تاريخ اضطراب الوسواس القهري (2)
وفي خلال فترة القرون الوسطى -عصور الظلام في أوربا- ظهر عدد من علماء الدين الذين اهتموا بدراسة اضطراب الوسواس القهري ومحاولة تقسيمه إلى أنواع في العالم الإسلامي قديما وحديثا. ومن هؤلاء العلماء:
الإمام الجويني وكتاب التبصرة:
ننتقل بعد ذلك إلى أحد أئمة عصره في الفقه وهو الإمام أبي عبد الله بن يوسف بن عبد الله الجويني الشافعي النيسابوري والمتوفى سنة 438 هجرية 998 م-1046 م، وقد ألف كتابا فقهيا يهدف إلى عدم التجاوز والتشدد في الأحكام الفقهية؛ وذلك حتى لا يصل المسلم إلى حد الوسوسة والأفعال القهرية عند قيامه بأداء العبادات المكلف بها، وهو من الكتب التي يصل عدد صفحاتها إلى المائة من القطع المتوسط، ولقد تم تحقيق هذا المخطوط من الباحث محمد بن عبد العزيز بن عبد الله السديس وتحت إشراف الدكتور علي بن عبد الرحمن الحذيفي كرسالة دكتوراة من الباحث، والمخطوط هو نسخة وحيدة مصورة بالميكروفيلم وموجود بمكتبة الملك عبد العزيز بالمدينة المنورة –على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم– وذلك بعد نقلها من مكتبة المسجد النبوي الشريف، وعنوان الكتاب الطويل يشير بالفعل إلى محتواه وهو:
"التبصرة في ترتيب أبواب للتمييز بين الاحتياط والوسوسة على مذهب الإمام الشافعي"، ولقد تولت مؤسسة قرطبة نشر هذا الكنز الفقهي في عام 1993 من الميلاد، ومن دوافع مؤلف المخطوط إلى تأليفه هو ما لاحظه من انتشار الوسواس القهري بين عدد من معاصريه فيقول: "ولقد رأيت منهم من يكرر في تكبيرة الإحرام حتى يشرف وقت الصلاة المكتوبة على الانتهاء، أو تفوته الجمعة مع الإمام أو ركعة منها. فإذا كبر زلزل المسجد بتكبيره، وإذا تبرز لأداء حاجته أرسل خادمه لجمع الأحجار له (للاستنجاء) فيعد منه شيئاً كثيراً، وإذا تعاطي الماء أسرف وأراق منه قلة......................... أو قلالا، وعاشرت منهم من لم يطعم شيئاً إلا ويغسله، وما رأيت منهم أحداً تعتريه هذه الوسوسة في العبادات المالية!!!، فيثني زكاة ماله لخلل في نيته، أو يترك شركة لشبهة، أو يتوقى ما يجب عليه أن يتوقاه من خفيات الشبهات في المكاسب والمعاملات".
والإمام الجويني هنا يتحدث عن اضطراب الشخصية القهرية ويصف فيها صاحب هذه الشخصية بتحري الدقة مع البطء في الإنجاز والإسراف في التطهر والنظافة من البول والغائط وفي الاغتسال، وهو مع ذلك شديد الحرص في الشئون المالية؛ فمن النادر أن تجد موسوساً يضاعف في مقدار ما يجب عليه إنفاقه من أموال الزكاة أو يشغل ذهنه بوساوس عن الفوائد البنكية أو التأمين أو المضاربة في البورصة مثلاً؛ وهذه لفتة ذكية من مؤلف هذا الكتاب، والتي لم ألحظها إلا قريباً؛ فعلى مدى أكثر من 17 عاماً من عملي مع بعض المرضى الموسوسين، حيث التقيت في تلك الأعوام بالمئات منهم كطبيب معالج لهم إلا أنني لا أذكر إلا مريضةً واحدةً كان وسواسها المالي هو غسيل النقود قبل استخدامها للتأكد من نظافتها وخلوها من الجراثيم!!!، فانشغال الموسوس بالمال ومصدره وشكله وطريقة إنفاقه أو استثماره يُعد من الوساوس النادرة.
أما متن الكتاب فيشتمل على أبواب وفصول ومسائل فقهية تذكر دائما الحد الفاصل بين الحلال وبين التشدد والتجاوز إلى الوسوسة والأفعال القهرية، وذلك بالطبع على المذهب الفقهي لمؤلف الكتاب وهو المذهب الشافعي. وأهم أبواب الكتاب هي الإيمان والماء وأنواعه والطهارة بالوضوء والاغتسال والتيمم، وأحكام الحجامة والفصد، ثم مسببات النجاسات وأحكامها وأحكام الصلاة والمأكل.
ولقد قرظ الإمام النووي صاحب كتاب رياض الصالحين هذا الكتاب ومؤلفه فقال: "وهو كتاب نافع كثير النفائس، ونقلا منه ذكر الإمام النووي: "وهناك من الموسوسين من يغسل فمه بالماء بعد أكل الخبز خوفا من النجاسة لأن الخيل والحمير قد تبول وتروث على الحنطة أثناء تحضير الدقيق من درس وطحن لنبات القمح، وهذه مغالاة ووسوسة نهى عنها السلف، وقد ذكرها أبو عبد الله بن يوسف الجويني في كتابه: التبصرة في ترتيب أبواب للتمييز بين الاحتياط والوسوسة".
ومن طريف ما ذكره ابن حزم الأندلسي (994م – 1064م ) (384 – 456 هجرية) إمام أهل المذهب الظاهري - في المحلى: "ومن طريف ما يُذكر عن الوسواس احتجاج ابن بكير المالكي في أن ليلة القدر هي السابعة والعشرين لقوله تعالى: (سلام هي)، فلفظة هي: هي السابعة والعشرون من سورة القدر.
قال أبو محمد بن حزم: حق من قام هذا في دماغه أن يعاني بما يعاني به سكان المارستان (يقصد أنه مضطرب عقلياً)، نعوذ بالله من البلاء ولو لم يكن له من هذا أكثر من دعواه أنه وقف على ما غاب من ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينس من علم الغيب ما أنساه الله نبيه عليه الصلاة والسلام؛ ومن بلغ هذا الحد فجزاؤه أن يخذله الله تعالى مثل هذا الخذلان العاجل، ثم في الآخرة أشد تنكيلا!.
ونرى هنا ابن حزم حريصاً على اتباع الكتاب والسنة بنصيهما، ويرفض دائما القياس والتأويل، ولذا يرفض قول ابن بكير المالكي ويتهكم عليه، متهماً إياه بالوسوسة؛ لأن ابن بكير يعد حروف وكلمات الآيات بالحرف والكلمة، ثم يستنبط رأياً أو وجهة نظر بناءاً على ذلك، وابن حزم يرفض هذه الطريقة في مذهبه الظاهري، والذي يعتمد على صريح وصحيح النص فقط من الكتاب والسنة.
وأذكر هنا أيضاً وعلى سبيل الذكر والمثال لا الحصر الإمام أبا حامد الغزالي(1058- 1111م) الموافق (450 –505هجرية) في كتابه الشهير "إحياء علوم الدين" حيث اعتبر هذا الاضطراب من أمراض القلوب وذكر من أنواعه وتقاسيمه:
1- أن يكون من جهة التلبيس بالحق بمعنى أن الشيطان يزين للإنسان الباطل ويصرفه عن الحق.
2- أن يكون الوسواس بتحريك الشهوة وهيجانها.
3- أن يكون الوسواس هو مجرد الخواطر وتذكر الأحوال الغالبة لأوقات طويلة.
وقد ذكر الإمام الغزالي بعض الأذكار مقرونة ببعض أساليب العلاج السلوكي المعرفي الحديث لدفع الأفكار ومنع الاستجابة للوساوس والأفعال القهرية (أبو حامد الغزالي، 1998،ج3، ص ص42-25)، وفي خلال هذه الفترة قام شيخ الإسلام موفق الدين ابن قدامة المقدسي (451 هـ - 530 هـ) بكتابة رسالة عن "ذم الموسوسين " تقع في ستة فصول:-
* الأول عن النية في الطهارة والصلاة.
* الثاني عن إعادة ترديد كلمات من الفاتحة أو التشهد أو التكبير.
* الثالث عن الإسراف في ماء الوضوء والغسل.
* الرابع في الزيادات عن الغسلات الثلاث.
* الخامس في الوسوسة في انتقاض الوضوء بخروج خارج من الشخص.
* السادس في أشياء سهل الشرع فيها وشدد هؤلاء الموسوسين فيها. (ابن قدامة المقدسي، 1988 ، ص ص 30-1)
ولا بد هنا أن نذكر أن ما ذكره ابن قدامة عن أعراض الوسواس القهري لدى بعض الناس لم يُذكر في كتب أهل الغرب إلا مؤخرا؛ مثل ما كتب في الدوريات العلمية عن التغسيل القهري("Compulsive Washing" Steketee et al., 1985) وعن وساوس الأمعاء ("Bowel Obsession" (Kahne &Wray, 1989) (Jenike et al., 1987) والوساوس والأفعال القهرية الدينية “Religious Obsessions & Compulsions” بصفة عامة (Lewis & Josef, 1994) وهي بالمناسبة من أشهر الوساوس والأفعال القهرية للمرضى في منطقة الشرق الأوسط ( أحمد عكاشة،1988 ،،ص ص 107- 126 ) (Okasha, 1970;1977;1994)
ومن طريف ما كتبه القرطبي (1093م- 1171م) (486 – 567 هجرية) في تفسيره "جامع الأحكام" في قوله تعالى: "فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس" سورة طه الآية 97، عن السامري -الذي جمع الحلي من أتباع موسى عليه السلام وصنع لهم منها عجلاً يُصدر صوتاً عند مرور الهواء فيه، وكان ذلك سبباً في غوايتهم وفتنتهم– فَاذْهَبْ أي قال موسى للسامري فاذهب أي من بيننا فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ أي لا أمس ولا أمس طول الحياة. فنفاه موسى عن قومه وأمر بني إسرائيل ألا يخالطوه ولا يقربوه ولا يكلموه عقوبة له.
قال الشاعر: تميم كرهط السامري وقوله ألا لا يريد السامري مساسا قال الحسن جعل الله عقوبة السامري ألا يماس الناس ولا يماسوه عقوبة له ولمن كان منه إلى يوم القيامة; وكأن الله عز وجل شدد عليه المحنة, بأن جعله لا يماس أحدا ولا يمكن من أن يمسه أحد, وجعل ذلك عقوبة له في الدنيا. ويُقال: ابتلي بالوسواس وأصل الوسواس من ذلك الوقت. وقال قتادة: بقاياهم إلى اليوم يقولون ذلك -لا مساس- وإن مس واحد من غيرهم أحدا منهم استحم (تروش) كلاهما على الفور. ويقال: إن موسى هم بقتل السامري, فقال الله تعالى له: لا تقتله فإنه سخي. ويقال لما قال له موسى: "فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس" خاف فهرب فجعل يهيم في البرية مع السباع والوحوش. وهذه الآية أصل في نفي أهل البدع والمعاصي وهجرانهم وألا يُخالطوا, وقد فعل النبي صلي الله عليه وسلم ذلك بكعب بن مالك والثلاثة الذين خلفوا ومن هذا القبيل التغريب في حد الزنا.
المراجع:
1- Steketee, G. S., Grayson, J. B., & Foa, E. B. (1985). Obsessive-compulsive disorder: differences between washers and checkers. Bahviour Research & Therapy, 23, 197-201
2-Jenike, M. A., Vitagliano, H. L., Rabinowitz, J., Goff, D.C., & Baer, L. (1987). Bowel obsessions responsive to tricyclic antidepressants in four patients. American Journal of Psychiatry 144(10) 1347 – 1348.
3- Kahne, G. J., & Wray, R. W. (1989). Clomiproamine for bowel obsession. American Journal of Psychiatry, 146(1) 120-121.
4- Lewis, C. A. & Joseph, S. (1994). Religiosity: Psychoticism and obsessionality in Northern Irish University students. Personality and Individual Differences, 17, 685-687
5- Okasha, A. (1970). Presentation and outcome of obsessional disorders in Egypt. Ain Shams Medical Journal, 21, 367-374.
6- Okasha, A. (1977). Psychiatric symptomatology in Egypt. Mental Health Society, 4(3-4) 121-125
7- Okasha, A., Saad, A., Khalil, A. H., El Dawla, A. S. & Yehia, N. (1994). Phenomenology of obsessive-compulsive disorder: A transcultural study. Comprehensive Psychiatry,
أحمد عكاشة (1988). عصاب الوسواس القهري، الطب النفسي المعاصر، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية126-107.