لم تكن في نيته الهجرة؛ فقد دفعته ظروف بلاده المحتلة -مثل كثيرين غيره من أبناء بلده الذين شردتهم يد الاستعمار- دفعا للهجرة إلى الأردن؛ حيث استكمل دراسته الثانوية التي حاز بعدها على منحة دراسية، حصل بموجبها على البكالوريوس من الجامعة الأمريكية في بيروت.
وعندما أراد أن يعود إلى بلاده رفضت قوات الاحتلال بدعوى أنه يحمل الجنسية الأردنية، فدارت الدنيا به، وأصبح لا يعرف ماذا يفعل؟ فهو لا يملك أي وظيفة، كما أنه أصبح بلا وطن يعود إليه.. إنه العالم الفلسطيني "منير حسن نايفة" أحد أبرز علماء الفيزياء في القرن العشرين، والذي وضع يده على مفاتيح الذرة، فقررت أن تبوح له بأسرارها.
ولد "نايفة" في ديسمبر من عام 1945 بقرية الشويكة ناحية طولكرم الفلسطينية؛ حيث أكمل دراسته الابتدائية قبل أن يغادرها للأردن لاستكمال دراسته الثانوية، ثم إلى لبنان للحصول على درجة البكالوريوس من الجامعة الأمريكية ببيروت في عام 1968، ثم الماجستير في الفيزياء في عام 1970، نال بعدها منحة أخرى مقدمة من جامعة ستانفورد الأمريكية للحصول على الدكتوراه.
وأثناء عمله بمعامل ستانفورد كاليفورنيا وجهه أستاذه لدراسة ذرة الهيدروجين أبسط العناصر الكيميائية الموجودة في الطبيعة باستخدام أشعة الليزر؛ أملا في الوصول على المزيد من الأسرار التي ما زالت تستعصي على العلم التجريبي بخصوص هذه الذرة. وحصل بالفعل نايفة على درجة الدكتوراه في حقل الفيزياء الذرية وعلوم الليزر.
يعود حب نايفة للعلم إلى فترة الطفولة؛ فما زال يتذكر إلى أي مدى كان شغوفا بصناعة أجهزة الراديو (المذياع)، ويعتبرها هوايته المفضلة، ويقضي كثيرا من الوقت في القراءة عنها، ويذهب إلى السوق ومحلات الأدوات الكهربائية ليشتري الهوائيات لكي يتم عمله الذي طالما أحبه والذي اعتبره هو نفسه بداية الطريق الذي أوصله ليصبح عالما كبيرا.
مازال يتذكر سنوات الدراسة في مرحلة الثانوي، والأستاذين سليمان والعبيدي، وكيف كانت معاملتهما له أشبه بالعلاقة التي تربط بين مجموعة من الأصدقاء، وليست مجرد علاقة بين الأستاذ والتلميذ، وذلك على الرغم من أنه كان ما يزال تلميذا وشابا صغيرا. وفى الجامعة الأمريكية ببيروت كان للدكتور أنطون أصلان -الفلسطيني الأصل- أكبر الأثر في حبه للفيزياء، وهو ما دفعه للتخصص فيها على عكس ما كان سائدا في ذلك الوقت من أن يتوجه الطلبة لدراسة التخصصات التطبيقية كالهندسة والطب.
عمل نايفة في الفترة من عام 1977 وحتى عام 1979 باحثا فيزيائيا بمعامل أوج – رج بجامعة كنتاكي، ثم التحق في نهاية هذه الفترة عام 1979 بجامعة آلينوى. وهو نفس العام الذي شهد حصوله على جائزة البحث التصنيعي في الولايات المتحدة؛ حيث تم تأسيس مؤتمر سنوي يعرض آخر التطورات والتطبيقات في ابتكاره.
نشر نايفة ما يزيد عن 130مقالا وبحثا علميا، وشارك مع آخرين في إعداد وتأليف العديد من الكتب عن علوم الليزر والكهربية والمغناطيسية. كما وردت الإشارة إلى اسم نايفة في العديد من موسوعات العلماء والمشاهير، وكان من أبرزها موسوعة "بريتنيكا" الشهيرة، وموسوعة "ماجروهيل"، وقائمة رجال ونساء العلم الأمريكيين، وموسوعة "Who’s Who in America"، وقائمة "Who's Who in Technology Today"، وقائمة "Who's Who in Engineering"، وكذلك المعجم الدولي للسيرة الذاتية، وقائمة رجال الإنجازات.
نايفة يرصد الذرات المفردة بالليزر داخل معمله عام1977
تمكن نايفة من الإجابة على استفهام هام طرحه عالم الفيزياء الشهير "ريتشارد فاينمان" في عام 1959، عندما تساءل: ماذا سيحدث لو استطاع الإنسان التحكم في حركة ومسار الذرة، ونجح في إعادة ترتيب مواضعها داخل المركبات الكيميائية؟
وفى أقل من 20عاما قدم نايفة إجابته الفائقة، عندما نجح في تحريك الذرات منفردة ذرة ذرة. وفي التسعينيات تحدثت كبرى المجلات العلمية المتخصصة ووكالات الأنباء العالمية عن العالم العربي الذي رسم صورة لقلب داخله حرف "P" باستخدام الذرات المفردة، في الإشارة إلى فلسطين.
ويرى العلماء أن هذا الكشف من الاكتشافات الثورية التي أتاحت للعلم الدخول إلى منطقة لم يسبق له الدخول فيها من قبل، ويمكن استنتاج تلك القفزة التي سيحققها ذلك العلم من خلال المقارنة بـ"المايكروتكنولوجي" التي أنتجت أجهزة الكمبيوتر والترانزيستور وكل المعدات الإلكترونية الحالية. وفى هذا الإطار يشير الكتاب السنوي الصادر عن الموسوعة البريطانية "بريتانيكا" إلى أن تقنية نايفة سوف تزيد من كفاءة أداء الآلات ما بين 100مليون و10آلاف مليون مرة على الطرق التقليدية.
وكما ذكرت صحيفة "واشنطن بوست" فإنه يؤسس لفرع جديد في علم الكيمياء يدعى "كيمياء الذرة المنفردة" الذي يمهد بدوره لطفرة طبية سوف تسهم في علاج العديد من الأمراض التي وقف العلم عاجزا أمامها سنوات طويلة؛ حيث يتيح هذا الإنجاز بناء أجهزة ومعدات مجهرية لا يزيد حجمها عن عدة ذرات بما يمكنها من الولوج في جسم الإنسان، والسير داخل الشرايين والوصول إلى أعضائه الداخلية. وتتجاوز تطبيقات هذا الكشف مجالات الطب إلى الهندسة الصناعية والعسكرية وحتى التكنولوجيات النووية؛ حيث يتوقع أن تسهم في تطوير أجهزة رصد جوية لاستكشاف المعادن والألغام الأرضية. ويعلق بعض العلماء الآمال عليها في رصد جسيمات "كوارك" الخفية التي من المفترض أن تسهم في حل بعض ألغاز الكون.
البحث العلمي في العالم العربي
يرى نايفة أن البحث العلمي في العالم العربي والإسلامي ما زال في مرحلة الطفولة، إلا أن الأمر لا يخلو من ومضات مضيئة بسيطة ومحدودة؛ لذا فهو يرى ضرورة الاستفادة من الخبرات العربية الموجودة بالخارج لتقليص الفجوة العلمية والتكنولوجية بين العالم الإسلامي والدول المتقدمة. وفى هذا الإطار يعقد نايفة مقارنة بسيطة تكشف حجم الفجوة التكنولوجية بيننا وبين العالم المتقدم، قائلا: "إن تكلفة ما صرفته الجامعات العربية على البحث العلمي طيلة 50سنة هو 2.5مليار دولار، بينما صرفت جامعة آلينوي على البحث العلمي خلال عام واحد 1.5مليار دولار. وحسبما يرى فإن الاختلاف يأتي في النظرة ذاتها تجاه الموضوع؛ فيبدو أن العرب ما زالوا يتعاملون مع البحث العلمي على أنه نوع من الترف والرفاهية، بينما ينظر العالم المتقدم علميا إليه على أنه المستقبل".
يمد نايفة يد العون للبلدان العربية والإسلامية التي ترغب في الأخذ بأسباب العلم والتكنولوجيا؛ ففي أواخر السبعينيات بدأت خطاه الأولى على هذا الطريق؛ حيث نجح في توثيق العلاقة بين جامعة اليرموك والجامعة الأردنية من ناحية، وجامعة آلينوي التي يعمل بها من ناحية أخرى. وفى هذا الإطار يسهم نايفة ومعه تلميذه زين حسن يماني المبعوث من جامعة الملك فهد السعودية إلى جامعة آلينوي، ومعهما الدكتورة ليلى أبو حسان، والدكتور عبد الجواد أبو الهيجاء من الجامعة الأردنية، والدكتور سامي محمود، والدكتور نهاد يوسف من جامعة اليرموك الأردنية في بحث علمي على خام "الزيوليت" الطبيعي الذي يوجد بوفرة في البيئة العربية، لإنتاج وتطوير أسلاك ومفاتيح ذرية تستخدم في تشغيل آلات القرن الحادي والعشرين.
ومؤخرا وقبيل انقضاء عام 2003 وقع نايفة مدير مختبرات الليزر في جامعة آلينوي مع الدكتور هاني مرتضى وزير التعليم العالي في سوريا مذكرة تفاهم بين المعهد العالي لبحوث الليزر في جامعة دمشق وقسم الفيزياء في جامعة آلينوي، وتتضمن الاتفاقية التي تستمر 5سنوات تبادل أعضاء هيئة التدريس، وتبادل الطلاب، وفعاليات البحوث المشتركة، إضافة إلى المشاركة في الندوات واللقاءات العلمية، وتبادل المواد الأكاديمية وغيرها من المعلومات، ووضع برامج أكاديمية قصيرة متخصصة.
ويرأس الدكتور نايفة شبكة العلماء والتكنولوجيين العرب في الخارج، وهو أحد التجمعات الشهيرة للعلماء المهاجرين، أنشئت عام 1992 عقب أول اجتماع لها في العاصمة الأردنية عمان، وتقوم الشبكة بدور هام في حصر الكفاءات العربية في المجالات العلمية المختلفة، وفتح المجال أمام حدوث تعاون وتنفيذ برامج ومشاريع علمية، من شأنها أن ترتقي ببلداننا العربية.
نايفة أيضا عضو بمجلس إدارة المؤسسة العربية للعلوم والتكنولوجيا، وهي مؤسسة تهتم بوضع المشاريع العلمية المشتركة التي تسهم في حل المشكلات التي تعاني منها منطقتنا العربية، بالإضافة إلى التنسيق بين علماء الداخل والخارج، وتعد محاولة لتشكيل قوة ضغط علمية تحث الحكومة العربية على ضرورة دعم البحث العلمي.
عالم مسلم في بلاد الأمريكان
يتحدث العالم الجليل عن ضرورة الاتصال بالجذور كأي مسلم وعربي، فيقول: "زياراتي للمنطقة العربية قاربت المائة، وربما ساعدتني على ذلك ظروف عملي؛ فلم تبقَ دولة عربية إلا وزرتها، ولقد كنت شديد الحرص على أن ترافقني عائلتي في زياراتي إلى المنطقة؛ وهو ما انعكس بشكل إيجابي على علاقتهم وارتباطهم ببلادهم، وتجلى ذلك في حديثهم العربية بطلاقة، على الرغم من أنهم جميعا مولودون بالولايات المتحدة".
وفي إحدى لقاءاته التليفزيونية ذكر نايفة في إجابة له عن سؤال حول اللغة التي يفكر بها عندما يكون في المختبر، فأجاب بأنه يفكر أول ما يفكر بالعربية، وخلال زمن قصير تحدث الترجمة التلقائية في دماغه؛ لذا فإنه قبل ثلاثة أعوام من الآن شارك في مؤتمر عقد في الشارقة يطالب بضرورة تعليم الطفل العلوم بلغته الأم.
ونايفة متزوج من فتاة عربية اسمها هتاف -بنت بلد من طولكرم- كما أن له خمسة أبناء، تزوج الأكبر "حسن" الذي يدرس الدكتوراه في تكنولوجيا "النانو" من فتاة عربية مسلمة من الأردن ويعيشان الآن معا في بوسطن. وكان حسن قد نال زمالة دراسية للدكتوراه بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، تبلغ قيمتها ربع مليون دولار. أما التي تليه فهي "مها" وقد تزوجت هي الأخرى من شاب فلسطيني، وبالنسبة لعمار وأسامة فما زالا في مراحل التعليم، ويأتي مسك الختام "منى" التي لا يتجاوز عمرها 15عاما.
ونايفة هو الأخ الثالث بين أربعة أبناء لتاجر زيت الزيتون حسن نايفة وزوجته خضرة، جميعهم تفوقوا في مجالات العلوم المختلفة، "علي" الابن الأكبر أستاذ للهندسة الميكانيكية بجامعة فرجينيا، و"عدنان" أيضا يعمل أستاذا للهندسة الميكانيكية والطيران في جامعة سينسيناتي بأوهاويو، أما "تيسير" فيعمل أستاذا للهندسة الصناعية في جامعة كليفلاند.
حقا.. إنها رحلة شائقة جدا.. وشاقة جدا.. تلك الخطوات التي خطتها أقدام الشريد الفلسطيني "منير حسن نايفة" من قرية الشويكة إلى قمة العلم في معامل أمريكا والعالم.
اقرأ أيضاً :
نماذج مسلمة/ الحلم تحت القصف/ اضطراب التأقلم/ دماؤك : روح الحياة/ رسالة من يهود العالم إلى شباب العرب