القرف أو الاشمئزاز في الموسوسين مقدمة
انفعال القرف أو الاشمئزاز هو أحد الانفعالات الأساسية في بني البشر وهناك أشياء مثل البراز والبول والصراصير والفئران تستثير ذلك الانفعال عند معظم الناس، وسلوكيا يأخذ هذا الانفعال شكل الابتعاد عن أو التحاشي لشيء أو موقف ما، وهناك تعبير جسدي يكاد يكون مشتركا بين الناس على مستوى العالم حيث تتباطأ ضربات القلب ويظهر تعبيرٌ وجهيٌّ -مشترك أيضًا- فنجعد أنوفنا لتفادي الرائحة ونفتح أفواهنا قليلا كأن سنتقيأ.... رغم أن الشيء قد يكون غير ذي رائحة! وليس رد الفعل المَعِدِيِّ يصل إلى حد القيء بأغلب الناس.... ويمكن بالطبع تخيل مستويات مختلفة من الاستجابة للشيء المقرف......... فهناك من الناس من يكتفون بإبداء انفعال القرف وتعبير الوجه المناسب، وهناك من يزيدون بالابتعاد عن مثير القرف.... وهناك من يغضبون إضافة إلى قرفهم... وهناك من تفلت منهم الأمور فيتقيئون أو يغشى عليهم!....... وهناك من يعتبر تعرضهم لمثير القرف ضغطة على زناد الاندفاع في سلسلة من أفعال التنظيف القهرية بعد التعرض... وربما لسلسة من الأفعال القهرية الاستباقية أو أفعال التجنب أو التحاشي القهرية Avoidance Compulsions منعا لأي تعرض مستقبلي أو متوقع لمثير القرف مثل عدم زيارة المستشفيات لمن يشعر بالقرف من المرضى أو غير ذلك........
ومن الناحية الفسيولوجية كثيرا ما يصاحب انفعال القرف شعور بالغثيان Nausea وزيادة في إفراز اللعاب Salivation... ويُظهر الجهاز العصبي المستقل في حالة القرف استجابة لاودية Parasympathetic Response (نشاط أعلى للفرع اللاودي للجهاز العصبي المستقل ANS autonomic nervous system) قد تكون شديدة أو ضعيفة، بينما يظهر استجابة ودية Sympathetic Response أعلى في حالة الخوف أو الغضب (نشاط أعلى للفرع الودي للجهاز العصبي المستقل)، والحقيقة أن انفعال القرف Disgust Emotion ليس انفعالا معزولا فعادة ما يكون مصحوبا بانفعال آخر أو أكثر كالخوف و/أو الغضب و/أو الحزن... أي أن التغيرات الفسيولوجية المصاحبة لانفعال القرف تشمل خليطا من نشاط فرعي الجهاز العصبي المستقل.
ولعل أحد التساؤلات المهمة هو إلى أي حد تعتبر استجابة القرف هذه موروثة عن أسلافنا؟ وإلى أي حد هي مكتسبة متعلمة؟ البراز مثلا ليس مثيرا للقرف في الأطفال حديثي الولادة وربما حتى سن السنتين! وقد كان رأي سيجموند فرويد هو أن الأبوين يعلمان الطفل القرف من البراز أثناء التدريب على المرحاض، وذلك ضمن ما يقوم به المجتمع من آليات لضمان التحكم في غرائزنا الأساسية..... ومن الواضح أن استجابة القرف ليست بهذه البساطة، فالطفل حديث الولادة حين يتذوق شيئا مرا أو لاذعا مثلا يُظهر وجهه تغيرات تشبه تعبير القرف عند الكبار، وهذا هو الانفعال في شكله النقي المرتبط بفعل منعكس يهدف إلى الحماية مما هو في أغلب الأحيان طعام أو شراب ضار.. وعندما يكبر هذا الطفل فإنه يتعلم الاستجابة بقرف لأشياء عديدة تحددها الأسرة والمجتمع، ومن الواضح أن كلا من الوراثة والبيئة الاجتماعية عاملان فعالان في تشكيل وتوجيه استجابة القرف.
وفيما يتعلق بعلاقة الوسواس القهري بالقرف في أدبيات الطب النفسي وباختصار نقول: أن دراسات علاقة انفعال القرف بالوسواس القهري سارت في مساراتٍ ثلاث الأول هو العلاقة المنطقية بين ما قد يثير القرف أو الاشمئزاز وممارسة أفعال التنظيف أو التجنب القهرية، وأما الثاني فهو وجود خلل في تعلم التعرف على تعبيرات القرف في مرضى اضطراب الوسواس القهري، وأما الثالث فهو فرضية أن هناك أجزاء مشتركة من مناطق المخ المسئولة عن انفعال القرف وتلك التي يصيبها الخلل في مرضى الوسواس القهري، فبدايةً بينت دراسة نشرت في سنة 1984 (Templer, et al., 1984) أن الحساسية للقرف أعلى في نزلاء المستشفيات النفسية منها في عينة موائمة من الجمهور العاديين، كما بينت نفس الدراسة أن الحساسية للقرف تكون أعلى بين المرضى ذوي السمات الوسواسية والعصابية، كما بينت دراسة أحدث وجود ارتباط بين الحساسية المفرطة للقرف وسمات الشخصية القسرية Compulsive Personality وكذلك الشخصية الاعتمادية (Dependent Personality (Quigley, et al., 1996.
وفي سنة 1997 بينت دراسة للقدرة على اكتشاف تعبيرات الوجه أن مرضى الوسواس القهري ومرضي اضطراب توريت Gilles de la Tourette syndrome (العرات) المصحوب بأعراض وسواس قهري مثلهم مثل المصابين بمرض هانتنجتون Huntington's Disease ومن يحملون الاستعداد الوراثي له، كل هؤلاء لديهم نقص ما في القدرة على اكتشاف تعبير القرف في الوجوه (Sprengelmeyer, et al., 1997)، وما يمكن استنتاجه من هذا هو أن لمنطقة النوى القاعدية Basal Ganglia في المخ دورا مهما في انفعال القرف ففي هذه الأمراض الثلاثة يحدث في هذه المنطقة من المخ تغير ما سواء في النشاط الاستقلابي (كما في الوسواس والعرات) أو في حيوية الخلايا العصبية حيث يحدث لها تنكس Degeneration (كما في مرض هانتجتون)، وفي نفس السنة أشار بعض الدارسين إلى فروق بين نوعين من اضطراب الوسواس القهري حيث تربط الأعراض بانفعال ودافع القرف عند من تسود أفعال النظافة والتنظيف القهرية أعراضهم بينما ترتبط الأعراض بالخوف والقلق عند من تسود أفعال التحقق أو التأكد القهرية أعراضهم (Power & Dalgleish, 1997).
إلا أن كون الحالات المرضية الثلاثة (مرض هانتجتون وكلا من الوسواس القهري واضطراب العرات) لا يصاحبها تغيرات بؤرية في الباثولوجيا العصبية Focal Neuropathology للنوى القاعدية، يجعل الدليل المبني على الدراسات السابقة دليلا غير مباشر على علاقة المعالجة المخية لانفعال القرف بالنوى القاعدية... ولهذا أجريت دراسات (Phillips et al., 1997) التصوير الوظيفي للمخ Brain Functional imaging فبينت نتائجها أن هناك باحتين two areas في المخ معنيتين بالمعالجة المخية لتعبيرات القرف في الوجوه Processing Facial Expressions of Disgust وهما: الجزيرة Insula والنوى القاعدية، ومن المهم الإشارة إلى أن الجزيرة تقوم أيضًا بدور محوري في وظيفة التذوق Gustatory Function وهو ما يعيد إلى الذهن وجود علاقة بين التذوق كحاسة وبين القرف كانفعال.
وحديثا أيضًا بينت دراسات التصوير الوظيفي للمخ تشابه الدوائر العصبية المخية Neurocircuitry المرتبطة بالقرف وتلك المرتبطة بالوسواس القهري (Husted et al, 2006)، وتشير كل هذه النتائج والاستنتاجات إلى علاقة قوية بين القرف واضطرابات نطاق الوسواس القهري، وأن سلامة التركيب والوظيفة في الدوائر العصبية في النوى القاعدية مهم في كليهما، وقد بينت دراسة تصوير وظيفي أقدم (Shapira, et al., 2003) أن الاستجابة الجزيرية Insular Response لمثيرات القرف تكون أكبر في مرضى الوسواس القهري مقارنة بغيرهم، حتى أن الباحثين خمنوا في استنتاجهم من الدراسة أن اضطراب الوسواس القهري قد لا يكون أحد اضطرابات القلق Anxiety Disorder وإنما أحد اضطرابات القرف Disgust Disorder؛
وفي دراسة أحدث لنفس المجموعة تمت مقارنة صور التصوير الوظيفي للمخ عند التعرض لصور ملوثات Contamination مثيرة للقرف (مثلا حمام قذر) أو صورٍ لجثث مشوهة Mutilation أو محروقة أو صور مخيفة مقارنة بصور عادية، وأظهرت النتائج أن الاستجابة الجزيرية تحدث مع مثيرات القرف والاشمئزاز ولا تحدث مع مثيرات الخوف، بينما يزيد النشاط في باحة القشرة القفوية الصدغية Occipito-Temporal Cortex في الأحوال الثلاثة وإن كان النشاط أوضح في حالة التعرض لصور التشويه ثم الصور المخيفة ثم الصور المقرفة كما يظهر من الشكل المقابل، وهذه المنطقة من القشرة المخية مسئولة عن المعالجة البصرية للصور ويزيد نشاطها عند التعرض لصور تستثير الانفعالات بشكل عام.
ولما كان الجوهر المعرفي لانفعال القرف هو تقييم شيء ما أو موقف ما كملوثٍ ممكن أو مصدر تلوث هو نفسه الجوهر المعرفي المختل عند مرضى الوسواس القهري الذين تتمحور أعراضهم حول التلوث أو الخوف منه Contamination Fear ، فقد وجدت الدراسات أن الحساسية للقرف Disgust Sensitivity ترتبط طرديا بالوسوسة كما يمكنها التنبؤ بظهور أعراض الخوف من التلوث القهرية، وكذلك فقد بينت استنتاجات دراسة حديثة (Stein, et al.,2006) استخدمت التصوير الطبقي بقذف البوزيترون Positron Emission Tomography Study للمخ أن اضطراب الوسواس القهري قد يكون مصحوبا بخلل في المعالجة المخية لانفعال القرف فبينما نجد استجابة ناقصة عندما تعرض على المرضى صور وجوه تعطي تعبير القرف -فهم لا يدركون تلك التعبيرات جيدا وبالتالي لا يشعرون بالقرف بقدر مناسب-، نجد استجابة مفرطة في الزيادة عند التعرض لمثيرات مخاوفهم من التلوث –فهم يستجيبون بصورة لا مناسبة أو مبالغ فيها-، وقد يكون خلل ما في الجزيرة Insula مسئولا عن ذلك، وما تزال هناك حاجة لدراسات على عينات أكبر لتأكيد النتائج وكذلك لبيان ما إذا كان الخلل المبين في معالجة انفعال القرف أكثر وضوحا في أنواع معينة من اضطراب الوسواس القهري وإذا ما كان خاصا بهذا الاضطراب دون غيره، وأيضًا ما إذا كان الخلل قابلا للإصلاح بالعلاج؟ (Stein, et al.,2006).
والحمد لله أن خبرتنا الشخصية إضافة إلى نتائج بعض الدراسات تشير إلى قابلية استجابة القرف المختلة في مرضى الوسواس القهري للتحسن بنفس مبادئ العلاج السلوكي القائمة على التعرض التدريجي ومنع الاستجابة القهرية، وتختلف مدة العلاج وعدد الجلسات بالطبع حسب شدة الحالة المرضية وطول مدة المرض، فهناك من يستجيبون بسرعة ويبدؤون بالتعرض المباشر وهناك من يحتاجون إلى التعرض بالتخيل لفترة بعد الاسترخاء وذلك للتقليل من رد فعل المعدة، الذي عادة ما يشكل عائقا.
وأما علاقة انفعال القرف ببعض أنواع الرهاب النوعي فربما تراكم الانتباه إليها في السنوات الأخيرة بسبب ما ظهر من نقص في الاستجابة للعلاج في بعض أنواع الرهابات النوعيةSpecific Phobias خاصة: رهاب الدم -الحقن- الأذى Blood-Injection-Injury Phobia ورهاب العناكب Spider Phobia وكذلك رهاب التقيؤ Emetophobia فبينما ظل المعالجون السلوكيون يوجهون أساليبهم العلاجية لمواجهة انفعال الخوف وينجحون في معظم الحالات بقيت استجابة مرضى النوعين المذكورين من الرهاب النوعي غير مرضية، وأرجعَ ذلك إلى كون الانفعالات المرتبطة بهما لا تشمل الخوف فقط وإنما القرف أيضًا، وهو ما ينبغي أن يكيَّف المعالجون برامجهم العلاجية على أساسه خاصة وأن الاستجابة الجسدية المرعبة لانفعال القرف تختلف عنها في حالة الخوف.
المراجع:
Templer, D.I., King, F.L., Brooner, R.K. & Corgiat, M (1984): Assessment of body Elimination attitude. Journal of Clinical Psychology 40: 754-759.
Quigley, J., Sherman, M. & Sherman, N. (1996). Personality Disorder Symptoms, Gender and age as predictors of adolescent disgust sensitivity. Journal of Personality and Individual Differences, 22, 661-667.
Sprengelmeyer R, Young AW, Pundt I, Sprengelmeyer A, Calder AJ, Berrios G, Winkel R, Vollmoeller W, Kuhn W, Sartory G, et al. (1997): Disgust implicated in OCD Proc Biol Sci 1997, 264:1767-1773.
Power, M., & Dalgleish, T. (1997): Cognition and emotion: From order to disorder. East Sussex, UK: Psychology Press.
Husted DS, Shapira NA, Goodman WK (2006): The neurocircuitry of obsessive-compulsive disorder and disgust progress in neuro-psychopharmacology & biological psychiatry 30 (3): 389-399 May 2006
Shapira NA, Liu Y, He AG, Bradley MM, Lessig MC, James GA, Stein DJ, Lang PJ, Goodman WK. (2003): Brain activation by disgust-inducing pictures in OCD. Biol Psychiatry. 2003 Oct 1;54(7):751-6.
Phillips, M.L., Young, A.W., Senior, C. Brammer, M., Andrew, C., Williams, S.C.R., Gray J. & David A.S. (1997): A specific neural substrate for perceiving facial expressions of disgust. Nature 389, 495-498.
Stein DJ, Arya M, Pietrini P, Rapoport JL, Swedo SE. (2006): Neurocircuitry of disgust and anxiety in OCD: a positron emission tomography study. Metab Brain Dis. 2006 Sep;21(2-3):267-77. Epub 2006 Jul 19.
واقرأ أيضاً:
الوسواس القهري بينَ عالم الغيب والشهادة / منهج الفقهاء في التعامل مع الوسواس القهري / وساوس الوضوء : وسواس حفظ الوضوء / ما هو اضطـراب الوسواس القهري؟