الطفل يجمع بين جمال الفطرة، وقسوة البدائية القاتلة، وجمال الطزاجة، وسلبيات البراءة!!!
من منا يعرف ذلك؟
من منا يستطيع أن يتحمل رؤية أو تصور كل هذه التناقضات ليستوعبها وهو يتعامل مع طفله، أو يقوم بتربيته؟
من منا يبحث عن طفله بداخله، والذي ما زال يحمل كل ذلك معا،
من منا يعرف أنه بغير مواجهة هذا التناقض وقبوله ليتحرك، لن نتكامل أبدا.
كيف نرى الطفل؟ وكيف نتعلم منه؟
هل تسعفنا المناهج التقليدية، وهل تكفي المراجع الأكاديمية؟
قلت مكررا بصريح العبارة أنني تعلمت عن نفسية الطفل من قراءتي النقدية لديستويفسكي (مثلا): "نيتوتشكا نزفانوفا، والفارس الصغير"، ما لم يصلني من كل مراجعي العلمية عن الأطفال، ثم إني حين قارنت شعر شوقي للأطفال بقصص هانز كريستيان أندرسون "أطفالنا: بين روح الشعر ونظم الحكمة" (وجهات نظر - مارس 2005) شعرت أن الأخير هو الذي يكتب الشعر مقارنة برجز الأول الشديد الجودة. أندرسون يبحر في طبقات وعي الأطفال بطلاقة سلسة غامضة مفجرة، أما شوقي، فهو بكل رقته وحذقه يخاطب سلوك الأطفال، وينمي أخلاقهم، ويسخر من خلالهم بالكبار وبالساسة، بشكل رشيق خفيف ظريف مسل، ودمتم.
حين كتبت في يومية 30 سبتمبر أن الأطفال يمتلكون وسائل معرفية أبسط وأعمق تجعلهم يدركون بشكل مباشر ما يعيشه الصوفي في علاقته بالله أحسن منا، قلت بعد أن عقدتها بكلام شديد الصعوبة "... أحيانا أشعر أن هذا الكلام شديد البساطة –أي والله- فأنسى نفسي وكأني لا أعلم ما آلت إليه أقفال العقول التي أغلقت بمنظومات علمية سطحية، أو دينية مؤسساتية، فأرجع للأطفال أخاطبهم، فأجد خطابهم أسهل، وأنا واثق أن إدراكهم أبسط وأعمق معا".
أضفت في آخر هذه اليومية حوارا غنائيا بين طفلين يمتدون بدهشتهم حتى يحبون الله وهم يتعرفون عليه بأدوات الفطرة المباشرة التي هي هي ما يشحذها المتصوفة، وهم يحاولون تدريبنا عليها، ولم يعقب أي من المتحاورين على الربط بما يدفعني لمزيد من الشرح.
كل القنوات المعرفية التي أحاول تقديمها، لنتعرف بها على أنفسنا نجدها عند الأطفال والأميين، ليس بمعنى البدائية، وإنما بمعنى "ما لم يتشوه بعد". يبدو أننا نمحو الفطرة مع محو الأمية، فنرجع أميين نعرف القراءة الكتابة، وتموت الفطرة!!
ما لم نحافظ على آليات المعرفة التي تميزنا أطفالا، فسوف نظر بشرا مبتسرين حتى نقضى مشوهين، بعد أن نجهض مسيرتنا إليه.
إن الذي يأخذ مسألة محاولة التعرف على الأطفال بعمق كاف، لابد أن يتحمل كل النقائض، أحيانا أشعر أن اختزال الطفل إلى ذلك الكيان الدمية هو جريمة ليست أقل من التركيز على براءته البلهاء وإغفال كل ما عدا ذلك.
نحن نصور الأطفال لأنفسنا كما نشتهي، لا كما هم، داخلنا أو خارجنا.
أطفال التلفزيون، وأطفال مواثيق حقوق الأطفال، وأطفال الفيديو كليب ليسوا أطفالا
فمن هم الأطفال؟
فيما يلي صورا مختلفة لبعض تجليات للطفولة، وهى شديدة التنوع حتى التضاد أحيانا، لكنها في مجموعها لا تمثل إلا الأطفال هم هم، وليسوا هم الذين نرسمهم لنا.
1) يستشهد مؤلف جاد بقول المسيح عليه السلام لأتباعه أنهم لن يدخلوا ملكوت الله، (أي الإحاطة بأسرار الإنجيل، في رأى المؤلف: حارث الشوكاني: كتاب البرهان في بيان عقيدة التوحيد من الإنجيل والتوراة والقرآن) إلا إذا تعلموا تعليما جديدا كما يتعلم الأطفال، نقرأ هذا النص:
".. ودنا التلاميذ في ذلك الوقت إلى يسوع، وسألوه من هو الأعظم في ملكوت السموات، فدعى يسوع طفلا وأقامه في وسطهم، وقال: لحق أقول لكم، إن كنت لا تتغيرون وتصيرون مثل الأطفال فلن تدخلوا ملكوت الله، من اتضع وصار مثل هذا الطفل، فهو الأعظم في ملكوت السماوات...." متى (18).
المسيح عليه السلام لا يدعونا إلى أن نرتد أطفالا، ولكنه ينبهنا أن نحافظ على طزاجة طفولتنا التي نتعرف بها على الطريق إلى ملكوت الله..، التغير لنصير أطفال هو شحذ أدوات المعرفة جميعا بما في ذلك كيف يعرف الطفل الدنيا وهو يتطور ليكتسب أدوات جديدة دون أن يفقد أدواته الأولى.
2) تلك هي المسألة الصعبة، هذا ما قلته منذ سنة 1972 في ديواني سر اللعبة، ثم شرحته بإفاضة في "دراستي في السيكوباثولوجي"
لن ينجو أحد من هول الزلزال
إلا من أطلق للطفل سراحه
كي يضعف... أو يخطئ... أو يفعلها
لن ينجو أحد من طوفان الحرمان،
إلا من حل المسألة الصعبة،
أن نعطى للطفل الحكمة والنضج،
دون مساس بطهارته، ببراءته، بحلاوة صدقه،
أن نصبح ناسا بسطاء، لكن في قوة،
أن نشرب من لبن الطيبة سر القدرة،
كي نُهلك -حبا- غول الشر المتحفز
بالإنسان الطيب
***
هل يمكن؟؟
هل يمكن أن نجعل من ذاك الحيوان الناطق:
إنسانا يعرف كيف يدافع عن نفسه..
ببراءة طفل،
وشجاعة إنسان لا يتردد... في قول الحق،
بل في فرضه؟
تلك هي المسألة الصعبة.
هل يمكن؟؟
هل يمكن أن نضعف دون مساس بكرامتنا؟
أن نضعف كيما نقوى
أن يصرخ كل جنين فينا حتى يُسمع
***
أن نطلق قيد الطفل بلا خوف وبلا مطمع
أن يعرف أنا لا نرجو منه شيئا..
إلا أن يصبح أسعد منا
ألا يـُخدع
.....
.....
لكن كيف؟
سأقول لكم كيف...
كيف 'يكون' الإنسان الحر،
يترعرع في أمن الخير
ينمو في رحم الحب
حب الكل بلا قيد أو شرط
حب لا يسأل كم... أو كيف...
أو حتى من؟
حب يقبل خطئي قبل نجاحي
حب يقظ يمنعني أن أتمادى
يسمح لي أن أتراجع
حب الأصل، لا حب المظهر والمكسب
وبريق الصنعهْ،
حب يبنى شيئا آخر غير هياكل بشرية،
تمشى في غير هدى،
تلبس أقنعة المال، أو نيشان السلطة
سأقول لكم كيف:
بالألم الفعل،
والناس الحب
ينمو الإنسان:
طفلا عملاقا أكمل،
يسعى نحو الحق القادر
مثل الأول.... مثل الآخر
والقامة تمتد إلى ما بعد الرؤية
3) ذات مرة أخرى، في أوائل السبعينيات، كنت جالسا على شاطئ النيل ومعي صديقاي (5،7 سنوات: أحمد، وعلى: أحدهما الآن مهندس ملتح وزوجته منقبة!!!!، والآخر، استشاري جراحة عظام في إنجلترا)، وكنا ننتظر حتى نؤجر مركبا، أصحبهما فيه، أنا أمسك بالمجدافين وهما يهللان لعبا في الماء بأيديها، رأينا طفلين آخرين، يتعلمان الصيد، لعلهما ولدين لصياد ما، كان مركبهما يتهادى وهما يحاولان بإصرار جميل، فكتبت قصيدة بعنوان: "العقلة والإصبع" أصف ما وصلني:
وبغيرٍ شراعٍ أو دفةْ
سارَ المركبْ،
نزل صبيّانِ إلى الميدانِ بدون سلاحْ
أحدهما جلس على المجداف يحركه:
عقلة إصبعْ،
والآخر يلقي بالشبكة:
شبراً شبراَ
والنيلُ تمطى في سأمٍ،
أغمض جفـنَهْ،
وتناوم يرفض لعبتهم،
أخفى سمَكَهْ،
والإصبعُ يجذبُ حبل الأملٍ يطاولـُهُ
تفلتُ منهُ بعضُ خيوطِـهْ
يجذبُ أخرَى،
وأخـَيْـرَى تجذبـه نحوى،
لكن النيلَ يعاندهُ،
والأملً يعودً يعاودهً
وبعيدا في وسط الحلقة... لاحتْ سمكة،
فأضاءت في وجه العقلهْ.. قمراً بدْرَا،
والإصبعُ قفزَ من الفرحةْ ـ إذْ أمسكَهـَا
وقـُبَـيْـلَ طلوعِ الروح تمايلتِ المركبْ
قفزتْ في النهرِ عروسُ البحرِ بدون وداع..،
والعقلةُ نظرتْ للإصبعْ، وتنهدتا،..
وتحركَ قاربُـنا يسعى...
أتبعَ سببا.
وجه الطفولة الآخر:
أما الوجه الآخر للطفولة البدائية المنفصلة، التي تصل إلى حد القتل البارد، فهو موجود أيضا وتماما داخلنا وخارجنا مهما حاولنا أن نطمسه، بل إن اعترافنا به هو الذي يقلبه قوة إيجابية عل مسار النمو والتكامل، لا تنزعجوا ولنتذكر معا:
• هل رأيتم طفلا يقضم رقبة عصفور وهو يضحك؟
• هل رأيتم أطفالا تسحب قطة مربوطة من رقبتها بحبل متين رفيع، أو سلك صلب حتى تموت؟
• هل سمعتم المثل الصيني الذي يقول:
"يقذف الأطفال الضفادع بالحجارة وهم يمزحون، ولكن الضفادع تموت جـِدّا لا هزلا..."
ألهمني هذا المثل وأنا أصور هذا الجانب الآخر للطفولة (الذي يكمن داخل القتلة الظلمة الكبار كأبشع ما يكون) ألهمني هذه القصيدة بعنوان الأطفال والضفدع:
-1-
أمطرتِ النارُ الناسَ حجارهْ
. . .
عرجتْ، رقصتْ، مالتْ، همدتْ
صاح الأطفالُ النظارة:
احذرْ ترجعْ للماءْ
-2-
زحف الحجرُ يفلطحُ وجهَ البسْمهْ
تابعهُ القاتلُ يتبخطرْ
وتناثرتِ البقعةْ
-3-
. . .
رفعوا حجرا أثقلْ
أشلاءٌ داميةٌ قلقةْ
-4-
- لم لا تتحركْ تهربْ؟
لم لا نكملْ نلعبْ؟
- حمقاءْ
حرمتـْنَا دورا أجملْ
مفروضٌ أن تبقى حيهْ
حتى نكملْ نلعبْ
- لكن يمكننا الآنْ: قصْف الأحشاء
والأشطرْ
يـدُميها أكثرْ
- دورٌ أسخفْ
فالفرحةُ واللذهْ
في القفزةِ والهزّهْ
-5-
وتساءلَ عابرْ:
لم خرجتْ من رحم الماءْ؟
لم ظلـّتْ حيّهْ؟
لم قفزتْ عرجتْ،
سكنتْ، ماتتْ؟
قالت سمكهْ:
[كانتْ رَفَضَـتْ رقصّ السلـّمْ]
- برْمَائيّة؟
ما أغباهَا كلمهْ
الذنبُ عليهَا
لم تحفظ قانون السادة:
"المقتول أحق بحكم الإعدام"
-6-
كتب القاضي:
- حيث يحقُّ لطفلِ القوةِ يلعبُ بالحريّهْ
يُمنحُ حق اللهوِ بقدرِ الأحياءْ
- حيثُ تقبـّلَ ذاك الأعزلُ شرط اللعبهْ.
يُقْتَلْ
- ماتْ!!!!
أذنبَ: حرم الأطفالَ الفرحهْ
حرمَ القاضي -أيضا- حُكْمًا مشمولاً بنفاذْ
-7-
- ولذلك:
"لزم التنبيه بألا تطلع روح الميت،
دون استئذان"
إذا كنا نريد أن نرى الأطفال على حقيقتهم، فعلينا أن ننسى هذا الاختزال الماحي للجانب الآخر من بدائيتهم، ذلك الجانب الذي سلختُه منفصلا، لأصف أبشع تجليات ما يسمى "البراءة" الخادعة أو السلبية في قصيدة علي أن أعتذر لكم وأنا أقدمها:
في هجاء البراءة
- 1-
براءةٌ ممتهنةْ،
تنازلتْْ عنْْ حوْلها والقوة
-2-
براءة بٌاهتةٌ
قد حال لونها وظلَّـلتْ
بالسهو والعمى
أحمَالي الثقال.
-3 -
براءةٌٌ قاسيةٌ
تقتل بالإغْفاِل والمسالمهْ،
وتلصق الجريمهْ،
بموِتي اليقظْْ.
- 4-
براءةٌٌ ساكنةٌٌ
تقطعت أطرافها، فساحت الحدود
مائْعة ٌمرتجّةْ.
- 5-
براءةٌٌ زاحفةٌٌ مبتلةْ،
قد سيَّّّبت مقابض الأفكار.
براءةٌ سارقةٌٌٌٌ:
من فطرتي عبيرها وبعثها.
- 6-
براءةٌٌ جبانةٌ غبيةْ،... وكاذبةْ،
قد لوّحت لمثــــلنا،
بالجنة الموات والسكينة،
فناء ظهرُنا بكدْحـنا،
ومادت السفينة.
- 7-
بْراءةٌ مخاتلةْ،
وتاجرةْ
تُطل من بسمتها المسطحةْ،
معالمُ المؤامرةْ
والصفقة الخفيةْ.
- 8-
براءةٌٌ مشلولةٌ،
تنتف ريشَ نورسٍ محلـِّق معاندٍٍ
تحشِى به الوسادةٌ،
تزيّن القلادةٌٌ.
-9-
تكاثـرَ الجرادْ
جــحـافلُ البــشـرْ،
كـالــدودِ والجـــــذورْ،
تغوص في اشتياق،
فْي الطين والعفنْ.
28/4/1982
حتى لا تنزعجوا، هذه البراءة البشعة، برغم أنها أرجعتنا إلى أجمل أقذر أصل الإنسان الأصيل، إلا أنها ليست هي هي الطفولة طبعا، إنها الجانب الآخر، الذي بدونه سنظل نتعامل مع الأطفال الذين في أذهاننا، لا الذين خلقهم الله
………….
تخفيفا لما أصابكم، كما أصابني، أختتم اليوم بتقديم، صورة رقيقة حانية من طاغور، تؤكد خصوصية واختراق المعرفة الطفلية الفطرية الرائقة المخترقة، (أصل الصوفية) عنوان القصيدة "درب الطفل"
".. إن الطفل الصغير يحيط بجميع ضروب الكلام السديد، غير أن الذين يدركون معناها قلائل.
فليس عبثا ألا يرغب في الكلام
....
إن في حوزة الطفل الصغير أكواما من الذهب واللآلئ،"
ثم يصف طاغور اللغة بين الطفل وأمه فيقول
"..... لم يكن الطفل يعرف البكاء، كان يسكن أرض الغبطة، (أما الآن) فلديه سبب يحمله على ذرف الدموع، أجل، رغم أنه يداعب بابتسامة من وجهه أوتار قلب أمه فإن نشيجها الرقيق المنبثق من ألامه الصغيرة، هو الذي ينسج بينه وبين أمه رباطا مزدوجا من الحب والرحمة"
......
ولنا عودة
وعودة
نقلا عن يومية الإنسان والتطور على موقع أ.د.يحي الرخاوي.
اقرأ أيضا:
تعتعة: فحتى المحاكاة ليسوا لها/ تعتعة سياسية يا رب سترك/ تعتعة سياسية تجاوز للعلم..ووشم للمرضى!/ تعتعة نفسية هل توجد عواطف سلبية؟