لا ندري -بشكل كامل- ما يهيئ الغرب للسودان في المستقبل أكثر من هذا. ولا ندري ما رآه بالضبط من مغانم في هذا البلد ليجعله مهرولا لزعزعة كيانه. لكن الذي ندريه أن ما يفعله ليناوئ البلدان العربية والأمة كاملة، إنما يفعله بدهاء ومكر وخبث قل مثيله في التاريخ. والذي ندريه أيضا، أن المواجهة من طرفنا أمة ودولا وشعوبا وأفرادا وهيئات ليست بنفس القدر من الدهاء ولا هي حتى متحدة، متناسقة أو مكملة لبعضها البعض. كما ندري أن هذا الغرب يضرب ضربته في العمق والجذر: إنه يصيب الإدراك والتصور. عدا المشاعر والأجساد والمادة التي تسهل حينئذ ويتمم بها المطلوب.
وفي نفس الإطار، الغرب لا يعاقب العقاب الجماعي، وهو يعلم أنه أسوأ خيار لمدرس مع تلاميذه، مع اعتذارنا للمدرس، فالغرب ليس بمدرس، لكنه متحكم متغطرس.
الغرب بطبيعته الجغرافية الباردة، يتشبع ببرودة دم فائقة، يأخذ وقته في التخطيط والإعداد، ولو اقتضى الأمر الوقت الطويل، غير فاصح عن نياته ومبتغاه، محكما ضربته وقبضته في الجذر تماما. يترك لنا المشاعر والفوران، كاشفين بذلك عن أوراقنا وعرانا، مستسهلين عليه أخذ المبادرة.
حينما يدخل بلدا ليحتله، سواء غالبا بدافع جيوسياسي، فعدا عن كونه لا يصرح بذلك علنا ويتغلف بدافع الحرية للشعوب، فإنه يقنع عددا كبيرا من الأطياف بمهمته، من السياسيين، إلى الإعلاميين، إلى المفكرين عدا عن شرائح عريضة من المجتمعات على شاكلة مستمعي راديو سوا: كل الأطياف في العراق دخلت اللعبة السياسية، لكل منهم قناته وإذاعته وربما حصته وحراسه.
وبقدرة قادر، تتجزأ البلدان إلى شمال وجنوب، وأطياف وألوان وأشكال من الاتجاهات السياسية والزعامات الإثنية: من الصومال، أفغانستان، العراق، لبنان وغيرها من البلدان التي خلقت دواعي لحروبها الداخلية. كما أن الأجزاء تتجزأ، والأحزاب تتناسل، وتتفرع الجبهات والحركات إلى ما لا نهاية.. السودان، العراق أمثلة مختبرات لتفريخ هذه الأطياف..
وبما أنه لا يضرب الجميع مرة واحدة، فإنه يقنع كل طرف على حدا، في زمان ما، في ظروف ما بضرب الطرف الآخر المجاور، ليعود ويقنع الطرف الأخير بضرب الطرف الأول.. عجب عجاب.. كيف يصنع هذا؟
عبر باكستان ضربت أفغانستان، وعبر هذه الأخيرة تضرب باكستان اليوم.. وفي كل بلد قاعدة ما، عبرها يضرب بلد مجاور ما.
والغرب عندما تمس أراضيه وكيانه، فإنه لا يخوض الحرب على أراضيه تلك، بل ينقلها إلى ما وراء المحيطات، والأهم أنه يفرض حصارا فكريا على العالم أجمع حتى في مجرد التفكير في صوابية حروبه: بعد هجمات 11 شتنبر سارع الجميع من إسلاميين ويساريين واشتراكيين فضلا عن الوطنين التابعين إلى الإدانة والاستنكار، وشُرِّعت قوانين خاصة لمكافحة ما يسمى بالإرهاب، صادق عليها الجميع، برلمانيون متنوعو الاتجاهات وغيرهم، وأصبحت للشعوب بفضل هذه القوانين محط شبهات دائمة وملاحقات مستمرة، مجرد التفكير في التساؤل حول صوابية الهجوم على مدنيي الغرب الأبرياء كرد فعل تجاه قتل الآلاف من الأبرياء العراقيين والأفغان والباكستانيين كفيلة بالإدانة: التهمة جاهزة: تمجيد الإرهاب.
ولما كان القانون فضفاضا، والأجهزة الأمنية العربية معروفة باستحسانها مد اليد الطولى، عمل في الجمعيات والحريات ما عمل فيها، وهكذا نقلت الحرب من أرض الغرب إلى أراضي البلدان العربية الإسلامية وولدت حروب نفسية متواصلة: فكل بلد له إرهابيوه، يسلمهم تحت الطلب للحصول على شهادة حسن السيرة.
نفس الأمر للولادة القيصرية إسرائيل: ضدا على كل تاريخ وجغرافيا وأنتروبولوجيا.. تصنع دولة مخالفة كل قواعد الرياضيات السياسية، ويدان كل من يشكك في وجودها ولو أنها لا تبدو سوى قاعدة عسكرية لا يعرف جيشها إلا الحروب والاعتداءات..
ضربات موفقة في الحقيقة بمعنى ما: الغرب لا يأتي ويقول أنتم أعدائي، لا تصلحون للعيش، خطرون علينا بعقيدتكم، قد تحدون من طموحاتنا الإمبريالية، خيراتكم هي ما نريد، ونريد لمواطنينا أن يعيشوا مستوى مضاعف عن مستوى عيش مواطنيكم، بل يأتي بلف ودوران، ينشئ مفاهيم ومصطلحات لسيولة الأفكار وشيوعها، ربما إقناعا لرأيه العام أولا، ثم لبعض الفئات من عندنا لتسهيل المهمة.
منذ صناعة بلد على أرض فلسطين، لا توافق جغرافي ولا تاريخي ولا ثني له إلى يومنا هذا، مناوئات العراق قبل احتلاله، احتضان الإرهاب-أفغانستان، مناوئات سوريا الدائمة، محاصرة الحركات التحريرية من الأصل: لائحة الإرهاب الشهيرة، إلى آخر الابتكارات: مذكرة الاعتقال في حق رئيس دولة بواسطة ممثلين أغبياء.
للغرب لغة خاصة لا يفهمها إلا القلائل، وهو يعمل جاهدا لأن لا يكون لهم التأثير في الأغلبية الباقية...
ماذا علينا إذن فعله، ومن ينبغي عليهم الفعل؟ وهذا الإعلام ما محله من المواجهة؟
لكل فعل ردة فعل متساوية... حرب الغرب حرب مفاهيم ومصطلحات، حرب قيم وقناعات، حرب تمس جوهر الذات والكيان، تخلخل الوحدة والهوية والمرتكزات...
لعل حربنا من المفروض أن تروم صناعة الوعي من جديد، المحافظة على أولوية تناسق الذات الجماعية، ووحدة مكونات الكيان مهما حدث من اختلافات، الحذر الشديد مع المصطلحات والمفاهيم، والفاعلون طبعا هم المفكرون الجدد.
رقصة بشير السودان بعصاه أمام مئات آلاف مواطنيه صورة قد لا تزحزح العالم الغربي بوصة عن موقفه.
الحكام قدرنا، الإصرار على عدم التعامل معهم هو ما يريد الغرب فعلا، لا أحد يظن أنه ولو أنه اختارهم من جامعاته الغربية، أو نسج معهم العلاقات قبل أن يصبحوا رؤساء دول، فإنه حليفهم، الغرب لا حليف له، ولا يبغي أية ديمقراطية لأحد، وتهمه جدا البلبلة التي تقع في الدول والشرخ بين الحكام وشعوبهم.
هذا الشرخ هو سر تواكل الجميع عليه، من أعتى المعارضين إلى آخر منشق قبلي أو كاتبة رديئة-عن المرأة والحرية والجنس... فيما الحكام خائفون أيضا من انقضاض فظيع على السلطة لا يبقي ولا يذر، من طرف أشخاص ما زالوا يحلمون بتلك الكراسي العرشية الرمزية التي ليس فيها الاسم، ما دام آخر سفير غربي يملي على البعض سياسته الخارجية والداخلية.. وأشخاص أحيانا لم يتزحزحوا عن رئاسة أحزابهم، فكيف ننتظر منهم أن ينازلوا عن رئاسة البلاد إذا ما حكموها؟
الانقلابات والتغييرات بالوكالة يعلم الجميع ما جنت علينا، مختبرات العراق والصومال وأفغانستان وغيرها أمثلة على ذلك..
لعل علينا البناء لبنة لبنة، صناعة وعي جماعي يضع أولوية الوطن الذي لا يماثل الحاكم، مرتكزات الهوية قبل الأهداف الشخصية، ألا يمكننا أن نصل إلى تغيير الحكام دون حصول الكوارث؟ لماذا ليس لديهم هم في قاموسهم الانقلابات والدماء والصراعات على السلطة؟ لماذا لا يخشون أن يموت الرئيس فجأة أو حتى يقتل؟ أو يخافون من توريث الحكم؟ هل بناؤهم متين إلى هذه الدرجة أو لهم مقومات وحدة مثالية؟
الجواب هو بيت القصيد: بالعكس لا مقومات وحدوية لهم لا ثقافية –بمعنى ما- كما ليس لهم ثروات طبيعية كالتي لنا ومع ذلك لا ينظرون إلا إلى نقائصنا حسب نظاراتهم المزورة.
تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى: فرنسا لها أكرادها وامازيغيوها، من كورسيكيين وبروتان وغيرهم، كما لبريطانيا أيرلنديون كاثوليك وآخرون لا يذكرونهم، ولأسبانيا باسكيون وكاتالون..الخ ومع ذلك-كما ذكر اللساني العراقي القاسمي- هناك اتحاد أوروبي من 27 دولة يتحدث 26 لغة ينفق الأموال الطائلة بغرض الترجمة مع جيش من المترجمين: حتى الوحدة عندهم شبه مصنعة.
هذه التساؤلات يعرفونها طبعا ويتصرفون تصرف القوي والعنجهي، وللأسف يسقطون في فخهم الكثير من أبناء أمتنا الذين لا أولويات لهم إلا محاسبة الحكام على حساب الوطن ومقومات وحدة الأمة، فما معنى أن يطلع علينا من السجن المعارض السوداني الترابي المحسوب على الاتجاه الإسلامي فيصفق لقرار الغرب الهزيل بملاحقة الرئيس البشير وأن لا أحد فوق العدالة، هكذا بكل غباء وتراخي فكري وترهل ذاتي.. كنا ننتظر تعزيته في إخوانه في غزة ومناشدته ملاحقة مجرمي الحرب الحقيقيين باراك، أولمرت، ليفني، طيارو الكيان الصهيوني.
والترابي وأمثاله كُثر لا حصر لهم ممن يحسبون على المعارضين والمفكرين الذين أصبحت غايتهم في الحياة الانتقام ضد وطن بأكمله لأجل سجن وتعذيب سنوات، والوطن عمره أكبر من هذا بكثير، ما معنى أن يلجأ معارضو سوريا إلى الدول الغربية ولسوريا مواقفها التي قلّ من يفعلها من العرب برغم كل الضغوطات والمناوئات، ما الفرق بين هؤلاء المعارضين الذين لعبوا أوراق الغرب والحكام التابعين للغرب نفسه؟ أعتقد أن معارضينا هم من يؤخروننا، ومن أراد الاستفادة فليرجع إلى أمثلة العراق وأفغانستان وغيرها، ماذا ينتظرون من تغيير النظام في بلد آخر، مزيدا من الحروب الأهلية وعشرات آلاف القتلى؟ وأسفل الترتيب في لائحة الفساد.
أود أن اسمع معارضا يرد على الغرب حينما يساومه على بلده بكلام مسئول، كما كانت تفعل العرب، حيث يشهد التاريخ أن العرب كانت تمقت الاستعانة بالعجم حتى في حروبهم على بعضهم البعض، ومعروف رفض معاوية بن أبي سفيان فيما قرأت لما أراد ملك الروم دعمه في حربه ضد علي بن أبي طالب، حيث رد:
هذا بيننا وبين أبناء عمومتنا... لا شأن لكم بذلك.
اقرأ أيضاً:
الإعلام والحرب على غزة