حال الفضائية الفلسطينية، يعكس حال السلطة الفلسطينية نفسها، ويفسر كل المزايا والعيوب، في عملية تقرير أولويات الإنفاق واتجاهاته. ويشيع في الأوساط الفلسطينية، قول سطحي، ينسب التردي العام، لأداء الفضائية الفلسطينية، إلى رئيس هذه المحطة "ماهر الريس" الذي هو ـ وإن كان هناك شيء من الضعف في أدائه الإداري ـ لا حول له ولا قوة، في ضوء شُح الإمكانيات، وبسبب تقادم المعدات، التي أصبحت بالية، وفي ضوء احتباس الموازنة المالية، ومبالغ خصصت لتجديد المعدات، ولسداد مستحقات الشركة الوسيطة، التي تعاقدت معها الفضائية الفلسطينية، لنقل البث إلي الأمريكيتين
الأمر الذي نجم عنه توقف البث إلي هذا الجزء البعيد من العالم (المطلوب للشركة نحو 2مليون دولار) فضلاً عن ذلك، هناك نقص كبير، لدى الفضائية الفلسطينية، في الكادرات المدربة، وهي لا تستطيع الصرف على برامج للتأهيل، وهي حتى لا تجد الاعتمادات المتواضعة، التي تمكنها من الاستفادة من برامج تدريبية، يمكن تدبيرها، عن طريق دول عربية وأجنبية. وبدا الأمر، بالنسبة للفضائية الفلسطينية، محنة حقيقية، اجتمعت فيها، كل عناصر الأزمة: لا كاميرات صالحة للعمل، لا وحدات مونتاج، لا تجديد للمعدات البالية، لا كادرات، لا برامج تدريبية، لا موازنات تطوير وتشغيل، ولا مال مخصصاً للإنفاق على البرامج!
ومن المفارقات الطريفة، أن خلافاً على الصلاحيات، واشتباكاً وتقاطعاً، في رغبات تولي المسؤولية، نشب بين مسئول هيئة الإذاعة والتلفزيون من جهة، ورئيس الفضائية، من جهة أخرى، وقد أدى ذلك إلى تسوية تقضي بفصل المحطة الفضائية، عن المحطة الأرضية، لتبدأ حكاية مريرة ممتدة، تحت عنوان الفصل: مَن يأخذ ماذا؟! وعلى أي أساس؟! غير أن مكمن الطرافة، وهو ما لا يعرفه الجمهور، هو أن التلفزة الفلسطينية عموماً، كانت قد لاذت إلى الفضاء، هرباً من الأرض.
فلا قدرة لديها على البث الأرضي الذي تلتقطه الهوائيات، المثبتة على أسطح منازل الفقراء، إذ لا معدات للبث الأرضي وبالتالي فإن القسمة بين الفضائيين والأرضيين، ستكون على مستوى الاستوديوهات، والموظفين، والمكاتب والكراسي، أما على مستوى البث، فربما يكون هناك صراع آخر، على عدد ساعات البث، لبرامج كل من الفضائية و الأرضية إلى حين شراء المعدات اللازمة للبث الأرضي!
في هذا السياق، ستكون وحدة الإنتاج الوحيدة، التي يقف على رأسها مهندس صيانة، يفك أغطيتها ويتدخل، بعد كل برنامج، مرفقاً وحيداً للمحطتين، وفي حال بقاء الأمر على ما هو عليه، سيكون من شأن الفصل، بين الفضائية القائمة والأرضية التي لم تقم، توزع وبعثرة الإمكانيات الضئيلة المتوافرة، لكي يزداد الأمر سوءاً. وبسبب ضعف الكادر، على مستوى مقدمي النشرات، ظلت في المخازن، أجهزة الأوتوكيو التي تعفي مقدم النشرة، من النظر إلى الورق، والتركيز على الكاميرا والقراءة من أمامه، لأن هذه الأجهزة، التي تم شراؤها بأسعار بخسة، بسبب العمولات، ليست مهيئة فنياً لتشكيل النص العربي، الأمر الذي من شأنه أن يفضح العيوب اللغوية أو النحوية، للمذيعين.
ليس منطقياً، رد أسباب هذه المحنة التلفزيونية الفلسطينية، إلى سوء الوضع المالي للسلطة، لأن هذه السلطة -مثلاً- استوردت قبل أسبوعين، اثنين وثمانين سيارة لموظفيها المدنيين، بدون مناقصة، لكي يتجدد زهو المستفيدين بوظائفهم ودرجاتهم. فالقائمون على مسألة الصرف المالي، كانوا يعتبرون الفضائية عرفاتية حتى النخاع، بمعنى أنها تأخذ الشق المقاوم، من توجهات الرئيس الراحل، وتبث المواد التي تحاول مجاراة واقع المجتمع، على الأرض، من حديث عن الصمود وعن المقاومة، وعن المقاومين. والقائمون على السلطة، عموماً، لا يتحسسون أهمية مثل هذه المرافق الحيوية، كالبث التلفزيوني، المعبر عن الأوضاع الفلسطينية، والذي ينقل صورة الحال، إلى الجاليات الفلسطينية والعربية
مثلما لا يتحسسون أهمية وضرورة تحسين الخدمات، وأن تصبح هناك مجار في مدن كبيرة، دخلت القرن الحادي والعشرين، فيما هي بلا مجار. إنهم يتحسسون متطلبات هنائهم الخاص، وولائمهم، وسياراتهم، ومنازلهم المبنية، بأكثر التصاميم العالمية بذخاً، ولا يولون أهمية للمرافق العامة. بل هم، بالمحصلة، غير مكترثين بالإعلام، وعندما يتعرضون لموضوع التلفزة الفلسطينية، يتداولون الأمر بلغتهم، فيتحدثون عن المسئول، وعن المنصب، وينتقدون، وكأن المسئول المخنوق، والذي لا إمكانيات لديه، يمكن أن يفعل شيئاً، في ظل هذا الاختلال، في وضع أولويات الصرف، على المرافق العامة!
ففي قطاع غزة، الذي يضم نحو مليون وثلث المليون إنسان، ليس هناك مطبعة قادرة على سحب صحيفة. ولا تعرف غزة، لفافات الورق، الذي تُطبع عليه الصحف، وبالتالي فإن أي إغلاق للطريق، بين رام الله وغزة، أو بين القدس وغزة، يجعل المنطقة خالية من الصحف. وبسبب هذه الوضعية، التي بات فيها وصول الصحيفة أمراً غير مؤكد، أو مشكوكاً فيه، أو أمراً متصلاً بالخبر الأمني في نشرات الأخبار، أصبحت صلة المواطن بالصحيفة، واهية وضعيفة، لأن عادة القراءة، تكسرت أو تأذت بسبب، عدم الوصول المؤكد للصحيفة، التي يمكن تحريرها في رام الله أو غزة، وطبعها في رام الله وغزة، لو كانت هناك مطبعة، في هذه الأخيرة!
لكن القائمين على السلطة، الذين لم يتوقفوا أمام أهمية وجود محطة قوية للتلفزة، لا يتوقفون طبعاً، أمام أهمية وجود مطبعة. فالفلسطينيون بصدد فلسفة للحكم، معتوهة، ولا تقدّر المسائل الوطنية العامة، ولا ترتب أولوياتها على أسس واعتبارات صحيحة!
على المستوى الإداري، هربت العناصر الواعدة، في فضائية فلسطين، إلى مكاتب الفضائيات العربية والأجنبية، للعمل فيها. منهم من ظل يتقاضى راتبه، على ملاك الإذاعة والتلفزة الفلسطينية، ويعمل مع الفضائيات الأخرى، بأجر ثانٍ، شرط أن يكون بالقطعة وليس موظفاً براتب شهري. ومنهم من استغنى عن الوظيفة الفلسطينية، ليكتفي بالوظيفة، في محطات التلفزة العربية والأجنبية. لكن هروب هؤلاء، كان بسبب غياب الحد الأدنى، من القدرة على الاستفادة من العنصر البشري، في التلفزة الفلسطينية، وبسبب ضآلة الرواتب. ومن تبقى من العاملين، هم للمشاركة في مهرجانات الترقية، ليحصل على درجة المدير العام. بالتالي فإن التشوهات المتداعية، في الهيكل الوظيفي، جعلت التلفزة، ذات جيش من المدراء العامين، في حين أن أية قناة تلفزة، في هذه الدنيا، لا تحتمل غير مدير عام واحد! وفي أدائهم، كان إعلاميو التلفزة الفلسطينية، ممتازين في الفضائيات الأخرى، مستفيدين من عناصر التشجيع الكثيرة، ومن مستوى أداء المحطات ومتطلباتها وتمحيصاتها!
غير أن عامل الإمكانيات المالية، هو الذي يحسم الأمر سلباً أو إيجاباً. وربما تكون الفضائية الفلسطينية، قد تأثرت على نحو كارثي، بتجربة رئيسها الأول، هشام مكي، الذي كان قبل اغتياله، شخصاً مثيراً للجدل، بسبب ما تأتى له من مقدرة على الاستئثار بمقدرات مالية كبيرة، والذي كان لاعباً مميزاً على هذا الصعيد، اصطدم مع حاسديه، من العاملين المتنفذين، في السلطة، ثم اصطدم مع الرئيس عرفات نفسه، بعد أن أحس الرئيس الراحل، بأن الرجل، بدد أموالاً وتقاطعت تجربته، مع تجارب أشباهه، من المغترفين من المال العام. ولكاتب هذه السطور قصة مع موضوع هشام مكي، إذ بعد اغتياله بنصف الساعة، كنت على نشرة أخبار الجزيرة، وليس لي من الرجل، أي موقف شخصي.
لكن السؤال الذي يستفسر عن احتمالات أن تكون "إسرائيل" هي التي اغتالت الرجل، اضطرني لأن أنفي، وأن أشير إلى أسباب أخرى، منها الفساد والتجاوزات الكثيرة، وغياب القضاء الذي كان يمكن أن يُحال إليه الرجل. وسرعان ما قام الوشاة، المستفيدون من هدايا المغدور، باستثارة الرئيس ضد كاتب هذه السطور، فأمر -بداية- باعتقالي، ثم قاموا هم أنفسهم بتخفيف ردة فعله، لكي لا يكون الاعتقال، ثم تتداعى الأمور من خلال ردي على الإجراء. لكن ما حدث بعد أربعة أيام من تشييع مكي، أن أمر الرئيس عرفات نفسه، بالحجز على أمواله وحساباته، ومنع أولاده وزوجته من السفر مؤقتاً. وبعد عام من التحقيق في هيئة الرقابة العامة، اتضح أن ما هو مستحق للسلطة، من المال العام، في ذمة ورثة مكي، هو 22مليوناً و270ألف دولار!
هذا المال، وما هو غير معلوم غيره، كان يجب أن يؤسس لقناة تلفزة قوية، وأن يضع أصولاً تستفيد منها القناة، لكي تستمر في البث، وفي نقل الصورة والرواية الفلسطينية، باقتدار. إنها محنة قديمة جديدة!
كاتب من فلسطين
اقرأ أيضاً :
السيرك الفلسطيني/ أريحا وسلطة العجز الكامل/ ملفات فلسطينية