صور أبو غريب.. رؤية نفسية
أنهيت لتوي مكالمة هاتفية مع شابة من القراء طرحت فيها سؤالاً موحياً حين قالت لي: ما ذنب الأجيال الشابة أن تتحمل نتائج تقصير الأجيال السابقة؟! لماذا علينا أن نتحمل أوزار الكبار، ونحصد كل هذا الألم القاسي؟! وسأعود لجوابي عليها لاحقاً، بعد أن أرصد بعض النقاط والملاحظات على التقرير المختصر الذي أحاله إليّ الأخوة المسؤولون عن ساحة الحوار، وإشارتي هنا تقصد إلى بيان أنني لم أقرأ جميع المداخلات بنفسي، وهنا ملاحظات مختصرة وسريعة على التقرير/ الخلاصة: - واضح أن لدينا حالة من الارتباك الشديد في مواجهة ما يحدث وتداعياته، وواضح أن الألم والغضب مع العجز والبلبلة هي بعض سمات ردود فعلنا على نشر الصور، وهذا كله مفهوم وله أسبابه ومبرراته المقنعة، ولكن الأمل كبير في تجاوز هذه الحالة إلى ما هو أفضل وأنفع.
- لم يتلفت أحد إلى جانب هام جداً وخطير، وهو أن نشر هذه الصور البشعة جاء في أعقاب انتصارات متلاحقة حققتها المقاومة العراقية على الأرض، وفي هذا الإطار يمكن رؤية النشر الأمريكي –لمواد كانت متوافرة أصلاً منذ فترة- بوصفه أيضاً –في جانب منه- رد فعل على نشر صور النعوش الأمريكية، وكأننا نخوض حرباً بالصور أيضاً، والإعلام ساحة هي من أخطر ساحات المعارك الدائرة حالياً في العراق وفلسطين، إن لم تكن أخطرها على الإطلاق، وإعلام هذا العصر عبارة عن الصورة أولاً والصورة ثانياً، والصورة ثالثا... ثم بعض الكلمات تأتي بعد ذلك.
- بناءاً على حالة الإدراك المنقوص والارتباك والألم لما يحدث تتزايد مشاعرنا بالانكسار ونخلط خلطاً شديداً بلا عقل أو منهج بين مستويات ومناطق مختلفة لصراعات بعضها ساخن وهام وواضح، والبعض الآخر يحتاج إلى إعادة نظر، فعدالة قضيتنا في حالة الإحتلال الأمريكي للعراق، أو الصهيو أمريكي لفلسطين لا يمكن وضعها في نفس السلة مع محاولة الاستقلال بدولة محدودة في حالة الشيشان مثلاً، أو مع ما يحدث في كوسوفا.. إلخ، وهذا الخلط يؤدي فقط إلى المزيد من التشويش، ومضاعفة الألم لأنه يوحي "وهماً" بأن العالم كله ضدنا، وأن "نا" الجمع هنا هي "الأنا" الجماعية المسلمة المظلومة دوماً، المكلومة دوماً، الضحية أبداً، وهذا ببساطة، ويا للدهشة.... غير صحيح!!.
- فلا نحن ضحية تنزف طوال الوقت، ولا الشيشان مثل فلسطين مثلاً في طبيعة قضيتها، أو الجهاد المطلوب لها، أو موقف العالم، والمسلمين حول العالم منها.
- مسألة الحب والكراهية هذه مهمة، وفي الحديث ما معناه:
أن الإيمان هو "حب وكراهية"، ولكن من جانب آخر فإن الاكتفاء من المواجهة بالكراهية والمقاطعة يذكرني بالأعرابي الذي اطمئن على أن "عمر" رضي الله عنه يكرهه، ولكن هذه الكراهية ستظل مجرد شعور لا يتحول إلى فعل يظلم فيه "عمر" الأعرابي، فرد الأعرابي على كراهية "عمر" متندراً: "إنما يبكي على الحب النساء"!!! والمقاطعة كذلك بالمناسبة إن لم تكن مقدمة للإبداع والإنتاج والتنمية الذاتية المستقلة، وتجويد العمران، وتقوية الاقتصاد في بلداننا بسياسات اجتماعية وعالية رشيدة، إذا ظلت المقاطعة مجرد أن نستهلك المنتج الفرنسي أو الألماني أو الياباني بدلاً من الأمريكي، إذا ظلت كذلك فسيكون تأثيرها محدوداً، وهكذا كل مقاطعة لا تتضمن إبداعاً وإنتاجاً، وخاصة ونحن بصدد سلع وأشياء، وليس مجرد أفكار، ومثلها بالمناسبة المقاطعة للفن الفاسد المنحل إن لم تتضمن إنتاج غيره من فن ممتع ومحترم فإنها ستظل محدودة الأثر رغم علو صوتها.
- أيضاً فإن استثمار الغضب ينبغي أن يحتفي بالحزن والألم بوصفها ثروة من ثروات الإنسان الواعي بوجوده وبقضاياه شريطة أن ينبض الحزن والألم، والغضب بإبداع وطاقة تتجمع من الفردي إلى الجماعي، ومازلنا لا نمتلك أليات التفعيل اللازمة لنتحمل مسئولية هذا الغضب، وهذا الألم فتتشكل رؤى جديدة تعرض حلولاً، وبرامج عمل.
ليس الغضب والألم والحزن محض شر أو خير أو علامة حياة واعدة، إنما مقدمات قد نلتقطها فننضج بها وننمو ونتطور، أو نرتكس متردين في هوة الاإكتئاب السحيق، أو نندفع إلى أي تسكين كاذب بتدين الدراويش، أو "ستار أكاديمي" وأخواتها، وكلها مجرد مخدرات!!! ولذلك أتفق مع "أمة الرحمن" في منطقها باستمرارنا في العمل ونشر الوعي، وتحريك الرأي العام، وقد اختلف معها لاحقاً في تحديد الكيفية المثلى لهذا.
- أعجبني أننا تجاوزنا متاهات كانت تاريخياً بمثابة حفلات تبرير وتبديد بالتنديد والشجب لأفعال الأعداء، أو تخاذل الحكام، وبدأنا فعلاً نبحث عن الأجدى والأنفع، عن الممكن والمفيد أن نقوم به نحن الناس وأرجو ألا يكون الخلاف حول: ننشر هذه الصور أم لا؟! مجرد غطاء حجب أسئلة أهم، يا رب تكون إجاباتها قد صارت محسوسة، وهذه بعضها:
• هل هناك شيء اسمه الرأي العام العالمي؟ فضلاً عن العربي؟!
• هل هناك طرق لمخاطبة هذا الرأي العام، والتأثير فيه؟!
• هل هناك جدوى وتصورات محددة لاستثمار هذا الرأي العام وتفعيله باتجاهات معينة؟!
- أخشى أن تضيع هذه الأسئلة في غمرة أسئلة أخرى وإجابات أخرى، وأخشى أن الذين قالوا بعدم النشر هم أصلاً لا يؤمنون بجدوى أي تحرك على أي مستوى غير القتال المباشر بالسلاح في ميدان المعركة، وهذا يتضمن تعسفاً واختصاراً ومخالفة لطبيعة الحرب الدائرة الآن بيننا وبين أعدائنا، والأصوب أن المقاومة العراقية الباسلة بالسلاح هي شرط لجدوى أي تحرك يأتي متضافراً معها
– كما هو صمود أهلنا في فلسطين- ولكن قصراً ما هو مطلوب، وما هو جهاد، وما هو تأثير على العمليات الميدانية يحتاج إلى إعادة نظر.
- لكن إذا حسمنا أن جبهة المواجهة واسعة، وأن سلاح الإعلام هو الأهم في معارك الإمبراطورية الأمريكية المستكبرة، وإذا حسمنا أننا نستطيع الحركة في هذه المساحة... هنا فقط يمكننا أن نناقش جدوى وتأثير توسيع دائرة نشر هذه الصور، ويمكن عندئذ أن يقال أن مخاطبة الجمهور الأوروبي يمكن أن يختلف عن الأمريكي، ويمكن أن يقال أن نشر صور النعوش الأمريكية ربما تؤثر أكثر مع الأمريكان، ويمكن أن يقال أن وضع صور قطع رأس الأمريكي ضمن ملف التعذيب يوصل رسالة بليغة تقول: الجنون سيقابله جنون، فماذا أنتم فاعلون؟!!
- وإذا حسمنا أن هناك طرقاً عدة لاستثمار الغضب والألم تتجاوز مجرد الشحن العاطفي، وأحلام الثأر دون فعل ملموس، وإذا حسمنا أن هناك شيء اسمه: الجهاد المدني، وأن الجهاد بالتالي كان وما يزال في متناول الجميع، وأن كل منا على ثغرة من ثغرات المواجهة سواء كان طالباً في جامعة أجنبية أو عربية، أو إعلامياً، أو حتى مجرد ممتلك لجهاز حاسوب متصل بالشبكة العنكبوتية.
إذا حسمنا هذا يمكن أن نبدأ في التفكير العلمي، وتوزيع الأدوار، والتحاور حول الأولويات والإبداعات.
لاحظوا معي أن الذين اعترضوا على نشر ملف الصور لم يطرحوا أي بديل عملي غير الفرجة على ما يجري، وانتظار الفرج، أو الجهاد على طريقة "توصيل الطلبات إلى المنازل".أليس هذا الاعتراض دون طرح بديل هو نفس منهج المقاطعة دون إنتاج أو إبداعٍ مواز؟!!
وأخيراً لا أرى نشر ملف الصور إلا إذا كان جزءاً من خطة مستمرة للتواصل مع غير العرب والمسلمين، لأن الخطاب الذي ينبغي أن نتوجه به لأهلنا ينبغي تركيزه حول كيفية استثمار الألم الذي نشعر جميعاً به، بينما خطابنا مع غيرنا له أهداف وأبعاد أخرى، والتمييز فيه هام بين الفئات المختلفة، وخريطة المجتمعات الغربية معقدة، ومخاطبة الناس تكون على قدر ونوع عقولهم، وبحسب مواقعهم ومواقفهم السياسية والأخلاقية.
أجبت على تساؤلات الأخت القارئة التي كانت تسألني على الهاتف قائلاً: إن الله يخلق كل إنسان ويضعه في ظروف وفي بيئة، ويحاسبه بعد ذلك على ماذا فعل تعاملاً مع هذه الظروف والبيئة، والإنسان بالتالي ليس مسؤولاً عن أخطاء وأفعال غيره، ولكنه بالتأكيد مسئول عما فعله وسيفعله هو تفاعلاً مع ظروفه وبيئته.
أنا سعيد بهذه الفرصة السريعة للالتقاء بجمهور "ساحة الحوار" وأرجو أن نتقابل مجدداً، وأرجو أن تزورنا على صفحة "مشاكل وحلول للشباب" وعلى موقع "مجانين"، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
واقرأ أيضًا:
هكذا صنع الله ..مثقف خارج الحظيرة / الاستعمار، والقابلية له: هل يعيد التاريخ نفسه ؟!!