الصندوق الأسود لمذبحة "ذكرى" (سيكولوجية القاتل والمقتول)
كما يحدث في كوارث الطيران سنحاول فتح الصندوق (الملف) الأسود لهذا الحادث المروع بحثا عن دلالات تفك غموضه وعلامات نضعها على الطريق لعلها تمنع الوقوع في مثله أو أخطر منه في المستقبل، خاصة أن حوادث رجال الأعمال (أو بالأدق أبنائهم) قد زادت في مصر في السنوات الأخيرة بشكل يجعلها ترقى إلى مستوى الظاهرة التي يصبح تجاهلها خطأ جسيما يدفع ثمنه الجميع.
سيكولوجية الثروة والقدرة:
نحن أمام ثلاث نماذج للأثرياء: نموذج عصامي بنى نفسه بالكفاح والعمل الدءوب وهؤلاء نسميهم"منتجي الثروة" وغالبا يكونون متلزمين ومنضبطين حيث أنهم يعرفون قيمة الثروة التي تعبوا من أجلها، ولكن أبناء هؤلاء لا يكونون غالبا على هذا المستوى فهم يستمتعون بثروة آبائهم دون أن يتعبوا فيها ولذلك نسميهم "مستهلكي الثروة" وهذا هو النموذج الثاني، وهم يتميزون بالاستهتار واللامبالاة والنزق والطيش والاستغراق- طول الوقت- في البحث عن متعة البطن والفرج وغالبا ما تكون عقولهم فارغة من أي ثقافة أو علم يرشد سلوكهم أو يضبط اندفاعاتهم. وهناك نموذج ثالث لم يتعب في تكوين ثروته وإنما حصل عليها بالتحايل على البنوك أو على الأفراد، وهذا النموذج يحمل تركيبة نفسية سيكوباتية فاسدة تستخدم الثروة في شراء الضمائر وشراء الشهرة وشراء المتع والملذات وهم بالتالي بؤر فساد وإفساد في المجتمع ويساعد المال الذي اغتصبوه على توسيع دوائر الفساد كل يوم، وهم حين يشعرون بقرب انكشاف أمرهم يهربون بما نهبوه إلى الخارج مخلفين وراءهم خللا اقتصاديا واجتماعيا ونفسيا.
وامتلاك الثروة أيا كان مصدرها يعطي إحساسا بالقدرة (يختلف بقدر هذه الثروة وبالتركيبة النفسية لصاحبها) وبالتالي رغبة في التحكم في الناس وربما امتلاكهم.
وأيمن السويدي (بطل المذبحة) يمثل النموذج الثاني "مستهلكي الثروة" ويمثل أيضا النموذج الثالث "ناهبي الثروة من البنوك" ولذلك أصيب بهوس التملك فقد اشترى شقة يقيم فيها في حي الزمالك الراقي مساحتها ألف متر مربع وثمنها 9 مليون جنيه، وتملك أيضا شركات ومصانع وأراضي زراعية وفيلات وأسلحة (مرخصة وغير مرخصة) واستأجر مطعما بمبلغ خمسين ألف جنيه شهريا ليلتقي فيه بأصدقائه وصديقاته، والأخطر من هذا أن جنون التملك عنده امتد إلى البشر فراح يحاول أن يتملك النساء الجميلات الشهيرات ليثبت لنفسه ولغيره أنه الأقدر على اقتناء النساء المرغوبات من الجماهير وبذلك يشعر بنشوة الانتصار على جماهير المعجبين،
وهذا يفسر خياراته لزوجاته من الوسط الفني ومن الراقصات (تزوج ممثلة ثم ثلاث راقصات وأخيرا المطربة ذكرى)، أي أنه كان مولعا باقتناء النساء كما يقتني ساعاته وأسلحته وسياراته، وبدلا من أن يتفرغ لشركاته ومصانعه وتجارته اتجه ليرتشف من شهوات بطنه وفرجه بلا حساب، ولديه شعور بأن من حقه أن يمتلك الدنيا كلها فقد ساعدت طريقة تربيته على تغذيته بالشعور بأنه الأهم وأنه الأقوى وأنه الأجمل وأنه محور الوجود وأن كل شيء رهن إشارته (وهو ما يطلق عليه في علم النفس: الطفل الباشا) لذلك تكونت لديه شخصية نرجسية منتفخة وذات متضخمة لا ترى إلا نفسها ولا تحب إلا نفسها ولا ترى في الآخرين إلا وسائل لإمتاعها وخدمتها. وللأسف الشديد فان المناخ السائد نمى لديه هذا الشعور حيث رغبة الكثيرين في الحصول على المال جعلتهم يبيعون أنفسهم له فتأكد لديه الشعور بأن من حقه أن يمتلك كل شيء (وهذا ما نسميه جنون التملك) .
ومن تكرار حوادث رجال الأعمال وأبنائهم أصبحنا أمام ما يمكن تسميته" جنون الثروة والقدرة" فنحن أمام نماذج غير ناضجة تمتلك ثروة وقدرة وبالتالي علاقات ونفوذ وينقصها العلم والثقافة والدين ينفقون أموالهم وأموال البنوك (التي هي أموال الشعب) على حفلات صاخبة وسهرات ماجنة ومشروعات فاشلة، ونراهم في صور مستفزة يحوطهم الحراس الشخصيون (البودي جارد) المدججون بالسلاح على طريقة الأفلام الأمريكية.
وهؤلاء الأثرياء فارغو العقول ممتلئو البطون تدفعهم غرائزهم البدائية (الجنس والعدوان) إلى سلوكيات طائشة فنرى مغامراتهم واندفاعاتهم تلوث صفحات الجرائد كالذي قتل صديقه في أحد الملاهي الليلية (بسبب صراعات عاطفية) أو الذي قتل شابا في مارينا حين كان يقود لنشه بسرعة كبيرة، أو الشاب المخمور العابث هو وأصدقائه الذي قتل بسيارته مهندسا وزوجته فوق كوبري 6 أكتوبر أو رجل الأعمال الذي احتد على أحد سائقي السيارات فقتله بمسدسه على الفور. فهل هذا نوع من الإرهاب الجديد تحرسه الثروة الطفيلية الطائشة والمجنونة، أم نوع من الفساد والإفساد يستشري تحت حراسة المال والعلاقات والنفوذ؟، وبالتالي يصبح تهديدا للسلام الاجتماعي يستلزم مواجهة جادة وفورية؟
اضطراب الشخصية والجريمة:
من متابعة الأحداث من مصادر متعددة يتبين أن أيمن كانت لديه شخصية نرجسية فهو معجب بنفسه شديد الاعتزاز بها ويرى نفسه محور الكون ولا يحب الا نفسه وملذاته ويسخر الآخرين طوعا أو كرها لخدمة هذه الذات المتضخمة المنتفخة. والشخصية النرجسية أحيانا يكون لها نجاحات تؤكد بها أنها الأقوى والأجدر وخاصة حين تتجه اتجاها ايجابيا، وقد حدث هذا مع أيمن فقد أثبت في بدايات حياته العملية نجاحا في التجارة والأعمال وخاصة أنه سليل أسرة عصامية ناجحة تجاريا وعمليا واجتماعيا وكان بالتالي مؤهلا لمزيد من النجاحات في عالمي التجارة والصناعة. ولكن صفاته النرجسية وبعض السمات الهستيرية جعلته متيما باقتناء النساء الجميلات الشهيرات ليرضى بهن نرجسيته وإحساسه المتضخم بذاته وليرضي أيضا ميوله الهستيرية الاستعراضية بالانتماء لأهل الشهرة، خاصة أنه كان يرغب في أن يكون مطربا في بدايات حياته ولكن أحد الملحنين نصحه بعدم التفكير في ذلك لأن صوته لا يصلح لذلك. وهذا يفسر هوسه المتكرر بالاقتران بأهل الفن رغم معاناته أكثر من مرة من جراء ذلك.
0 والشخصية النرجسية حين تحبط في تحقيق مطالبها الكثيرة يصاب صاحبها بحالة من الغضب الشديد والشك والغيرة والميول العدوانية لأنه لا يحتمل الحرمان من أي شيء ولا يحتمل أن ينافسه أحد أو يأخذ منه شيئا يمتلكه فلديه شعور طفولي غير ناضج بأن كل شيء رهن إشارته، ولذلك تتكون لدى الشخصية النرجسية سمات بارانوية ثانوية تجعلا مستعليا وميالا للسيطرة والشك والغيرة والعدوان.
وهذه التركيبة النفسية (الشخصية النرجسية الملوثة بسمات هستيرية وسمات بارانوية) تتضح في أشياء كثيرة من سلوك أيمن نذكر منها مثلا اختياره للعمارة التي يسكن فيها وهي عمارة "سراي السلطان" ويسكن فيها دبلوماسي بريطاني ورجل أعمال عربي كبير وغيرهم من الشخصيات الكبيرة التي ترضي غروره وميوله الاستعلائية، وتتضح أيضا في امتلاكه لعدد كبير من الأسلحة في بيته ومن اعتياده حمل هذه الأسلحة بشكل استعراضي كطفل يلعب بمسدساته على طريقة الأفلام التي يراها، ومحاولاته لامتلاك النساء الشهيرات وكأنهن لعب يلهو بها حين يحب،
وصاحب الشخصية النرجسية لا يحب أحدا إلا نفسه، ولا يقدر على إقامة علاقة حميمة لمدة طويلة مع أحد، وإذا قامت بينه وبين أحد علاقة فيكون هذا لخدمة ذاته ولتلبية احتياجاته ولهذا تنتهي هذه العلاقة فورا حين تستنفذ أغراضها، وهذا يفسر كثرة زيجاته، وكثرة علاقاته النسائية التي كانت تأخذ النمط الدونجواني من الناحية النفسية هذا النمط الذي يتميز صاحبه بوسامة أقرب إلى النموذج النسائي ولذلك يسعى هذ1ا الشخص الوسيم إلى الاطمئنان على رجولته من خلال إظهار الخشونة والقسوة في تعاملاته وإظهار علامات القوة من خلال اقتنائه للأسلحة وأخيرا تعدد علاقاته النسائية التي يثبت بها رجولته، وكأن كل امرأة يعرفها توقع له في الأوتوجراف شهادة على رجولته.
وهذه الشخصية غير الناضجة لا تحتمل النقد أو الإحباط أو الحرمان وبالتالي تكون شديدة العدوانية في مواجهة الضغوط، وليست لديها القدرة على التفكير الناضج أو السلوك المنضبط. فإذا أضفنا لذلك تعاطي الخمور فإننا نكون أمام شخصية شديدة الاندفاعية شديدة العدوان. وقد كانت هناك إشارات كثيرة لعومل الخطورة في هذه الشخصية ولكنها مرت دون اهتمام من المحيطين به، فعلى سبيل المثال اعتاد أيمن حين يغضب أن يصوب مسدسه نحو أي شيء من أثاث الشقة فيحطمه، والغريب أن هذا كان يمر بشكل بسيط على من حوله رغم خطورة دلالاته. وله أيضا سابقة عنف في شبين الكوم حين اشترت زوجته السابقة "هندية" سيراميكا من أحد المحلات ثم حاولت رده إلى المحل لأنه لم يعجبها، فرفض صاحب المحل ذلك فما كان من أيمن إلا أن أخذ رجاله وقاموا بتحطيم المحل. يضاف إلى ذلك شكوكه الدائمة واعتداءاته المتكررة على زوجاته وعلى الشغالات. وفي اليوم السابق لوفاته كان يسهر مع مدير أعماله يشربان الخمر في مدينة الشروق، وبعد انتهائه من ذلك وضع الزجاجات الفارغة أمام الفيلا وراح يطلق عليها الرصاص.
الوصية الإنذار:
كانت وصية أيمن لأخيه محمد قبل موته (والتي ذكر له فيها ممتلكاته وديونه وأوصاه فيها بعدم الاقتراض من البنوك وعدم الزواج من الفنانات) دليلا على نيته نحو الانتحار، ولو كانت هذه الوصية قد تمت قراءتها والتعامل مع محتواها بشكل جاد لربما اختلف مسار الأحداث. وفكرة الانتحار تكون لها فترة حضانة تبلغ في كثير من الأحيان ثلاثة شهور، ويرسل الشخص خلالها بإشارات تحذير لمن حوله، ولكن للأسف الشديد كثيرا ما تمر هذه الإشارات دون أن ينتبه إليها أحد حتى تقع الواقعة.
إشكالية العلاقة بين رجال الأعمال وأهل الفن:
مفتاح شخصية رجل الأعمال هو الرغبة في التملك في حين أن مفتاح شخصية الفنان أو الفنانة هو الرغبة في التحرر، ولكن يجمع الاثنين الرغبة في التميز، ولهذا حين يقترن رجل الأعمال بفنانة فهو يسعى لامتلاكها كشيء جميل يرغبه ملايين الناس فهو بذلك يرضي في نفسه روح المنافسة والسبق وحب التملك، ولكن مع الوقت يظهر الخلاف واضحا جليا بين الاتجاه الرأسمالي التملكي وبين الاتجاه الفني التحرري. وهذه كانت أزمة أيمن السويدي حيث ورطته سماته الشخصية في الرغبة في الاقتران بالفنانات بشكل ملفت للنظر (وقد تحدثنا عن دوافعه النفسية والاجتماعية) وبالتالي كانت تظهر المشكلة في كل مرة ويكون حصادها الفشل الذي يسبقه موجات من الشك والغيرة والعنف.
السلوك التدميري والسعي الخفي نحو الفشل:
المتأمل للأحداث يلفت نظره ميل أيمن السويدي لإقامة زيجات تحمل في طياتها بذور الفشل من البداية، فهو رغم شكه وغيرته يقترن براقصات أو فنانات تتميز حياتهن بالانفتاح وكثرة العلاقات والخبرات السابقة، وعلى الرغم من معاناته في كل مرة من هذا الفشل إلا أنه يعود فيكرر نفس هذا الخطأ على الرغم من معارضة أسرته لهذا السلوك. ويبدو أن ثمة رغبة خفية في تكرار الفشل وإعادة التجربة كانت كامنة في أعماق نفسه، وهذه الرغبة يكون وراءها مشاعر عدوانية خفية نحو الذات ونحو الآخرين وهذه المشاعر هي التي تفجرت في لحظة الحادث بشكل هائل فأحدثت ما أحدثت. وعلى الرغم من نجاح أيمن السويدي في بدايات حياته العملية مما كان يبشر بمستقبل عظيم في عالم المال والتجارة (نظرا لما أظهره من مهارات تجارية خاصة وأنه نشأ في أسرة متميزة في هذا المجال) إلا أن اتجاهه نحو الاقتراض من البنوك وزيجاته المتكررة الفاشلة وإنفاقه ببذخ على علاقاته ، كل ذلك كان بمثابة سلوك تدميري مارسه في السنوات الخيرة من حياته وساعد عليه تناوله للخمور.
الغيرة والجرائم العاطفية:
الغيرة شعور طبيعي موجود في الحيوانات وفي الإنسان بشكل يكفي لمنع المشاعية العاطفية والجنسية، وهي تبدأ في الظهور عند الطفل في السنة الثانية من عمره. والغيرة تتكون من مثلث أضلاعه هي: الحبيب والمحبوب والمنافس، وقد حاول فرويد أن يضع الغيرة في مستويات تصاعدية كالتالي:
1 - غيرة المنافسة، ويشعر بها الشخص تجاه أقرانه فيحرص على أن لا يسبقه أحد إلى شيء يحبه وأن لا يأخذوا منه هذا الشيء.
2 - الغيرة المسقطة، حيث أن الشخص نفسه بداخله مشاعر خيانة يسقطها على محبوبه ويتهمه هو بالخيانة.
3 - الغيرة الهذائية، وهي عبارة عن ضلالات مرضية راسخة لا تقبل المناقشة بأن المحبوب يخون حبيبه، وهي تظهر في حالات الفصام أو الاضطراب الضلالي، وتظهر أيضا فيمن يتعاطون الكحوليات.
وربما تكون المستويات الثلاثة من الغيرة موجودة عند أيمن السويدي، فهو الابن الأول وله أخ أصغر منه، وهذا الوضع يجعله في حالة غيرة من منافسة أخيه له في حب والديه، وبالتالي ينتقل هذا الشعور فيما بعد إلى أي منافس في أي مجال (مالي أو عاطفي أو غيره)، ولديه أيضا الغيرة المسقطة حيث أن لديه علاقات نسائية متعددة وهذا الوضع يجعله يعتقد بأن كل الناس يفعلون ذلك، وربما يكون لديه أيضا المستوى الثالث خاصة وأنه يتعاطى الخمور.
ومعروف على مدى التاريخ دور الغيرة في الجرائم العاطفية، فالمحب لا يحتمل أن يشاركه أحد محبوبه فضلا عن أن يأخذه منه، وحين يحدث هذا (حقيقة أو توهما) يشعر الحبيب بان الدنيا كلها تسلب منه وبالتالي تصبح حياته بلا قيمة فيقدم على قتل نفسه ولكنه يسبق ذلك بقتل محبوله حتى لا يتركه لأحد غيره وحتى يجتمعان معا بعد موتهما. وهذا يحدث بالذات في حالات الحب النرجسي حين يعتبر المحب أن المحبوب ما هو إلا امتداد لذاته وأنه شيء مملوك له ولا يصح أبدا أمن يمتلكه أحد غيره.
والجرائم العاطفية غالبا ما تتسم بالدرامية والبشاعة (وهذا ما نراه في هذه الجريمة) لأن المحب حين ييأس من محبوبه ييأس من الحب وبالتالي ييأس من الوجود لذلك تكون الجريمة مروعة وكأنه يريد أن يرسل رسالة مسموعة ومرئية لحبيبه ولكل الناس. والمحب هنا يعاقب محبوبه على هجره وخيانته ويعاقب نفسه على فشله في الاحتفاظ بحبيبه إضافة إلى أنه هو ومحبوبه أصبحا شيئا واحدا داخل نفسه ففي رأي فرويد أن المحب حين يقتل نفسه فهو يقتل محبوبه الذي استدمجه في هذه النفس وأصبح جزءا منها، ويرى أيضا أن حساسية المحب لهجر محبوبته يرجع بجذوره إلى مرحلة الطفولة حيث عانى الشخص من هجر أمه له (الحقيقي أو المتوهم) فهو هنا يقتل محبوبته الحالية (داخل نفسه) ويقتل أمه (داخل نفسه) التي هجرته قديما وفضلت عليه أبيه أو أخيه.
وهذا الشخص- كما ذكرنا- يفشل في إقامة علاقات حميمة طويلة المدى لأنه يتوقع الهجر أو الخيانة ممن يحبهم، وربما يسعى بشكل خفي إلى تحقق هذه التوقعات السلبية فنجد خياراته في محبيه تتجه نحو من يتوقع منهم الهجر أو الخيانة وكأنه يريد أن يثبت صحة فلسفته في الحياة.
دور الضحية في الجريمة:
في نسبة كبيرة من الجرائم تلعب الضحية دورا مؤثرا في وقوع الجريمة سواء بقصد أو بغير قصد، وفي الجريمة الحالية نجد أن ذكرى بقبولها الزواج من أيمن السويدي (وهي تعلم مشكلاته السابقة في الشك والغيرة مع زوجاته، وتعلم من نفسها صعوبة الخضوع لمطالبه بتملكها) إنما وضعت نفسها ووضعته في صراع دائم، وكان إصرارها على أن تفعل ما تشاء في حياتها بصرف النظر عن رضاه أو غضبه سبيلا إلى إيجاد حالة من التوتر المتصاعد وصلت في النهاية إلى حافة الهاوية ثم سقطت فيها.
ويبدو أن ذكرى كانت تقع في هذا الخطأ كثيرا (ليس مع أيمن وحده ولكن مع بقية الناس)، فقد احتدت خلافاتها مع من تبنوها ودفعوها إلى الشهرة، وأساءت في تصريحاتها إلى زملائها الفنانين والفنانات في مصر فصدر قرار بمنع اشتراكها في الحفلات العامة وسهرات التليفزيون المصري إلى أن قامت بالاعتذار الرسمي فعفت عنها نقابة الموسيقيين. ومنذ فترة قصيرة استفزت مشاعر ملايين المسلمين بتصريح غير مناسب وغير مسئول تشبه نفسها فيه ومعاناتها بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وكان نتيجة ذلك صدور حكم محكمة في أحد الدول العربية يدينها ويطعن في عقيدتها بل ويهدر دمها، وكان يمكن أن تتعرض لمشاكل كبيرة لولا أن فضيلة شيخ الأزهر وضع الأمر في موضعه وخفف من وطأة هذا التصريح. وهي قد عاشت 37 عاما من عمرها بدون زواج رغم معجبيها الكثيرون وعلاقاتها المتعددة، وفي هذا دلالة على أنها تعلي من قيمة تحررها وحياتها المفتوحة على أي شيء آخر، ومن هنا يصبح قبولها للزواج من شخص بطبيعة أيمن السويدي أشبه بالانتحار أو القتل، وهذا ما حدث بالضبط.
الحالة النفسية قبل الحادث:
شخص تراكمت عليه الديون وممنوع من السفر (بسبب أموال البنوك التي اقترضها وأهدرها)، يشك في سلوك زوجته التي هجرته سعيا وراء مجدها وشهرتها (إحباط مالي وعاطفي وجنسي)، في حالة توتر شديد بسبب مشاكله الزوجية ومشاكله المالية، وتحت تأثير الشراب الذي يسهل خروج الدفعات العدوانية، ويتعرض لانتقادات من زوجة مدير أعماله على سوء معاملته لزوجته، في هذه اللحظة صوب رشاشه نحو رموز إحباطه وفشله، فذكرى رمز لإحباطه العاطفي، ومدير أعماله (الذي أشار عليه بالاقتراض من البنوك) رمز لإحباطه المالي، وزوجة مدير أعماله (التي تنتقده على سوء معاملته لزوجته) رمز لفشله الاجتماعي، أما هو فقد فشل في إثبات ذاته ماليا وعاطفيا وبالتالي قرر أن ينهي حياته.
مابعد الحادث:
لقد لقي أطراف هذا الحادث مصرعهم جميعا، وبالتالي ربما لا يكون هناك ملفا قضائيا مفتوحا وإنما يظل الملف الاجتماعي والإنساني والتربوي والنفسي مفتوحا يبحث عن حل لتصحيح الظروف والأوضاع الخاطئة التي أدت إلى هذه الكارثة المروعة، وربما يستثير ذلك مراجعات تربوية هامة تلقي الضوء على سلبيات التربية التي تهتم أساسا بالإشباع المتخم للاحتياجات الجسدية والاستزادة من الملذات والشهوات على حساب الأبعاد الثقافية والدينية والروحية، تلك الأبعاد الهامة التي تضبط اندفاع الإنسان وغروره وغطرسته.
والمسالة لا نراها جان وضحية ولا ظالم أو مظلوم فالجميع أصبحوا الآن بين يدي ربهم يحكم بينهم بالعدل، ونحن ندعو لهم بالمغفرة وندعو لأهلبهم بالصبر والسلوان وندعو الله أن يوفقنا في تربية أبنائنا تربية صحيحة في هذا الزمن الصعب، ولكننا نريد ألا يفوت هذا الحدث المؤلم دون أن تصلنا منه رسائل تصحيحية كافية لمبادئنا ومعتقداتنا وأساليب حياتنا، ولا يجاز الأمر وتقريب الاستفادة نراجع ما وصل إليه علماء النفس والدين في هذا الصدد، فقد وجدوا أن هناك ثلاث مبادئ يمكن أن يربي ويعيش على أحدها أي إنسان وهي كالتالي:
1- مبدأ اللذة، وهو أن يعيش الإنسان لمتعه وملذاته دون الاعتبار لاحتياجات الآخرين وحقوقهم.
2-مبدأ الواقع، وهنا يضع الإنسان في اعتباره احتياجاته واحتياجات الآخرين على اعتبار أننا لا نعيش في هذه الحياة وحدنا وإنما يشاركنا فيها آخرون لنا حقوق عندهم وعلينا واجبات نحوهم.
3-مبدأ الواجب، وفيه يغلب الإنسان مصلحة الآخرين على مصالحه الشخصية طبقا لقوله تعالى" وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ" .
وأخطر أنواع التربية هي تلك التي تقوم على مبدأ اللذة، وهذا ما يحدث كثيرا في المجتمعات الحديثة وفي طبقة الأثرياء بشكل خاص حيث يربى الابن أو البنت على الأخذ فقط وعلى تلبية كل احتياجاته بلا تأجيل ولا يطلب منه أي شيء يفعله تجاه الآخرين (فهناك الوالد الذي ينفق ببذخ ، وهناك الخدم الذين ينفذون له كل شيء)، وهنا يتربى لديه نهم استهلاكي ترفي ورغبة في الاستزادة من الملذات والمتع، وليس لديه أي دافع لتقديم شيء للآخرين أو للحياة فهو قد تعلم أن يأخذ فقط، وأن الآخرين قد وجدوا فقط لإسعاده وتلبية كافة احتياجاته، وهذا هو مبدأ اللذة الذي تحدثنا عنه، والذي عاش عليه بطل الجريمة التي نحن بصددها، وهو ليس الوحيد بل إن بيوتنا ومجتمعنا يموج بأعداد كثيرة من هذا النمط التربوي الخاطئ والخطر على نفسه وعلى المجتمع.
وحين ينشغل الوالدان والمجتمع عموما بتلبية الحاجات المادية للأبناء مع إهمال تام للجوانب الخلقية والدينية والروحية فنحن أيضا أمام نماذج تربوية انعدم فيها التوازن بين الدوافع والضوابط وأصبحت قنابل موقوتة تنفجر في نفسها وفي غيرها في أي لحظة.
واقرأ أيضًا:
حين يتصدع العقل / أزمة منتصف العمر / بائع الورد : قراءة في شخصية عمرو خالد