ذكرتُ في مقال سابق معنى كلمة وسواس في القرآن الكريم وكذلك في المعاجم العربية كما ذكرتُ معناها في الكتب الدينية القديمة وبينتُ ما استطعت الاهتداء إليه من أسباب الاختلاط في استخدام كلمة وسواس، ولكن الحقيقة التي ألمسها ويلمسها الكثيرون من العاملين في مجال الصحة النفسية والطب النفسي في بلادنا العربية هيَ أن هناكَ على مستوى الناس استعمالاتٌ أخرى لكلمة وسواس فهناك من يستخدمونها لوصف العديد من الاضطرابات النفسية دونَ تحديد لمجرد أن فكرةً ما غير مرغوبٍ فيها أو إحساسًا ما غير مرغوبٍ فيه يوجدُ لدى الشخص ويسبب له نوعًا من الضيق، ولكي يكونَ الكلام أوضح فإن كلمة موسوس تستخدم في كلام الناس بالمعاني التالية:
1- الوسواس = الشك: وقد يكونُ ذلك الشك متعلقًا بالأفعال من ناحية إتمامها على الوجه الأكمل أو حتى من ناحية فعلها من عدمه ويربطُ الناس بينَ هذا النوع من الشك وبين الثقة بالنفس كذلك ويرون في الوسوسة هنا دليلاً على عدم الثقة في النفس، أو قد يكونُ الشك متعلقًا بنوايا الناس الذين يتعامل معهم الشخص من عائلته أو جيرانه أو زملائه في العمل، وقد يكونُ الشك متعلقًا بإخلاص شريك الحياة زوجًا كان أو زوجةً مقابل خيانته؛
كل هذه الأنواعُ المتباينةُ من الأفكار والمشاعر التي لا يشترطُ أن تصل حدتها إلى حدة الوسواس القهري يسميها الناس وسواسا، فأما النوع الأول فقد يكونُ متعلقًا فعلاً بالوسواس القهري أو باضطراب الشخصية القسرية أو بالشخصية القسرية العادية حسب شدته بالطبع وأما النوعان الثاني والثالث فيتعلقان ببعدٍ آخر غير البعد الوسواسي، فهوَ أقربُ إلى البارانويا بحيث يمكنُ أن يكونَ متعلقًا بالشخصية البارنويدية أي الشخص العادي ذي السمات الزورانية (البارانويدية) Paranoid Personality أو باضطراب الشخصية الزورانية (البارانويدية) Paranoid Personality Disorder أو بالاضطرابات الوهامية Delusional Disorders ، وذلك أيضًا حسب شدة ثبات هذه الطريقة في التفكير أو هذه الفكرة وكثيرا ما يرجع الناس في تحليلاتهم هذا النوع من التفكير إلى عدم الثقة بالنفس.
ولعل للنوع الثالث المتعلق بالشك في إخلاص شريك الحياة خصوصيةٌ ترتبط بمجتمعنا العربي لأن الغيرة على شريك الحياة هيَ النقطة التي يبدأ من عندها متصل فكري شعوري يبدأ من مجرد الغيرة المحمودة في التراث الإسلامي مرورًا بالشك في إخلاص شريك الحياة، ودرجات هذا الشك المختلفة ووصولاً في نهاية المتصل أو طرفه الآخر إلى اضطراب الغيرة الوهامية (الضلالية) Delusion of Jealousy or Delusion of Infidelity وذلك أيضًا حسب شدة ثبات هذه الطريقة في التفكير أو هذه الفكرة، فبينما تكونُ أفكارُ الغيرة عابرةً عند البعض تكونُ شديدةً عند البعض الآخرَ بشكلٍ يجعلُ تصرفاتهم تشبهُ تصرفات مريض الوسواس القهري من ناحية تسلط الفكرة التي يدركُ عدم صحتها عليه ومن ناحية الأفعال التي يضطر لفعلها لكي يقلل من قلقه وبعضها محرجٌ وغير لائقٍ مثل التفتيش في حاجيات الزوجة أو فتح الرسائل الموجهة لها وحتى التفتيش عن آثار السائل المنوي في ملابسها الداخلية بعد عودتها من خارج البيت أو بعد غياب الزوج عن البيت لفترة إن كانت الزوجة لا تخرج، ومن بين هؤلاء أيضًا من تصل شدةُ اقتناعهم بالفكرة إلى حد الفكرة الوهامية؛
ومنهم من يتأرجحُ بين أفعال التهور والعدوان وبينَ مشاعر الندم على ما بدر منه تجاه زوجته وأم أولاده ويصلُّ الندمُ أحيانًا إلى حدود الاكتئاب بل ويصلُّ الحالُ بالبعض إلى محاولة الانتحار! وفي غالبية الحالات لا يعرف لا الزوج ولا المحيطينَ به رغم كل ما ذكرته أنا!، أن ما يحدثُ هو مرضٌ نفسي وإذا عرف الزوجُ فإن من الصعب جدًا في بلادنا إقناعهُ باللجوء إلى الطبيب النفسي، المهم أن معظم هذه الأفكار والمشاعر وإن شابه تصرفات الموسوسينَ وسماهُ الناس وسواسًا إلا أنهُ بعيدٌ إلى حد ما عن الاستعمال الطبي النفسي لكلمة وسواس، وبالرغم من ذلك أيضًا فإن كثيرين من الذين يعانون من الغيرة المرضية هم مرضى باضطراب الوسواس القهري كما تبين الحالة التالية:
كان فائزُ (وهذا ليس اسمه الحقيقي) شابًا في الخامسة والثلاثين من عمره، وظل يعاني منذ سنين مراهقته من أفكارٍ اقتحاميةٍ تتعلقُ بإيذاء نفسه أو الآخرين، كاندفاعاتٍ لأن يطعنَ نفسه أو غيره بالسكين كلما رأى سكينا، أو أن يقذفَ بنفسه من شرفة بيته كلما وقفَ فيها، كما عذبته أفكارٌ اجتراريةٌ تعلقت بالعادة السرية والشك في تأثيرها على قدرته الجنسية، إضافةً إلى صورٍ اقتحاميةٍ جنسية المحتوى، وأفكارِ اقتحامية تتعلقُ بالسب والتجرؤ على الذات الإلهية، وكذلك بسب من يكنُّ لهم كل احترام وتقدير من المحيطين به، ثم عانى لفترةٍ من أفكار الشك التسلطية المتعلقة بالطهارة وصاحبتها الأفعال القهرية المتمثلةُ في تكرار الوضوء وفي تغيير الملابس كلما اضطر للتبول واقفًا لسببٍ أو لآخر؛
المهم أنهُ في كل ذلك لم يلجأ لطبيبٍ نفسي، وبعد زواجه بشهرين فقط لجأ للطبيب النفسي تحت ضغط زوجته وأهلها لأنهُ كان يغير غيرةً عمياء كما وصفوها، فكان مجردُ اهتمام زوجته بمتابعة كلمات أي رجلٍ في أحد برامج التلفزيون يتسببُ في معاناته الشديدة والتي تأخذُ شكل الأفكار الاقتحامية والاجترارية المتعلقة بخيانة زوجته له، وكان مجردُ نظرها إلى وجه أيٍّ من أقربائها الرجال يتسببُ في شعوره بالضيق إلى حد الثورة، مما تسببَ في عديد من المشاكل بينه وبين زوجته وهما ما يزالان في شهور الزواج الأولى، وعندما سأل الطبيب زوجته عن سبب عدم ملاحظتها لذلك أيام الخطبة تبينَ أن خطبتها تمت من خلال أبي فائز لأن خطيبها يعمل في إحدى دول الخليج، وأن علاقتهما استمرت من خلال الدردشة على الإنترنت لمدة نصف سنة، وتزوجها بمجرد بدء إجازته الصيفية؛
وعندما تكلم معه الطبيبُ النفسي كانَ من بين ما قاله أن أحدًا لا يستطيعُ تخيلَ مشاعره أبدًا فالغيرةُ تعذبهُ، إنهُ لا يستطيعُ أن يتخيل أن زوجته يمكنُ أن تبتسمَ فيراها رجل آخر، ولا أن يستريح وقد أبدت إعجابها بإنجازٍ أي إنجازٍ أيا كان لرجل لآخر، وضرب مثلاً برسائل الهاتف الخلوي (المحمول)، فهو رغم ابتعادهما بسبب ظروف عمله لا يقبلُ أبدُا أن برسل لها رسالة مكتوبةً من خلال الهاتف الخلوي، لأن هذه الرسائل عادةً ما تكونُ من إبداعات آخرين، مثلا أنا أحبك ومعها رسمٌ للقلب، ماذا لو أن الرسم أعجب زوجته؟ بينما الرسم قام برسمه رجل آخر، ألا تكونُ زوجته قد أعجبت بما فعله ذلك الرجل الغريب، ونفس الكلام ينطبق على اللوحة المرسومة أو على قصةٍ مقروءةٍ بطلها رجل! كل ذلك يسقطني في دوامةٍ من الأفكار التي لا تنتهي! أنا أعرفُ أنني مريض، وأسأل الله أن يعينك على مساعدتي!
إذن فسلوكَ من يعاني من الغيرة المرضية قد يأخذُ شكلَ الوسوسة، ومن الممكنِ أن يكونَ موسوسًا ومن الممكن أن يكونَ ذهانيا، وأعتقدُ أنهُ لو أقبل بنفسه على الطبيب النفسي لكانَ أقربَ إلى أن يكونَ مريضًا باضطراب الوسواس القهري، لأن مرضى حالات الغيرة الوهامية غالبًا ما يرفضونَ العرض على الطبيب النفسي لأنهم لا يعترفون بأن ما هم فيه أصلاً علامةً على المرض، وقد تحسنت حالة فائز هذا بشكل كبير على أحد عقاقير علاج الوسواس القهري، ونفس التداخل ما بينَ مشاعر وسلوكيات الغيرة المرضية وبين اضطراب الوسواس القهري نلاحظهُ في حالات أخرى.
2- الوسواس = الخوفُ الزائد على الصحة: وكذلك توهم المرض وسرعة اللجوء للطبيب العام أو المختص لمجرد وجود عرض بسيطٍ عابر فرغم أن كل ذلك يعبر عنه الناس بأنه وسوسة أو وسواس إلا أن الأمر يمكن أن يتعلق إما بالقلق العادي المصحوب بخوف على الصحة Hypochondriacal Fears والذي تكفي فيه طمأنةُ الشخص لمرة واحدة على أنه ليس هناك ما يستدعي الخوف على صحته أو قد يتعلقُ بالاضطراب المراقي أو اضطراب توهم العلل البدنية من المستوى العصابي Hypochondriasis الذي يقتنع فيه المريضُ عندما يطمئنهُ الطبيبُ أو يبينُ له سلامتهُ الجسدية من خلال الأبحاث والفحوص الطبية التي تثبتُ أنهُ سليم لكن هذا الاطمئنانُ لا يدوم إلا قليلاً وينتقلُ المريضُ من طبيبٍ إلى آخرَ ويبدو وكأنهُ يبحثُ عن خبرٍ سيئٍ فيما يتعلقُ بصحته، وقد يتعلقُ الأمر أيضًا باضطراب توهم العلل البدنية الضلالي Hypochondriacal Delusional Disorder والذي يصلُّ فيه اقتناعُ المريض بأن لديه مرضًا خطيرًا إلى حدود الاعتقاد الراسخ الذي لا يفيدُ معهُ الإقناع أي أن الاضطراب يصبحُ اضطرابًا ضلاليًّا لأن الفكرة فيه أصبحت فكرةً ضلالية، كلُّ هذه الحالات يصف فيها الشخصُ نفسهُ كما يصفهُ الآخرون في مجتمعنا بأنهُ يعاني من الوسواس وذلك بالطبع مختلف عن الاستعمال الطبي النفسي للكلمة.
3- الوسواس = التشدد في الدين: وهذا استعمالٌ آخرَ ربما تكونُ له علاقةٌ أيضًا بالشخصية القسرية أو باضطراب الشخصية القسرية حيثُ يوجدُ من يشددون على أنفسهم في طقوسهم الدينية أو استعدادهم لأداء هذه الطقوس والحقيقةُ أن نسبةً غيرُ معروفةٍ من المسلمين يتصفونَ بهذه الصفة ويسميهم الناسُ موسوسين ومن المهم أن أبينَ أن بعض هؤلاء فقط قد يقع تحتَ عباءة اضطراب الوسواس القهري أو اضطراب الشخصية القهرية لكنَّ الوصف يستخدم كثيرًا للتعبير عن شيءٍ آخرَ هو التشدد في الدين وأحيانًـا في الفتوى والحقيقةُ أن الإسلام الحق بريءٌ من التشدد، وقد قام شيخُ الإسلام موفق الدين ابن قدامةَ المقدسي (541– 620 هجرية) بكتابة رسالة في ذم الموسوسين (معتز السيد عبد الله, 1996)أ؛
وصحيحٌ أن بينَ من وصفهم الشيخُ في رسالته تلك من يتشددون في الدين لأنهم أناسٌ عاديون فيهم بعضُ سمات الشخصية القسرية Compulsive Personality Traits الطبيعية بل والصِّحِّيـَّـةِ أحياناً، وبينهم من يتشددون في الدين لأنهم أصحابُ شخصيةٍ قسرية طبيعيةٍ أيضًا Compulsive Personality وبينهم من يتشددون في الدين لأنهم مرضى باضطراب الشخصية القسرية Compulsive Personality Disorder وهي مرضٌ نفسي منتشرٌ بين الناس وبينهم أيضًا من يتشددون في الدين ويوسوسون في أحكامه وفي فروضه ونوافله لا لشيءَ إلا لأنهم يعانون من اضطراب الوسواس القهري OCD ولكن الشيخ كانَ يواجهُ الموسوسين بكل ما هو متيسرٌ من العلم في زمنهِ، وربما كانت قسوته على الموسوسين ناتجةً عن ربطه الوسواس بالشيطان؛
ولعل في ذلك بعضًا من أسباب الخلط الحادث في مجتمعاتنا بينَ ما هوَ مرضٌ نفسي وما هوَ سمةٌ من سمات الناس وما هوَ متعلقٌ بالدينِ فقد وصف الشيخُ الجليلُ في القرن السادس أو السابع الهجري وصفًا دقيقًا لحال الموسوسين وقامَ بالرد على حُجَجِهم بما يجبُّ أن يردَّ به الطبيبُ النفسي المسلمُ حينَ يطبقُ مع مريضه العلاج المعرفي الإسلامي حتى اليوم مع استثناءٍ واحدٍ لا لوم على الشيخ فيه لمناسبته لعلوم عصره الدنيوية وهو نسبتهُ جميعَ أنواع الوساوس إلى الشيطان، وإنما العيبُ في رأيي يقعُ على الذين يعيشون في أيامنا هذه ولا يعرفونَ أن الوسواس القهري شيءٌ والوسواس الخناس شيءٌ آخر كما بينَّا من قبل.
وكم يؤلم الموسوسين في مجتمعاتنا العربية اجتهاد بعض طلبة العلوم الدينية بالاستشهاد بالأحاديث التي تنهي عن التنطع والغلو في الدين في حق الموسوسين مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم فإن قوماً شددوا على أنفسهم فتشدد الله عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديار: رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم" صدقَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو وقفنا مع كلمة واحدة من هذا الحديث (لا تشددوا) لربما بان لنا الفرق بين التشدد في الدين وبين اضطراب الوسواس القهري، فالتشدد هو الغلو والتنطع في الدين النابع من ذات الفرد وبإرادته وتقرباً منه إلى الله، بل ويستنقص غيره ممن لا يفعلون فعله مثلما كان من أولئك النفر الثلاثة الذين جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أحدهم أنه يصوم ولا يفطر وقال الآخر أنه يصلي ولا ينام وقال الثالث بأنه لا يتزوج النساء فأنكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك؛ أما الموسوس فأمره مختلف تماماً، فهو يشكو لكل أحد من وسواسه، ويتألم منه، ويستفتي أهل العلم الديني في حاله، ويتردد على الأطباء، ويدعو الله أن يخلصه منها، ويقاومها فيفرح أشد الفرح إذا تغلب على الوسواس ويحزن أشد الحزن إذا غلبه الوسواس (وائل أبو هندي ،2002 ص90).
4- الوسواس = الاهتمام الزائد: وهذا معنى آخرَ ربما يقفُ وراء المعاني السابقة، لأنها كلها في الحقيقة تعني اهتمامًا زائدًا، وقد قصدتُ من إشارتي لهذا المعنى أن أبينَ استخدام بعض العرب لكلمة الوسواس للدلالة على كونِ شخصٍ ما منغمسًا إلى حد كبيرٍ في موضوعٍ ما غير الشك أو الخوف على الصحة أو التشدد في الدين، وربما كانَ هذا الموضوعُ قضيةً عامةً أو خاصةً أو فكرةً يدعو لها أو يهتمُّ بها.
المراجع:
1- معتز السيد عبد الله (1996)أ : عرض كتاب ذم الموسوسين لابن قدامة المقدسي ، في : علم النفس في التراث الإسلامي: الجزء الثاني "سلسلة تيسير التراث (2)" إصدارات المعهد العالمي للفكر الإسلامي . القاهرة 1996 صفحة 398.
2- وائل أبو هندي (2002) : نحوَ طب نفسي إسلامي : سلسلة التنوير الإسلامي (58) دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع.
واقرأ أيضاً:
وسواس: تعبير حان شطبه من الطب النفسي
1- الوسواس = الشك: وقد يكونُ ذلك الشك متعلقًا بالأفعال من ناحية إتمامها على الوجه الأكمل أو حتى من ناحية فعلها من عدمه ويربطُ الناس بينَ هذا النوع من الشك وبين الثقة بالنفس كذلك ويرون في الوسوسة هنا دليلاً على عدم الثقة في النفس، أو قد يكونُ الشك متعلقًا بنوايا الناس الذين يتعامل معهم الشخص من عائلته أو جيرانه أو زملائه في العمل، وقد يكونُ الشك متعلقًا بإخلاص شريك الحياة زوجًا كان أو زوجةً مقابل خيانته؛
كل هذه الأنواعُ المتباينةُ من الأفكار والمشاعر التي لا يشترطُ أن تصل حدتها إلى حدة الوسواس القهري يسميها الناس وسواسا، فأما النوع الأول فقد يكونُ متعلقًا فعلاً بالوسواس القهري أو باضطراب الشخصية القسرية أو بالشخصية القسرية العادية حسب شدته بالطبع وأما النوعان الثاني والثالث فيتعلقان ببعدٍ آخر غير البعد الوسواسي، فهوَ أقربُ إلى البارانويا بحيث يمكنُ أن يكونَ متعلقًا بالشخصية البارنويدية أي الشخص العادي ذي السمات الزورانية (البارانويدية) Paranoid Personality أو باضطراب الشخصية الزورانية (البارانويدية) Paranoid Personality Disorder أو بالاضطرابات الوهامية Delusional Disorders ، وذلك أيضًا حسب شدة ثبات هذه الطريقة في التفكير أو هذه الفكرة وكثيرا ما يرجع الناس في تحليلاتهم هذا النوع من التفكير إلى عدم الثقة بالنفس.
ولعل للنوع الثالث المتعلق بالشك في إخلاص شريك الحياة خصوصيةٌ ترتبط بمجتمعنا العربي لأن الغيرة على شريك الحياة هيَ النقطة التي يبدأ من عندها متصل فكري شعوري يبدأ من مجرد الغيرة المحمودة في التراث الإسلامي مرورًا بالشك في إخلاص شريك الحياة، ودرجات هذا الشك المختلفة ووصولاً في نهاية المتصل أو طرفه الآخر إلى اضطراب الغيرة الوهامية (الضلالية) Delusion of Jealousy or Delusion of Infidelity وذلك أيضًا حسب شدة ثبات هذه الطريقة في التفكير أو هذه الفكرة، فبينما تكونُ أفكارُ الغيرة عابرةً عند البعض تكونُ شديدةً عند البعض الآخرَ بشكلٍ يجعلُ تصرفاتهم تشبهُ تصرفات مريض الوسواس القهري من ناحية تسلط الفكرة التي يدركُ عدم صحتها عليه ومن ناحية الأفعال التي يضطر لفعلها لكي يقلل من قلقه وبعضها محرجٌ وغير لائقٍ مثل التفتيش في حاجيات الزوجة أو فتح الرسائل الموجهة لها وحتى التفتيش عن آثار السائل المنوي في ملابسها الداخلية بعد عودتها من خارج البيت أو بعد غياب الزوج عن البيت لفترة إن كانت الزوجة لا تخرج، ومن بين هؤلاء أيضًا من تصل شدةُ اقتناعهم بالفكرة إلى حد الفكرة الوهامية؛
ومنهم من يتأرجحُ بين أفعال التهور والعدوان وبينَ مشاعر الندم على ما بدر منه تجاه زوجته وأم أولاده ويصلُّ الندمُ أحيانًا إلى حدود الاكتئاب بل ويصلُّ الحالُ بالبعض إلى محاولة الانتحار! وفي غالبية الحالات لا يعرف لا الزوج ولا المحيطينَ به رغم كل ما ذكرته أنا!، أن ما يحدثُ هو مرضٌ نفسي وإذا عرف الزوجُ فإن من الصعب جدًا في بلادنا إقناعهُ باللجوء إلى الطبيب النفسي، المهم أن معظم هذه الأفكار والمشاعر وإن شابه تصرفات الموسوسينَ وسماهُ الناس وسواسًا إلا أنهُ بعيدٌ إلى حد ما عن الاستعمال الطبي النفسي لكلمة وسواس، وبالرغم من ذلك أيضًا فإن كثيرين من الذين يعانون من الغيرة المرضية هم مرضى باضطراب الوسواس القهري كما تبين الحالة التالية:
كان فائزُ (وهذا ليس اسمه الحقيقي) شابًا في الخامسة والثلاثين من عمره، وظل يعاني منذ سنين مراهقته من أفكارٍ اقتحاميةٍ تتعلقُ بإيذاء نفسه أو الآخرين، كاندفاعاتٍ لأن يطعنَ نفسه أو غيره بالسكين كلما رأى سكينا، أو أن يقذفَ بنفسه من شرفة بيته كلما وقفَ فيها، كما عذبته أفكارٌ اجتراريةٌ تعلقت بالعادة السرية والشك في تأثيرها على قدرته الجنسية، إضافةً إلى صورٍ اقتحاميةٍ جنسية المحتوى، وأفكارِ اقتحامية تتعلقُ بالسب والتجرؤ على الذات الإلهية، وكذلك بسب من يكنُّ لهم كل احترام وتقدير من المحيطين به، ثم عانى لفترةٍ من أفكار الشك التسلطية المتعلقة بالطهارة وصاحبتها الأفعال القهرية المتمثلةُ في تكرار الوضوء وفي تغيير الملابس كلما اضطر للتبول واقفًا لسببٍ أو لآخر؛
المهم أنهُ في كل ذلك لم يلجأ لطبيبٍ نفسي، وبعد زواجه بشهرين فقط لجأ للطبيب النفسي تحت ضغط زوجته وأهلها لأنهُ كان يغير غيرةً عمياء كما وصفوها، فكان مجردُ اهتمام زوجته بمتابعة كلمات أي رجلٍ في أحد برامج التلفزيون يتسببُ في معاناته الشديدة والتي تأخذُ شكل الأفكار الاقتحامية والاجترارية المتعلقة بخيانة زوجته له، وكان مجردُ نظرها إلى وجه أيٍّ من أقربائها الرجال يتسببُ في شعوره بالضيق إلى حد الثورة، مما تسببَ في عديد من المشاكل بينه وبين زوجته وهما ما يزالان في شهور الزواج الأولى، وعندما سأل الطبيب زوجته عن سبب عدم ملاحظتها لذلك أيام الخطبة تبينَ أن خطبتها تمت من خلال أبي فائز لأن خطيبها يعمل في إحدى دول الخليج، وأن علاقتهما استمرت من خلال الدردشة على الإنترنت لمدة نصف سنة، وتزوجها بمجرد بدء إجازته الصيفية؛
وعندما تكلم معه الطبيبُ النفسي كانَ من بين ما قاله أن أحدًا لا يستطيعُ تخيلَ مشاعره أبدًا فالغيرةُ تعذبهُ، إنهُ لا يستطيعُ أن يتخيل أن زوجته يمكنُ أن تبتسمَ فيراها رجل آخر، ولا أن يستريح وقد أبدت إعجابها بإنجازٍ أي إنجازٍ أيا كان لرجل لآخر، وضرب مثلاً برسائل الهاتف الخلوي (المحمول)، فهو رغم ابتعادهما بسبب ظروف عمله لا يقبلُ أبدُا أن برسل لها رسالة مكتوبةً من خلال الهاتف الخلوي، لأن هذه الرسائل عادةً ما تكونُ من إبداعات آخرين، مثلا أنا أحبك ومعها رسمٌ للقلب، ماذا لو أن الرسم أعجب زوجته؟ بينما الرسم قام برسمه رجل آخر، ألا تكونُ زوجته قد أعجبت بما فعله ذلك الرجل الغريب، ونفس الكلام ينطبق على اللوحة المرسومة أو على قصةٍ مقروءةٍ بطلها رجل! كل ذلك يسقطني في دوامةٍ من الأفكار التي لا تنتهي! أنا أعرفُ أنني مريض، وأسأل الله أن يعينك على مساعدتي!
إذن فسلوكَ من يعاني من الغيرة المرضية قد يأخذُ شكلَ الوسوسة، ومن الممكنِ أن يكونَ موسوسًا ومن الممكن أن يكونَ ذهانيا، وأعتقدُ أنهُ لو أقبل بنفسه على الطبيب النفسي لكانَ أقربَ إلى أن يكونَ مريضًا باضطراب الوسواس القهري، لأن مرضى حالات الغيرة الوهامية غالبًا ما يرفضونَ العرض على الطبيب النفسي لأنهم لا يعترفون بأن ما هم فيه أصلاً علامةً على المرض، وقد تحسنت حالة فائز هذا بشكل كبير على أحد عقاقير علاج الوسواس القهري، ونفس التداخل ما بينَ مشاعر وسلوكيات الغيرة المرضية وبين اضطراب الوسواس القهري نلاحظهُ في حالات أخرى.
2- الوسواس = الخوفُ الزائد على الصحة: وكذلك توهم المرض وسرعة اللجوء للطبيب العام أو المختص لمجرد وجود عرض بسيطٍ عابر فرغم أن كل ذلك يعبر عنه الناس بأنه وسوسة أو وسواس إلا أن الأمر يمكن أن يتعلق إما بالقلق العادي المصحوب بخوف على الصحة Hypochondriacal Fears والذي تكفي فيه طمأنةُ الشخص لمرة واحدة على أنه ليس هناك ما يستدعي الخوف على صحته أو قد يتعلقُ بالاضطراب المراقي أو اضطراب توهم العلل البدنية من المستوى العصابي Hypochondriasis الذي يقتنع فيه المريضُ عندما يطمئنهُ الطبيبُ أو يبينُ له سلامتهُ الجسدية من خلال الأبحاث والفحوص الطبية التي تثبتُ أنهُ سليم لكن هذا الاطمئنانُ لا يدوم إلا قليلاً وينتقلُ المريضُ من طبيبٍ إلى آخرَ ويبدو وكأنهُ يبحثُ عن خبرٍ سيئٍ فيما يتعلقُ بصحته، وقد يتعلقُ الأمر أيضًا باضطراب توهم العلل البدنية الضلالي Hypochondriacal Delusional Disorder والذي يصلُّ فيه اقتناعُ المريض بأن لديه مرضًا خطيرًا إلى حدود الاعتقاد الراسخ الذي لا يفيدُ معهُ الإقناع أي أن الاضطراب يصبحُ اضطرابًا ضلاليًّا لأن الفكرة فيه أصبحت فكرةً ضلالية، كلُّ هذه الحالات يصف فيها الشخصُ نفسهُ كما يصفهُ الآخرون في مجتمعنا بأنهُ يعاني من الوسواس وذلك بالطبع مختلف عن الاستعمال الطبي النفسي للكلمة.
3- الوسواس = التشدد في الدين: وهذا استعمالٌ آخرَ ربما تكونُ له علاقةٌ أيضًا بالشخصية القسرية أو باضطراب الشخصية القسرية حيثُ يوجدُ من يشددون على أنفسهم في طقوسهم الدينية أو استعدادهم لأداء هذه الطقوس والحقيقةُ أن نسبةً غيرُ معروفةٍ من المسلمين يتصفونَ بهذه الصفة ويسميهم الناسُ موسوسين ومن المهم أن أبينَ أن بعض هؤلاء فقط قد يقع تحتَ عباءة اضطراب الوسواس القهري أو اضطراب الشخصية القهرية لكنَّ الوصف يستخدم كثيرًا للتعبير عن شيءٍ آخرَ هو التشدد في الدين وأحيانًـا في الفتوى والحقيقةُ أن الإسلام الحق بريءٌ من التشدد، وقد قام شيخُ الإسلام موفق الدين ابن قدامةَ المقدسي (541– 620 هجرية) بكتابة رسالة في ذم الموسوسين (معتز السيد عبد الله, 1996)أ؛
وصحيحٌ أن بينَ من وصفهم الشيخُ في رسالته تلك من يتشددون في الدين لأنهم أناسٌ عاديون فيهم بعضُ سمات الشخصية القسرية Compulsive Personality Traits الطبيعية بل والصِّحِّيـَّـةِ أحياناً، وبينهم من يتشددون في الدين لأنهم أصحابُ شخصيةٍ قسرية طبيعيةٍ أيضًا Compulsive Personality وبينهم من يتشددون في الدين لأنهم مرضى باضطراب الشخصية القسرية Compulsive Personality Disorder وهي مرضٌ نفسي منتشرٌ بين الناس وبينهم أيضًا من يتشددون في الدين ويوسوسون في أحكامه وفي فروضه ونوافله لا لشيءَ إلا لأنهم يعانون من اضطراب الوسواس القهري OCD ولكن الشيخ كانَ يواجهُ الموسوسين بكل ما هو متيسرٌ من العلم في زمنهِ، وربما كانت قسوته على الموسوسين ناتجةً عن ربطه الوسواس بالشيطان؛
ولعل في ذلك بعضًا من أسباب الخلط الحادث في مجتمعاتنا بينَ ما هوَ مرضٌ نفسي وما هوَ سمةٌ من سمات الناس وما هوَ متعلقٌ بالدينِ فقد وصف الشيخُ الجليلُ في القرن السادس أو السابع الهجري وصفًا دقيقًا لحال الموسوسين وقامَ بالرد على حُجَجِهم بما يجبُّ أن يردَّ به الطبيبُ النفسي المسلمُ حينَ يطبقُ مع مريضه العلاج المعرفي الإسلامي حتى اليوم مع استثناءٍ واحدٍ لا لوم على الشيخ فيه لمناسبته لعلوم عصره الدنيوية وهو نسبتهُ جميعَ أنواع الوساوس إلى الشيطان، وإنما العيبُ في رأيي يقعُ على الذين يعيشون في أيامنا هذه ولا يعرفونَ أن الوسواس القهري شيءٌ والوسواس الخناس شيءٌ آخر كما بينَّا من قبل.
وكم يؤلم الموسوسين في مجتمعاتنا العربية اجتهاد بعض طلبة العلوم الدينية بالاستشهاد بالأحاديث التي تنهي عن التنطع والغلو في الدين في حق الموسوسين مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم فإن قوماً شددوا على أنفسهم فتشدد الله عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديار: رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم" صدقَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو وقفنا مع كلمة واحدة من هذا الحديث (لا تشددوا) لربما بان لنا الفرق بين التشدد في الدين وبين اضطراب الوسواس القهري، فالتشدد هو الغلو والتنطع في الدين النابع من ذات الفرد وبإرادته وتقرباً منه إلى الله، بل ويستنقص غيره ممن لا يفعلون فعله مثلما كان من أولئك النفر الثلاثة الذين جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أحدهم أنه يصوم ولا يفطر وقال الآخر أنه يصلي ولا ينام وقال الثالث بأنه لا يتزوج النساء فأنكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك؛ أما الموسوس فأمره مختلف تماماً، فهو يشكو لكل أحد من وسواسه، ويتألم منه، ويستفتي أهل العلم الديني في حاله، ويتردد على الأطباء، ويدعو الله أن يخلصه منها، ويقاومها فيفرح أشد الفرح إذا تغلب على الوسواس ويحزن أشد الحزن إذا غلبه الوسواس (وائل أبو هندي ،2002 ص90).
4- الوسواس = الاهتمام الزائد: وهذا معنى آخرَ ربما يقفُ وراء المعاني السابقة، لأنها كلها في الحقيقة تعني اهتمامًا زائدًا، وقد قصدتُ من إشارتي لهذا المعنى أن أبينَ استخدام بعض العرب لكلمة الوسواس للدلالة على كونِ شخصٍ ما منغمسًا إلى حد كبيرٍ في موضوعٍ ما غير الشك أو الخوف على الصحة أو التشدد في الدين، وربما كانَ هذا الموضوعُ قضيةً عامةً أو خاصةً أو فكرةً يدعو لها أو يهتمُّ بها.
المراجع:
1- معتز السيد عبد الله (1996)أ : عرض كتاب ذم الموسوسين لابن قدامة المقدسي ، في : علم النفس في التراث الإسلامي: الجزء الثاني "سلسلة تيسير التراث (2)" إصدارات المعهد العالمي للفكر الإسلامي . القاهرة 1996 صفحة 398.
2- وائل أبو هندي (2002) : نحوَ طب نفسي إسلامي : سلسلة التنوير الإسلامي (58) دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع.
واقرأ أيضاً:
وسواس: تعبير حان شطبه من الطب النفسي