وأخيرًا استطعت أن أكتب مشكلتي وأرسلها لكم فلطالما أجلتها ليأسي من قدرة أحد على حلها لي إلا نفسي.. تسمون صفحتكم صفحة استشارات مجانين، لكن حقيقة الصفحة أنها إرشادات للتخلص من المشكلة، وهذا يعني أنه لا يوجد أحد في هذا العالم يحل مشكلة شخص آخر إلا نفس هذا الشخص.. قد أكون مخطئًا، ولكن لن يساعدني أحد إن لم أساعد نفسي، مشكلتي -التي أتمنى أن ترشدوني لطريقة أتبعها للتخلص مما أنا فيه- هي أني مهندس ولست مهندسًا.. تخرجت قبل سنة في الجامعة بتخصص الهندسة وكنت فرحًا جدًّا بهذا التخصص، ولكني أعتقد أني أفتقد متطلبات هذا المسمى الهندسي وهو الإبداع والذكاء والتفكير.
أنا الآن أعمل في كبرى شركات الشرق الأوسط، ولكني أفتقد لمهارات أفشل مهندس، مع أني تخرجت في الجامعة بتقدير جيد، وكنت ناجحًا في دراستي، ولكني صدمت بأدائي في الحياة العملية.. فقدت ثقتي بنفسي.. كنت متميزًا في اللغة الإنجليزية، ولكني لا أدري ماذا جرى لي الآن، أخشى من التفوّه بأي كلمة إنجليزية خشية الخطأ، أكون متأكدًا من المعلومة فأسكت خوفًا من أن تكون خاطئة، ويقال إني مهندس.. لا أعلم.. أخجل من السؤال.
يوجد عندي اعتقاد خاطئ، ولا أستطيع التخلص منه، وهو أن المهندس عليه أن يعلم كل شيء دون أن يسأل.. أخشى من السؤال لكي لا أظهر عدم علمي، وبالأخير تقع على رأسي.. أنا أعلم أن هذا تفكير خاطئ، ولكن نفسيتي الحساسة تمنعني من تغيير واقعي، وعدم قدرتي على احتمال النقص؛ فأهرب!! وانعكس هذا على واقع تعاملي مع مسؤولي؛ فقد لمس ضعفي، ونبهني بأسلوب متعالٍ ومتكبر زاد الطين بلّة بتغير أسلوبي بالعمل وأني لا أصلح.. هل أنتظر أن يقيلني، أم أستقيل بكرامتي التي هي عندي أغلى من كل أموال الدنيا.
أخلو بنفس كثيرًا وأبكي كلما لم أستطع تفسير شيء طلبه مني مسؤولي بالعمل، أفكّر كثيرًا بأني إن لم تكن لديّ القدرة على أن أكون مهندسًا ناجحًا فلأذهب لأي مجال آخر.. وأبدأ به حياتي.
عندما أغادر العمل أبقى قلقًا من اليوم التالي، وهكذا حياتي بين خوف من الفشل وأنا أرى الفشل أمام عيني يوميًّا.. في صباح يومي وقبل وصولي إلى مكتبي.. أكاد أنفجر بالبكاء ولا أدري لماذا، ولولا خوفي من أن تفضحني دموعي لعلا صوتي بالبكاء، ولكن عندما أنظر إلى زملائي المهندسين هناك من هم أسوأ مني، ولكنهم لا يتأثرون، بل ولا يواجهون أنفسهم.. هناك كثير من المواقف التي تواجههم لو واجهتها لحكمت على نفسي بالفشل، لكنهم لا يتأثرون بها أبدًا ولا يقتنعون بأنهم مخطئون، وأنا إلى الآن لا أستطيع تفسير نجاحي الأكاديمي وفشلي العملي.
ما أعتبره فشلاً في الحياة العملية لا يعتبره آخرون فشلاً.. مثلاً مسؤولي بالقسم تخصصه هندسة ميكانيكا، وخبرته العملية 13 سنة، وعنده قوة شخصية ومهارات قيادية قوية.. حاول تركيب نظام اتصال، ولكنه لم يستطع ولم تُفده خبرته الطويلة، ولكنه لم يتأثر ولم تؤثر هذه على نفسيته.. تخيلت لو كنت أنا مكانه لبقيت تحت تأثير هذا الفشل عدة أسابيع.. فطلب مني تشغيله.. فبفضل الله استطعت تشغيله، بل واكتشفت أن تركيبه وتشغيله تافه وصدمت من أن مسؤولي لم يستطع.
أصبحت أي مشكلة بهذا النظام التافه يلجئون فيها إليّ.. فأستغرب كيف يستطيعون تحمل الفشل دون التأثر به، ولكن مع قدرتي على فهم هذا النظام إلا أن لديّ قناعة أن هذا لا يعود لأني ماهر في هذا المجال، فلو حاول أي إنسان أن يفعل ما فعلت لنجح.. أكاد أجن وأفقد عقلي عندما أسمع أمي أو أبي يفتخرون أمام معارفنا بأني مهندس؛ فأتذكر فشلي فأكاد أبكي.. قرأت أن نابليون فشل في ثلث معاركه، ولكن نابليون الذي فشل كان يملك قدرات القائد العسكري، أما أنا لا أمتلك قدرات المهندس.
عرضت ما أعانيه من آلام الفشل لصديقي هو أيضًا مهندس مثلي.. قال لي إن ما أمتلكه من معلومات أكثر مما يمتلكه هو وغيره، وخلص بنتيجة أن نظرتي للمهندس نظرة مثالية غير واقعية وعدم قدرتي لأن أكون مهندسًا مثاليًّا تسبب لي انتكاسة، وأنه لا يوجد مهندس يستطيع تفسير أي شيء دون اللجوء إلى من لديهم خبرة أكبر أو إلى الكتب أو إلى الإنترنت.. اقتنعت بكلامه ولكني لا أستطيع أن أحتمل أني لا أعلم.. فماذا أفعل؟!.
قرأت كتاب ديل كرنجي "دع القلق وابدأ الحياة" ولكن دون جدوى.. لا أستطيع احتمال.. أي نظرة لي بالانتقاص.. فوالله في تلك اللحظة أمتلك القدرة الغبية على أن أفقد كل ما أملكه حتى لو كانت وظيفة يحلم بها الكثير من الناس.
نعم قد تقولون إنك غبي وأرعن وأبله.. لا يهمني، المهم أن أريح هذه النفس التي بين جنبي، في أحد الأيام ومن قلقي من اللحظة التي تخيفني في العمل، قررت عدم الذهاب.. أفكر أنه حتى لو انتقلت لمكان آخر فلن أفلح؛ فطبيعة الوظيفة واحدة، وهذا التعامل من طبيعة كل أصحاب العمل والموظفين في كل الشركات.. فلا مفر من المواجهة.
أفكر في أن أذهب وأعمل عملاً خاصًّا لي بمشروع بسيط، حتى لو لم يكن له علاقة بتخصصي، ولكن لو فعلت هذا -أنا أعرف نفسي- سأبقى نادمًا على تركي تخصصي الذي قضيت 4 سنوات في دراسته، والتخصص الذي أحبه نظريًّا وأكرهه عمليًّا.. علمًا بأني خاطب حديثًا وخطيبتي الأولى على دفعتها، وأنا أحبها جدًّا.. أنتظر انتهاء ساعات الجحيم لأستقطع ساعات راحة مقدسة أنعم بها مع هذه الإنسانة الرائعة.. ولا أستطيع احتمال أن تراني ضعيفًا أو فاشلاً في شيء!!.
وكعادة من يتأسفون على الإطالة أسف المجامل.
آسف على الإطالة.
30/04/2024
رد المستشار
شكراً على استعمالك الموقع.
يمكن صياغة مشكلتك من خلال ثلاثة أبعاد:
البعد الأول يتمثل في تدهور الثقة وعدم القبول بأن التطبيق العملي لأي اختصاص سواء كان في الهندسة أو الطب أو الاقتصاد يختلف عن الدراسة الأكاديمية تماماً. الحقيقة هي أن الإنسان يبدأ يتعلم من جديد بعد التخرج ويكون مؤهلاً لتعلم مهارات جديدة بسبب ثقافته العلمية. لا أحد يصل الكمال بتاتاً بعد المباشرة بالعمل ويجب ألا يتردد في التعلم من الآخرين وتصحيح مساره بين الحين والآخر. إذا لم يضع الإنسان نصب عينيه هذه الحقيقة فالنتيجة هي فقدان الثقة واعتزال الآخرين.
البعد الثاني لصياغة رسالتك يتمثل في شخصيتك التي تميل إلـى البحث عن الكمال ويتم استعمال مصطلح الشخصية الوسواسية لوصف سماتها. هذه الشخصية التي تبحث عن الكمال لا تصلح في مجال الهندسة ولا الطب وإنما في إدارة الأعمال والحسابات والتدقيق. على الإنسان أن يدرك هذا البعد في شخصيته ويتذكر بأن البحث عن الكمال نتيجته اليأس ويستعين بإرشادات زملائه والمشرف على عمله.
وأخيراً وهو ما أميل إليه هو إصابتك بنوبة اكتئاب جسيم، وهذا كثير الملاحظة في الممارسة المهنية. هناك العمل، مشروع الزواج، فقدان الأمل، القلق المستمر، البكاء وتدهور الوظائف المعرفية. نصيحة الموقع هو أن تتحدث مع طبيب نفساني وقد ينصحك باستعمال مضاد اكتئاب أو علاج معرفي سلوكي، ومن الأفضل الجمع بينهما.
وفقك الله.
واقرأ أيضًا:
كمالية وأعراض وسواسية وسمات قسرية!
الكمالية والسمات القسرية، وأخيرا الاكتئاب!