اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع: الأسباب
ليست هناك طريقة علاج معتمدة لأعراض اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع، وما يحدث في أكثر أحوال الممارسة العملية للطب النفسي هو أن الأعراض تعالج كجزء من الاضطرابات النفسية المصاحبة غالبا كالوسواس والقلق بأنواعه والاكتئاب، وهي الحالة التي يميل فيها الطبيب النفساني إلى اعتبار عرض أو أعراض اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع من النوع الثانوي أي من النوع الذي يعالج كما تعالج أعراض الاضطراب الأصلي، ورغم أن أعراض اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع كثيرا ما تمثل اضطرابا قائما بذاته مواكبا للاضطراب الذي يعتني به الطبيب النفساني أكثر، رغم ذلك فإن تحسن أعراض ذلك الاضطراب المواكب Comorbid Disorder يحسن كثيرا من أعراض اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع، وربما يسجل ذلك في الدراسات تحسنا بينما الحقيقة أن الذي تغير هو قدرة المريض على التعامل مع أعراض اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع بشكل أفضل بسبب تحسن حالته النفسية، أو ربما طريقة تفكيره وتفسيره للأعراض.
ومن المهم هنا أن ننبه زملاءنا الأطباء النفسانيين إلى الأهمية القصوى لمناقشة أعراض اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع مع المريض وشرحها وتوضيحها له أثناء وبعد العلاج سواء منها كاضطراب قائم بذاته أو العلاج من الاضطراب المواكب، وسبب الأهمية هو أن مناقشة المريض كثيرا ما تكون نتيجتها مطمئنة له بسبب خوفه من الأعراض وحسبانه أنها غير معروفة لأحد غيره وهذا مفهوم قابلناه كثيرا أثناء عملنا، وعندما يعرف المريض أن ما يعانيه عرض معروف عند الطبيب النفساني وهناك طرق كثيرة للتعامل معه وهي مفيدة في مجملها على الأقل في جعله أقدر على التعايش منع الأعراض مما يهدئ من حدتها، بل نستطيع القول بأن معرفة المريض بأن هناك مثله كثيرون في حد ذاتها تفيده مثلما يطمئنه أن أحدا منهم لا يصبح مجنونا بعد حين، ومن الواضح هنا أننا نحوم معرفيا حول تقليل وزن الأفكار الناتجة عن الاستغراب الذي يشعر به مريض اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع، وهو ما يساعد كثيرا في التعامل معها معرفيا.
ورغم أننا كتبنا تحت عنوان اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع الأسباب عن التوجهات البيولوجية والنفسية والمعرفية السلوكية في فهم أسباب اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع إلا أن ما يكتشف من إشارات وتقارير من المرضى أثناء محاولات علاج هذا العرض أو علاج غيره في حال وجوده عرضا لاضطراب آخر، إضافة إلى ما يستنتج من الدراسات العلمية التي تحاول بطرقها الكيميائية كشف أسرار التغيرات الكيميائية المخية المصاحبة لأعراض اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع، كل ذلك يعطي إشارات جديرة بالتأمل، ولعل من حصيلة تلك التأملات ينتج عندنا فهم أصلب لطبيعة هذا العرض أو الاضطراب النفسي وكذلك لكيفية إحداث العقّاقير العلاجية تأثيراتها.
عقاقير الم.ا.س.ا وأعراض اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع:
هناك كثيرٌ من الإشارات إلى تورط الناقل السيروتونين في الآلية الكيميائية لاختلال الإنية و/أو تبدل الواقع، فهناك تقارير حالات يحدث اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع لأصحابها عند بداية العلاج بمثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية (م.اس.ا) مثل الفلوكستين (Black & Wojcieszek, 1991) وكذلك عند إيقاف العلاج بالم.ا.س (مثبط استرداد السيروتونين –غير الانتقائي- الكلوميبرامين) (Hollander et al, 1993).
وهناك ما يشير من زاوية أخرى إلى أن حدوث تغيرٍ ما لأول مرة على توازنات السيروتونين في المخ قد يكون مصحوبا بخبرة اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع للمرة الأولى أيضًا في حياة الشخص مثلما بينت دراسة أحدث فيها ناهض السيروتونين الجزئي partial serotonin agonist المسمى إم سي بي بي (metachlorophenylpiperazine ميتاكلورو فينيل ببرازين) أعراض اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع لأول مرة في حياة مجموعة من المتطوعين (Simeon et al, 1995) ، إذن يمكن أن يحدث اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع في بداية العلاج أو نهاية العلاج بالم.اس أو الم.اس.ا، كما يمكن أن يحدث عند استخدام نواهض السيروتونين أي العقاقير التي تزيد من تركيزه في المشابك العصبية بشكل أو بآخر.
هناك أيضًا تقارير حالات متفرقة عن تحسن أعراض اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع بعد العلاج بالم.اس أو الم.اس.ا (Strohle et al, 2000)، وهو ما يزيد الصورة ارتباكا، فنتائج البحث العلمي حتى الآن لا تستطيع إثبات دور معين أو مؤكد لعقاقير الم.ا.س.ا في علاج أعراض اختلال الإنية أو تبدل الواقع، وبرغم ذلك فإن الهيئة الوسواسية التي يبدو بها وهو واقع في فخ الفحص الذاتي المتكرر لذاته أو لإحساسه أو وعيه بها وكذلك للواقع المحيط أو لوعيه به هذه الهيئة تجعل اختيار أحد هذه العقاقير أول ما يطرأ على ذهن الطبيب النفساني.
اللاموتريجين Lamotrigine وأعراض اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع
عقَّار اللاموتريجين هو أحد أدوية علاج الصرْعِ الحديثة وهذه العقَّاقير أصبحت تجرب كمثبتات مزاج في الأمراض النفسية المختلفة، إلا أن لتجريبه في علاج أعراض اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع قصة أخرى منشؤها الطريقة التي يحدث بها اللاموتريجين أثره العلاجي وهي تثبيت أغشية العصبونات (الخلايا العصبية) من خلال تثبيط بعض قنوات الصوديوم والكالسيوم والعمل على قنوات البوتاسيوم أيضًا في غشاء العصبون، وكذلك تثبيط كمية الناقل العصبي الجلوتاميت المفرز من القشرة المخية cortical glutamate ، لهذه الأسباب جُرِّب هذا العقَّار في تخفيف الآثار النفسية والعصبية لعقَّار الكيتامين Ketamine (أحد المهلوسات)، وفي سنة 2000 ميلادية بينت دراسة (Anand et al, 2000) على الأصحاء أن استخدامهم القبلي pretreatment لعقَّار اللاموتريجين يقلل من الآثار النفسية والعصبية لعقَّار الكيتامين عليهم.
ولما كانت خبرة اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع بما فيها من الوعي بالانفصال عن الذات جزئيا أو كليا هي أحد آثار استعمال الكيتامين فقد جرب بعض المعالجين هذا العقار ونشرت بعض الدراسات التي تبينُ أثرا علاجيا للاموتريجين (Sierra et al, 2001) في مرضى اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع المزمنين، إلا أن نتائجها ما تزال دون الوصول على اتفاق (Sierra et al, 2003) فبعد أن بدا العقَّار واعدا في البداية لم تتحقق وعوده فيما بعد (Arehart-Treichel, 2003)، ولا نستطيع بعد الإجابة علميا على كثيرٍ من الأسئلة مثل هل يستخدم وحده أم يضاف إلى عقَّاقير الم.ا.س.ا؟ خاصة وأن عقَّار اللاموتريجين لا يمكن استخدامه دون إشرافٍ طبي ومتابعة دورية لصورة الدم وغير ذلك مما لا يسع المجال لذكره هنا.
الكلونازيبام وأعراض اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع
عقَّار الكلونازيبام هو أحد مضادات القلق والصرع القوية من مجموعة البنزوديازيبين benzodiazepines وهو عقّارٌ يسبب التحمل Tolerance والإدمان Dependence، والحقيقة أنه وغيره من مضادات القلق هم بالتأكيد من أكثر العقَّاقير التي يستخدمها الناس دون وصفة طبية للتعامل مع القلق والشعور بالاستغراب المصاحبين لخبرة اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع على الأقل هم كذلك في المجتمعات التي لا يجد فيها الناس سبيلا للعلاج النفسي الصحيح بسهولة ويسر بينما يمكنهم الوصول إلى صيدلي أو إلى أي بائع عقَّاقير نفسانية التأثير بصورة غير قانونية، برغم ذلك فإن استخدام عقاقير البنزوديازيبين في هذا الاضطراب غير مدروس ولا توجد غير أدبيات متفرقة أشبه بتقارير الحالات، ومن أحدثها تقرير يفيد بتحسن حالة على مزيج من عقّار السيتالوبرام (أحد عقَّاقير الم.ا.س.ا) وعقار الكلونازيبام (Sachdev, 2002) وهناك مجموعة إليكترونية من مرضى اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع يدعمون نفس الخيار أيضًا، لكننا بالطبع لا نحبذه بسبب أضرار إساءة استعماله المذكورة.
وما تزال هناك محاولات لاستخدام مضادات الأفيون antiopioid drugs مثل النالوكسون naloxone والنالتريكسون naltrexone كذلك (2005 ,Medford et al) وإن كانت النتائج الطيبة بعد غير مؤكدة أو مدعمة بالتكرار.
طرق العلاج النفسية Psychological Methods of Treatment :
ربما تنطبق نفس المقولة التي قدمنا بها للكلام عن العقَّاقير المستخدمة في العلاج على طرق العلاج النفسي فنقول: ليست هناك طريقة علاج معتمدة لأعراض اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع وإنما أفرزت كل مدرسة علاجية بعض المحاولات، واختلط الأمر بين مرضى النوع الأولي Primary والنوع الثانوي Secondary من اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع فكانت هناك تقارير علاج ناجح بالتحليل النفسي Psychoanalysis وأخرى بالعلاج السلوكي Behavior Therapy وغيره، إلا أن الطريقة التي تبدو أنجح الآن هي استخدام العلاج المعرفي السلوكي (2005 ,Medford et al) والذي يقوم على محاولة تغيير تفسير المريض للأعراض وإقناعه بأنها غير منذرة بسوءٍ وغير مستحيلة التجاهل إضافة إلى تعديل سلوكيات الاستبطان الوسواسي Obsessive Introspection أو الفحص المتكرر للذات أو الجسد، والاستعانة ربما ببعض تقنيات وتمارين الاسترخاء Relaxation Training وغير ذلك، ونرى أن الجمع بين طرق العلاج بالعقَّاقير والعلاج المعرفي السلوكي يعطي أفضل النتائج مع مراعاة أهمية مناسبة الخطة العلاجية والخيارات العقَّارية لكل حالة على حدة.
وأيا كانت نوعية العلاج النفسي التي سيستخدمها المعالج فإن من أهم خطوات العلاج خطوة مبدئية هي بناء الثقة Establishment of Trust بين المريض والمعالج ومما يجعل ذلك سهلا أن يكتشف المريض قدرة هذا الطبيب بالذات على فهم أعراضه ومعرفته بأن آخرين مثله عانوا أو يعانون من نفس أعراضه وأن التحسن ممكن، وأما الخطوة الثانية فهي إحسان أخذ التاريخ المرضي وعدم التخاذل في دراسة تفاصيله بمجرد الوصول إلى التشخيص، وبعد ذلك يأتي دور دراسة العوامل الحياتية المصاحبة لمعاناة المريض كالكروب البيئية أو الأسرية أو المهنية أو المجتمعية، ومنها يحاول المعالج النفساني ذي التوجه المعرفي السلوكي أن يوضح لمريضه كيف تساعد مثل هذه الكروب وطرق التعامل معها معرفيا على إبقاء القلق مستمرا، بينما سيمضي المعالج ذي التوجه التحليلي وقتا أطول محللا ومفسرا ومحاولا الوصول بمريضه إلى الاستبصار بما يحدث.
وأما المعالج السلوكي المعرفي فيصل بعد ذلك إلى دراسة كل عرضٍ من أعراض اختلال الإنية و/أو تبدل الواقع ومدى أهميته وتأثيره على حياة المريض Symptom Significance ، وهل الأثر الناتج في حياة المريض ينتج من العرض نفسه أو من تفسير المريض له؟ خاصة حين يكون التفسير من النوع المسمى بالتفسير الكارثي catastrophic attribution وهو ما يؤدي بالمريض إلى أفكار وسلوكيات يمكن جدا أن تزيد من سخافة وصعوبة الأعراض وتعزيزها واستمرارها بالتالي، ثم يقوم المعالج المعرفي بعد ذلك بإعطاء قيمة العرض المستهدف قدرته الحقيقية على الإعاقة ووزنه الحقيقي وأهميته الواقعية وتكون النتيجة المنطقية هي أن قيمة العرض أقل كثيرا مما يعتبرها المريض ويسمى ذلك تقليل أهمية العرض Reduction of Symptom Significance ، وكثيرا ما يفلح إهمال العرض والكف عن الاستبطان أو الفحص الوسواسي للوجدان أو الذات أو الجسد في التخفيف من وطأة المعاناة إن لم يفلح في إيصال المريض إلى الشفاء.
المراجع:
1- Black, D. W. & Wojcieszek, J. (1991): Depersonalization syndrome induced by fluoxetine. Psychosomatics, 32, 468– 469-
2- Hollander, E., Liebowitz, M. R., DeCaria, C., et al (1990): Treatment of depersonalization with serotonin reuptake blockers. Journal of Clinical Psychopharmacology, 10, 200–203-
3- Simeon, D., Hollander, E., Stein, D. J., et al (1995): Induction of depersonalization by the serotonin agonist meta-chlorophenylpiperazine. Psychiatry Research, 58,161–164-
4- Strohle, A., Kumpfel, T. & Sonntag, A. (2000): Paroxetine for depersonalization associated with multiple sclerosis. American Journal of Psychiatry, 157, 150-
5- Sierra, M., Phillips, M. L., Lambert, M. V., et al (2001): Lamotrigine in the treatment of depersonalization disorder. Journal of Clinical Psychiatry, 62, 826–827-
6- Sierra, M., Phillips, M. L., Ivin, G., et al (2003): A placebocontrolled crossover trial of lamotrigine in depersonalization disorder. Journal of Psychopharmacology, 17, 103-105-
7- Arehart-Treichel, J. (2003): Depersonalization Again Finds Psychiatric Spotlight. Psychiatric News August 15, 2003, Volume 38 Number 16-
8- Sachdev, P. (2002) Citalopram–Clonazepam combination for primary depersonalization disorder: a case report. Australia and New Zealand Journal of Psychiatry, 36, 424–425-
9- Medford, N., Sierra, M., Baker, D. & David, A.S. (2005): Understanding and treating depersonalisation disorder. Advances in Psychiatric Treatment (2005), vol. 11, 92–100