فاتحة قيادية!
يبدو أن رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس يروم تطوير "نظرية" جديدة في "القيادة" Leadership في مجال "السياسة المهمومة بالتحرير"، وفي ضوء الخطوط العريضة للأدبيات العلمية للقيادة، سوف يركز هذا المقال على استكشاف بعض أبعاد تلك النظرية "المدهشة" ومآلاتها المتوقعة أو المحققة!
مدخل للنظرية الجديدة!
يشهد العالم مئات الأبحاث يوميا عن ظاهرة القيادة في مختلف المجالات والتخصصات، وتعتبر "نظرية السمات" Trait Theory -أو نظرية الرجل العظيم- من أولى النظريات التي حاولت فهم وتفسير ظاهرة القيادة عبر محاولات بحثية استهدفت التعرف على سمات الفرد الذي تجعل منه قائدا مؤثرًا في محيطه الاجتماعي، غير أنها فشلت في "القبض" على السمات الجوهرية للقياديين.
وظهرت قائمة طويلة و"مرتبكة" من السمات، مما دفع الباحثين إلى تطوير نظريات أخرى لفهم وتفسير تلك الظاهرة، فظهرت نظريات كثيرة جدًّا بمداخل متنوعة، أفلحت في جعلنا نستوعب جوانب متعددة من تلك الظاهرة المعقدة، ولكن هذا لا يعني البتة أننا ظفرنا بنظرية شاملة دقيقة، فما زالت الظاهرة تستعصي وتتمرد على أفهامنا وقدراتنا على بلورتها ضمن أطر محددة.
ولو عدنا إلى "جهود" أبي مازن في إيجاد نظرية جديدة في مجال "السياسة المهمومة بالتحرير"، فإنه يسعنا تسجيل ملاحظات كثيرة قد تقودنا إلى فهم بعض أبعادها وفك بعض شفراتها، وذلك عبر النقاط التالية:
* يؤكد عباس في نظريته القيادية أن "السمة رقم واحد" في النظرية الفعالة للقيادة هي "الواقعية السياسية"، عبر الكشف الصريح عن قدر "التواضع في الطموح التحرري" والاعتراف المباشر بحجم الهزال في "بنية" الكيان السياسي المناضل من أجل التحرير.
فهو قبل عدة أيام -على سبيل المثال كما في حوار مع قناة عربية- يقر بـ"ضحكة ضعف" ما قالته إحدى المذيعات من أن الفلسطينيين طرف ضعيف في التفاوض مع الكيان الصهيوني، بل إنه زاد بالقول "احنا ضعاف".
وبذلك "يكفر" أبو مازن بمبادئ الصلابة والقوة والإصرار المستمدة من "مشروعية التحرر" واستحقاقاته، ويتجاهل قدر الطاقة العظيمة والشجاعة الماضية التي تصنعها تلك المشروعية في نفوس المناضلين، وليته عمل أو علم -على أقل تقدير- بمقولة أحد المفكرين حين يقول "إن لم تكن شجاعا فتظاهر بالشجاعة فإنه لن يلحظ أحد الفرق"!
* ترتكز "نظرية عباس" على أن التفاوض الناجح مع المغتصب المستبد يقوم على "الحكي بالسياسة" وترك "النضال" و"الكفاح"، لأنه غير مجدٍ، مع أنه يؤكد على أنهم "هم من اخترع المقاومة"، ولم يفصح عباس لنا عن مدى وجود "براءة اختراع مسجلة"، ولا عن سر التخلي عن ذلك الاختراع العظيم.
وفي هذا النهج القيادي الفريد لعباس فإنه يعلن موت ما يسميه القائد الأيرلندي زعيم الشين فين "جيري آدمز" بـ"الطريق المزدوج" للتحرير: العمل السياسي والعمل النضالي، وهو نهج يؤكد على أن الأصل في العمل التحرري هو العمل النضالي غير أن هذا النضال يفتقر إلى جناح سياسي يرشده ويجعله أكثر ذكاءً، وآدمز لم يخترع شيئًا جديدًا ولكنه لم "يعاند الحقائق" التي قام عليها تاريخ التحرر في العالم.
وهذا يعني أن نظرية عباس تؤدي بالضرورة إلى القول بـ"نهاية العمل النضالي" و"بداية السلام السياسي"، ومن يدري فربما تطور أجيال قادمة نظريات قيادية جديدة تقوم على "السلام عبر الإنترنت" و"الفيس بوك" و"ماي سبيس"!
* تؤمن "نظرية عباس" بضرورة عدم وجود "رؤية محددة" و"صارمة"، فهو يعمل مع الجميع حتى مع "نيتنياهو" و"ليبرمان"، ويصر على أن يتعاطى مع كافة "المبادرات" دون شرط أو قيد أو توجيه يذكر، وكأن أبا مازن لا يريد أن يكون "طرفًا ثقيلاً" على أحد، فهو يردد دائمًا "كتر الله خيرهم"، مما يجعله يحجم عن التمسك أو الانطلاق من أطر أو سقوف محددة للمبادرات أو المفاوضات.
وما سبق يجعلنا نتوصل إلى أن نظرية عباس تلغي واحدة من أحدث النظريات القيادية وأكثرها شهرة وهي "نظرية القيادة التحويلية" Transformational Leadership، أو "نظرية القيادة بالرؤية" Visionary Leadership، كما تقلل من شأن نظرية حديثة أخرى هي "نظرية القيادة الكارزمية" Charismatic Leadership.
وفي المقابل تتكئ "نظرية عباس" على نظريتي قيادة شقيقتين هما: "النظرية الموقفية" Situational Theory، و"النظرية التفاعلية" Interactional Theory، وهما نظريتان عريقتان في الأدبيات العلمية، مما يومئ إلى عمق النظرية القيادية الجديدة وجدارتها المنهجية، كما أن ذلك يتيح للقيادة الفلسطينية "مزيدًا من المرونة التي تفضي إلى الحصول على "الحقوق" و"إحراج الخصم".. وفي هذا جدارة عملية متحققة!
* تتقاطع "نظرية عباس" مع نظرية قيادية أخرى هي "القيادة المتساهلة" Laissez-Faire، أو ما يعرف بأسلوب "دعه يعمل دعه يمر"، حيث تقرر النظرية الجديدة أن ذلك الأسلوب كفيل بخلق بيئة ترحب بالأفكار الخلاقة وغير الخلاقة التي تؤدي في النهاية إلى "تحقيق المصالح الفلسطينية العليا".. فكأن الأمور متروكة في المشهد السياسي والنضالي كي تتطور بشكل عفوي وتلقائي من جهة الذات الفلسطينية، طبعًا باستثناء محاولات "الطرق القوي"!
ولذلك لم نشهد أي تحرك حقيقي لرأب الصدع الفلسطيني أو إيجاد آلية متماسكة لإعادة هيكلة البناء السياسي وفق المعطيات الجديدة ومتطلباتها فضلا عن محاربة "الفساد المقنن" المستشري في السلطة الفلسطينية، بل لم تفلح القيادة الفلسطينية حتى في عقد الاجتماع الموسع المنتظر لحركة "فتح"!
خاتمة قيادية!
ولعلنا نختتم هذا المقال بعرض بعض الحقائق أو الأفكار الصلبة حول القيادة، ذلك أنها قد تعيننا على تقييم النظرية القيادية الجديدة والتعاطي معها كما ينبغي، لاسيما أنها باتت تتخلق داخل رحم "القضية رقم واحد" في عالمنا العربي والإسلامي.
* القيادة إيمان وكارزما ورؤية وإرادة وتحدّ..
* القيادة فعل ديناميكي يتأسس على رؤية واضحة، يعمل على تماسك المجموعة وتحقيق الهدف المشترك من خلال عمليات ذكية ومدروسة للتوجيه والضبط والإثارة لاتجاهات وسلوك أفراد الجماعة، بما يوصلهم إلى تحقيق ذلك الهدف المشترك بأعلى فاعلية ممكنة.
* الاختبار الحقيقي لأي قائد هو قدر ما يخلفه في الأتباع من الاقتناع والإلهام، والإرادة الصلبة على الإنجاز (والتر ليبمان).
* القائد الفعال هو من يفلح في جعل الظروف تعمل لصالحه (روجر فريتس).
* القادة الحقيقيون أناس عاديون ولكن بعزيمة استثنائية وتصميم فوق العادة (جون قارنز).
* "الانتصارات الإستراتيجية انتصارات مستدامة، أما الانتصارات "التعبوية" فهي "مؤقتة".. وكل قائد يستطيع أن يحرز انتصارات "تعبوية"، ولكن أثرها لا يبقى طويلا، فهي كالحريق في الهشيم يبدو قويا لأول وهلة ثم يخبو فلا يبقى منه غير الرماد.." (محمد شيت خطاب، بين العقيدة والقيادة).
* الحرية لا تمنح على جرعات.. فإما أن تكون حرًّا أو لا تكون.. والإنسان الحر كلما صعد جبلاً عظيمًا رأى جبلاً آخر يجب صعوده.. وإذا خرجت من السجن في نفس الظروف التي اعتقلت فيها، فإن علي أن أمارس الأعمال ذاتها التي أدخلتني إياه! (نيلسون مانديلا).
وأخيرا أرجو أن لا نكون -مثقفين وسياسيين- كالقائد "المزيف" الذي لا يخلق غير الصخب والضجيج... صخب الكلمة وضجيج المشاعر...
ومن المؤكد أن ثمة حاجة ماسة كي نكون أكثر صدقًا وشفافية من جهة، وأعلى موضوعية ودقة من جهة ثانية في تقييم أدائنا في قضيتنا المحورية!
اقرأ أيضاً:
نداء للمثقفين العرب ولعمرو موسى وللأنظمة العربية! / إعادة إعمار غزة.. سيناريوهات متوقعة! / إعادة تشكيل الإطار السياسي الفلسطيني/ كتاب غزة