يعتقد بعض الناس أن الأمراض النفسية لا شفاء منها، وأذكرُ أيامَ دراستي في الكلية ما كان يتفكَّـهُ به بعض أصدقائي حول التخصصات الطبية المختلفة فكانت فحوى واحدة من نكاتهم أن الطبيب الباطني يعرف كل شيء لكنه لا يفعل شيئًـا، بينما الجراح يفعل أيَّ شيء لكنه لا يعرف أيَّ شيء أما الطبيب النفسي فهو الذي لا يعرف ولا يفعل أيَّ شيء! "وفي رواية أخرى الطبيب النفسي ليس طبيبًـا أصلاً!" نعم هذه فكرة طلبة الطبِّ فما بالنا بسواهم؟! ومن المسئول عن هذه الفكرة الخاطئة؟؟
ومما يزيد الطين بلة في هذا الصدد أثر الوصمة الاجتماعية اللاحقة بالطب النفسي، والمرض النفسي، وكما يقول طارق الحبيب فقد اعتاد الناس في مجالسهم حينما يكون بين الحضور طبيب أن يدور الحوار حول بعض الأمراض وعن الجديد الذي توصل إليه الطب، ويتسابق الحضور بكل جرأة وبمسمع من الجميع بالاستفسار الدقيق عن ما يعانونه وذووهم من أمراض. فالأول يشكو من مرض السكر الذي أرهق أمه، والثاني يشكو من ارتفاع ضغط الدم الذي أصاب والـده بجلطة في المخ، والثالث، والرابع... وفي المقابل فإن الناس لا يفعلون الشيء نفسه فيما يخص الأمراض النفسية، وإذا تحدثوا عنها فإنما هو غالباً على سبيل الاستغراب والسخرية! (طارق الحبيب، 2001).
ومهم أن نتأمل هنا حقيقة اجتماعية معوجة مع الأسف، ومفادها أنه أهون على المريض وذويه أنْ يعترفوا بأن ما اعتراهم من علل نفسية إنما كان بسبب الجن أو السحر أو العين وليست أمراضاً نفسية. وذلك لأنهم يرون أنْ تلك الأمور الغيبية إنما حدثت بفعل فاعل قد تعدى عليهم مما يعطيهم الحق في المعاناة، أمـا الاعتراف بالمرض لنفسي فمعناه عندهم الاعتراف بالنقص والقصور. وتبْعاً لذلك فإن الناس لا يسمعون ولا يرون أي نتائج إيجابية للطب النفسي، لأن من استفادوا من الطب النفسي يتجنبون الحديث عنه فضلاً عن أن بعضهم ربما ينتقدونه.
والعجيب في الأمر أن بعض من أصيبوا بأحد الأمراض النفسية، أو أصابت أحداً من ذويهم ثم منّ الله عليهم بالشفاء فإنهم لا يتحدثون بذلك عند الناس تفادياً لتلك النظرة الدونية التي ربما ينظر بها بعض الناس إليهم!! بل الأعجب من ذلك أن بعضاً من أولئك ينتقد الطب النفسي بشكل مبالغ فيه، في حين أنه كان من المفترض أنْ يحدث العكس.
ولذلك فإن من يراهم الناس من المرضى النفسيين هم فقط تلك الفئة من المرضى الذين لم يستجيبوا للعلاج النفسي، أو أنهم يعانون من بعض الأمراض النفسية المزمنة التي تتحكم بها الأدوية دون أن تشفيها تماماً، أو أنهم لم يطلبوا العلاج النفسي أصلاً. ولو نظرنا إلى الأمراض غير النفسية -باستثناء الأمراض التي تعالج بالجراحة والأمراض الناتجة عن العدوى بالبكتريا أو الفطريات أي التي تعالج بالمضادات الحيوية ومضادات الفطريات- لوجدنا أن الحال لا يختلف كثيراً عن الأمراض النفسية، فأغلب تلك الأمراض ليس لها علاج شاف، بل هي عقاقير تتحكم بالمرض دون أن تنهيه، كأدوية السكر والضغط وأمراض القلب، وغيرها كثير، بل إن المريض يتدهور تدريجياً رغـم استخدامه لتلك العقاقير. فلماذا الكيل بمكيالين، والنظر بعينين؟
فلا يتذكر بعض الناس تلك الأمراض النفسية التي كتب الله الشفاء لأهلها، ويرددون ويكررون أن الأمراض النفسية مزمنة لا شفاء منها دون أن يفعلوا الشيء نفسه مع الأمراض الأخرى!! فيصدق فيهم استشهاد د. طارق (طارق الحبيب، 2001) بقول الشاعر:
وعـيُن الرضا عنْ كلِّ عيْبٍ كــليـلَـةٌ ولكـنَّ عيـْنَ السُّخْطِ تُـبْـدِي المَسَاوِيَـا
ولعلي أضرب هنا مثالاً واحداً فقط بأحد الأمراض النفسية، وهو الوسواس القهري الذي يعاني منه عدد ليس بالقليل من الناس. فهذا المرض لا يعلم أكثر الناس أن بعض حالاته تستجيب للعلاج النفسي، بل إن بعضهم لا يدري أن هناك مرضاً نفسياً اسمه الوسواس القهري!!. ويمكن أن يكون لبعض الشيوخ دور كبير في نمو هذا الاعتقاد في أذهان الناس، لما يرددونه من أن بعض المرضى -حسب خبرتهم- قد شـفاهم الله بالرقية والقرآن ولـم يشفوا عند أساتذة الطب النفسي.
ولكن الأمر نفسه يردده الأطباء, فهناك العديد من المرضى قد أنفقوا عدة سنوات في السفر والترحال بين الشيوخ دون فائدة، وعندما راجعوا الأطباء تحسنت أحوالهم، بل ربما شفيت أمراضهم تماماً. وليس هذا انتقاصاً من شأن القرآن، فإن من أنزل القرآن هو الذي خلق الدواء، ويجعل بركته حيث يشاء, كما أنه ليس شرطاً أن يُشفى كل من عانى من تلك العلة بالقرآن.
وأظُـنُّهُ يكون من الأفضل للفصل في هذه القضية لو أن التقاءً وحوارًا فكريا طبيا إسلاميا بين أناسٍ على مستوى المسؤولية من الأطباء النفسيين المسلمين ولجنة من علماءِ الأزهر الشريف لكي يُـفَـنَّـدَ موضوعُ الوسواس وغيره من الأمراض النفسية وكذلك قضية المس والتلبس لنكون بالفعل قوما يستأنفون إعمالهم للعقل الذي نسينا استعماله فيما يخص أمتنا ويعبر عنها منذ زمان بعيد.
المراجع:
1- د. طارق الحبيب (2001): مفاهيم خاطئة عن الطب النفسي ... عن موقع bafree.net بتاريخ 24 كانون الأول (ديسمبر) 2001
اقرأ أيضاً:
وصمة المرض النفسي: ليست من عندنا! / عقلاء الشارع أخطر من المجانين مشاركة / المريض النفسي: مهضوم الحق؟ أم كلنا؟ / حقوق المريض النفسي بين الرعاية والوصاية