيطانُ فإن الاستعاذة بالله منه تكفي لطرده وإن لم يخنس رغم الاستعاذة فهوَ اضطراب الوسواس القهري، ولو كانت الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم تكفي وحدها للخلاص من كل أنواع الوساوس والأفعال القهرية لكان اكتفى سيد الخلق عليه الصلاة والسلام بأمرنا بها في كل أحاديثه التي تناولت الموضوع لكنهُ عليه الصلاة والسلام أرشد إلى العديد من آليات صرف الانتباه ووقف الأفكار ومقاومة الأفعال القهرية وهذا أساس العلاج السلوكي:
* عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً فأشكل عليه: أخرج منه شيء أم لا؟ فلا يخرجنَّ من المسجد حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً" "صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم"، رواهُ مسلمُ في صحيحه.
* عن عبد الله بن زيد -رضي الله عنه- قال: شُكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، قال"لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً" "صدق صلى الله عليه وسلم" رواهُ البخاري ومسلم في صحيحيهما.
* عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الشيطان يأتي أحدكم وهو في الصلاة فيأخذ بشعرة من دبره فيمدها فيرى أنه قد أحدث فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً" "صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم" رواهُ الإمامُ أحمد في مسنده، وفي لفظ أبي داوود "إذا أتى الشيطان أحدكم فقال له: إنك قد أحدثت، فليقل له: كذبت إلا ما وجد ريحاً بأنفه أو سمع صوتاً بأذنه" "صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم" رواهُ أبو داوود.
* عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن للوضوء شيطاناً يقال له ولهان، فاتقوا وسواس الماء" "صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم" أخرجهُ الترمذي.
وهناك أحاديث نبويةٌ شريفةٌ تخبر عن إمكانية حدوثِ الإسراف من المسلم في الوضوء لكنها لم توضح سببَ حدوثه هل هو وسواس أم تشدد وهو إلى التشدد أقرب كما يتضحُ من الأحاديث الشريفة التالية:
* عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء" "صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم" رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه بسند صحيح.
* وأما الحديثُ التالي ففيه نهيٌّ صريحٌ عن الزيادة عن غسل العضو أكثر من ثلاث أثناء الوضوء، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: جاء أعرابي إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم يسأله عن الوضوء فأراه ثلاثًا ثلاثًا وقال: هذا الوضوء فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم "صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم"، رواه أحمد والنسائي وابن ماجه، وأخرجه أيضًا أبو داود وابن خزيمة.
* كما روى الحاكم في الكنى وابن عساكر عن الزهري مرسلا "قيل: يا رسول الله وفي الوضوء إسراف؟ قالصلى الله عليه وسلم: "نعم وفي كل شيء إسراف" صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويقولُ الإمامُ الغزالي في إحياءِ علوم الدين (أبو حامد الغزالي، 1998) متحدثًا عن الشك في نية الصلاة وتكرار تكبيرة الإحرام في الموسوسين: "وإن تم تكبيرةَ الإحرام فيكونُ في قلبه بعضُ التردد في صحة نيته، ويغترونَ بذلك ويظنونَ أنهم إذا أتعبوا أنفسهم في تصحيح النية، وتميزوا عن العامة بهذا الجهد والاحتياط فهم على خيرٍ عند ربهم"، كما أشارَ الغزالي إلى الوسوسة في التطهر وما يفعلهُ الموسوسون بعد التبول من سلتٍ أو نثر أو نحنحةٍ أو قفز أو غير ذلك مما لم يصح فيه نص، وقد شكا إلى الإمام أحمد بعضُ أصحابه أنهُ يجدُ البلل بعد الوضوءِ، فأمرهُ أن ينضحَ فرجهُ إذا بالَ وقالَ: ولا تجعلْ ذلكَ من هِمَّتِكَ والهُ عنه.
ومن الأفعال القهرية أيضًا ما نستطيع تسميته بالأفعال القهرية التجنبية Avoidance Compulsions، كأن يتجنب المرء زيارة المريض أو المستشفيات خوفا من العدوى، أو يتجنب الخروج إذا رأى قطة سوداء في الحلم، وهناك منها أيضًا ما اعتدت تسميته مع مرضاي بالأفعال القهرية الاستباقية والتي تظهر بأشكال عديدة قد أفصلها في مقالٍ تالٍ ربما ولكنها تعني أن المريض يفعل إجراءاتٍ احترازية ليحمي نفسه من تسلط حدثٍ عقلي ما، ولعل الأمثلة التالية من على استشارات مجانين تقول ما لم أقله بعد فاقرؤوا: م وسواس قهري ومباشرةً/ وساوس واكتئاب: تحققٌ واجترار وتكرار/ ابنتي والوسواس القهري/ وسواس المرض: التطير وخوف الموت م/ وسواس النظر وحدود الذات
المراجع العلمية:
(1) وائل أبو هندي (2002): الوسواس القهري بين الدين والطب النفسي، دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع ، ص 3 إلى 13.
(2) عبد الوهاب الشعراني (1976) : لطائفُ المنن والأخلاق في وجوب التحدث بنعمة الله على الإطلاق المعروف بالمنن الكبرى ، الطبعةُ الثانيةُ ، تقديم الإمام الأكبر الدكتور/ عبد الحليم محمود شيخُ الأزهر ، القاهرة ، عالم الفكر بميدان الحسين من صفحة 558 إلى صفحة 563.
(3) أبو حامد الغزالي (1998) : إحياء علوم الدين ، كتاب شرح عجائب القلب ، دار الكتب العلمية ، منشورات محمد على بيضون ، بيروت لبنان الطبعة الأولى ، الجزء الثالث ، من صفحة 25 إلى صفحة 40.
ويتبع>>>>>: معنى الفعل القهري مشاركة