إذا سألتَ متى وردَ ذكرُ الوسواس القهري لأول مرةٍ في الطب النفسي؟ يجيبُـكَ المرجعُ الغربي الكبيرُ (الإنترنت والكتب والمراجع الطبنفسية والدوريات العلمية بكل اللغات وكل أساتذة الطب النفسي وأساتذة علم النفس نعم هذا هو المرجعُ الغربي الكبيرُ الذي قصدته) بأنهُ الألمانيُّ كارل فيستيفال Carl Westphal سنةَ 1878؛ وإذا كان المعجم الموسوعي في علم النفس (وجيه أسعد، 2001) يُرجعُ الفضل في إدخال مصطلح الوسواس إلى الطب النفسي لأول مرةٍ في التاريخ إلى ج. فالْره (1866) في دراسته: "الهذيان المزمن المنظم ذي الآلية التفسيرية" Folie Reisonnante على أساس أن فيستفال استخدم لفظًا ألمانيا يعني الامتثال القاسر Zwangsvorstellung ، فلعل تفسير ذلك الاختلاف هو أن الكلام الفرانكفوني مختلفٌ بعض الشيء عن الكلام الإنجليزي والأمريكي.
فإذا بحثتَ في التاريخِ الذي يقدمه المرجعُ الغربي الكبيرُ نفسه تجدُ من يحكي لكَ عن الفراعنة (سليم حسن،1992) حكاية الكاهن المصري القديم حقا نخت الذي كان يكتبُ رسائل لابنه يعدُّ ويحصرُ فيها كل شيءٍ حتى حبات القمح وحبات الشعير التي تنتجها حقولهُ وتجدُ من يحكي لكَ عن السيدة ماكبث بطلة مسرحية شكسيبير من القرن السابع عشر حيث كانت تعاني من بعض الأفعال القهرية (Jenike ، 1998) وكأن أحداثًا لم تقع ما بينَ زمان الفراعنة وبين زمان شكسبير ثم يحكون لك عن إيسكرول (Esquirol، 1838) ثم عن موريل Moorel عام 1861 الذي كان أول من سمى المرضَ في الغرب باسمه الحالى: أوبزيشان Obsession ثم إيبنج عام 1867 وجريسنجر عام1870 ويليه بعد ذلك كارل فيستفال الذي يعتبرُ أول من وصفَ المرضَ بدقةٍ على أنه من اضطرابات التفكير وليس المشاعر كما كانَ يظنُّ إيبنج وغيرهُ (Laughlin ،1967) و(Asberg ، 1991)؛ ومعنى ذلك أن الغربيين يرون أنه لم يكن هناكَ طوال فترة الحضارة الإسلامية من تكلم في الوسواس؛ فمع أن عمرَ الوسواس القهري ربما يكونُ في طول عمر الكائن البشري منذ ظهر على وجه الأرض (Lewis ،1936) إلا أن المسلمين حسبَ التأريخ الغربي لم يتكلموا عنه!
ولا أدري في الحقيقة هل ذلك جهلٌ من الغربيين أم هو أمرٌ متعمد؟ لكنني سأعرضُ خلال هذه النظرة العامة بعض القليل من الكثير من تراثنا العربي في الوسواس لعلني أبينُ جزءًا من الحقائق الغائبة؛ فالطب النفسي لم يبدأ خلال فترة الحضارة الغربية على أساس أنه أحد إفرازاتها ومن يقرأ للغزالي أو لأبي زيد البلخي أو لابن القيم أو للشعراني أو لابن قدامةَ الذي كتبَ رسالةً في ذم الموسوسين، سيعرف أن للإسلام وللمسلمين باعٌ طويلٌ في علم النفس وفي الطب النفسي والعلاج النفسي السلوكي والمعرفي، ولقد كتب عدد من العلماء في الوسواس مثل الإمام الجويني في كتابه (التبصرة في الوسوسة) والإمام النووي في (المجموع شرح المهذب) وأبو حامد الغزالي في كتابه (إحياء علوم الدين) والإمام ابن الجوزي في كتابه (تلبيس إبليس) وكذلك الإمام ابن القيم في كتابه (إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان).
وإذا كانَ علماءُ المسلمين الأوائل قد ردُّوا معظم حالات الوسواس القهري إلى الشيطان وربطوه بالدين فإننا إذا أردْنا أن نُحِقَّ الحقَّ فإنَّ استعداد البشر جميعًـا لاعتبار الوسواس القهري متعلِّقًـا بالدين واضحٌ في تاريخ الفكر الإنساني الخاص بالطب النفسي على اختلافِ الثقافات شرقيَّـةً وغربيةً، فمن يبحثُ في تاريخ مفهوم الوسواس القهري يَجِـدُ عند العرب من علماء المسلمينَ منْ يردُّهُ إلى الشيطان أو إلى الجنون فهوَ "يحدث بسبب نقص في غريزة العقل أو جهل بمسالك الشريعة" كما يقول الإمامُ الجويني في (التبصرة في الوسوسة)؛ ولكنَّ الإنجليزَ بعْـدَ ذلكَ "منذُ ثلاثمائة عامٍ فقطْ "ردوهُ في شروحِـهِمْ التاريخية لأسبابٍ ونواح دينيةٍ كالإحساس بالذنب مثلاً وَتكلموا عن علاقته بالميلانكولي أو الاكتئاب الشديد؛ بينما اهتم الفرنسيون في شروحهم التاريخية "منذُ ثلاثمائة عامٍ فقطْ أيضًا" بأهمية فقدان الإرادة عند المريض الموسوس وَعلاقة الوسوسة بالشك وَكلاهما مرتبطانِ بالدين بنحوٍ أو بآخر؛ أما الألمانُ" منذُ ثلاثمائة عام فقطْ أيضا" فقدِ اهتموا بلا منطقية الأفكار التسَلُّـطِيَّـةِ والأفعال القهرية وربطوا الوسوسة بالجنون؛ أقصدُ من ذلك أن الربط بينَ الوسوسة والدين أو بينَ الوسوسة وَنقص في غريزة العقل ليسَ بدعةً فينا وإنما هو اتجاهٌ ممكنٌ للفكر الإنساني كنا أول من سار فيه ولم يسر أحدٌ فيه بعدنا إلا من قرابة الثلاثمائة عام فقطْ (وائل أبو هندي، 2003).
كتبت هذا الكلام في كتابي الوسواس القهري من منظور عربي إسلامي، وكان بحث أخي وزميلي د. مصطفى السعدني عن تاريخ اضطراب الوسواس القهري بمنطقة الشرق الأوسط (مصطفى السعدني، 2002) واحدا من أهم أدلتي في البحث في تراثنا العربي الإسلامي، وأحمد الله الذي أنعم على مجانين بوعد من أخي الدكتور مصطفى السعدني بنشره مزيدًا ومنقحا في باب نطاق الوسواس القهري على مجانين.
إلا أنني بعد ثلاثة أعوام من العمل مع مرضى اضطرابات نطاق الوسواس القهري أجد أن كثيرا مما ذكره علماؤنا المسلمون الأوائل صالح ما يزال بل هو أصلح للتطبيق والتفعيل في ثقافتنا التي نعيش، وأرى أن البحث في تراثنا ما يزال واجبا وإن أصبحت مقتنعا بأن جل ذلك التراث قد فقد مع الأسف، لكننا نحتاج لوضع لبنات العلاج المعرفي الإسلامي الحديث أن ننطلق من نقطة الوسواس القهري تحديدا ربما تفاؤلا وربما لأن نطاق الوسواس القهري في الفهم الغربي الحديث ما يزال يتسع حتى يكاد يشمل جلَّ الاضطرابات النفسية بشكل أو بآخر ولعل السنوات القادمة من البحث العلمي عامة وبحثنا نحنُ خاصة في تفاعله مع التراث لعل عدة سنوات تبين أكثر فأكثر أنّ....... وأنّ....، انتظروا بحث الدكتور مصطفى السعدني............. وقد تكون للحديث بقية إن شاء الله.
المراجع:
1- وجيه أسعد (2001) : ترجمة المعجم الموسوعي في علم النفس، منشورات وزارة الثقافة السورية، دمشق.
2- سليم حسن (1992): تاريخ مصر القديمة، الجزء الثالث؛ الدولة الوسطى. القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب.ص: 112 – 122.
3- وائل أبو هندي (2003): الوسواس القهري من منظور عربي إسلامي، عالم المعرفة إصدار يونيو 2003 عدد 293.
4- مصطفى السعدني (2002): تاريخ اضطراب الوسواس القهري بمنطقة الشرق الأوسط، بحث مقبول للنشر في مجلة كلية الآداب، جامعة الإسكندرية2002، وينتظر النشر منقحا ومزيدا على مجانين 2006/2007 إن شاء الله.
5- Jenike، M. A. (1998): an overview of Obsessive Compulsive Disorder. In: Jenike، M. A.، Baer، l.، Minichiello، W. (Ed) OCD practical management. (pp. 3-11) St Louis. Mosby. 3rd edition.
6- Esquirol، E. (1838) : Des Maladies Mentables. Paris. France. Baillier.”Quoted from : Asberg ، M. (1991)”
7- Laughlin ، H. P. (1967) : The Obsessive Compulsive reactions ، In : the neuroses (pp 307-375). Washington : Butterworths.
8- Asberg ، M. (1991) : Introduction : Obsessive Compulsive Disorder. In: Jenike ، M. A. ، Asberg ، M (Ed) Understanding Obsessive Compulsive Disorder (pp.11-16) Toronto : Hans Huber Publishers.
9- Lewis ، A. J. (1936) : Problems of Obsessional Illness. Proceedings of the Royal Society of Medicine ، 29، 325-336.”Quoted from Asberg ، M. (1991)”