الحالة الأولى:
جاء صوت زوجته عبر الهاتف قويا, صارما, قادرا ومؤكدا, تطلب موعدا قريبا جدا لإحضار زوجها المريض إلى العيادة, وحين حل الموعد دخلت الزوجة قبل زوجها المريض وظلت تتحدث عن مرضه بالنيابة عنه لأكثر من نصف ساعة, وكلما حاولت مقاطعتها أو إيقافها لإعطائي فرصة لمشاهدة المريض قاومت هي ذلك بشدة ...................
وبعد وقت طويل خرجت من الغرفة لتحضره من صالة الانتظار فهالني الفارق الجسماني بينهما فبينما تمتلك هي تكوينا جسمانيا ممتدا طولا وعرضا كان هو قصيرا منحنيا ذو وجه طفولي وقد جلس جلسة مدرسية منكسرة وهو يردد: "تعبان يا دكتور...... تعبان........ تعبان جدا....... تعبت خلاص وزهقت..... ماعنتش قادر أتحمل ..... أرجوك يا دكتور ساعدني........ أنا كشفت كتير وأخدت علاج كتير......... أنا حاسس إن مفيش فايده.......... إنت إيه رأيك يا دكتور.....
هو الاكتئاب له علاج ولابس مسكنات ومنومات......... أنا شايف إنه مالوش علاج...... يظهر إني هافضل كده طول عمري......... قل لي يا دكتور إن ماكانش لي علاج أمري لله......... أنا نفسي أبقى كويس وارجع شغلي واشوف مصالحي بس مش قادر...... صدقني يا دكتور.......... إنت طبعا عارف قد إيه الإكتئاب صعب..... هما ساعات في البيت مايبقوش مصدقينني فاكرني باتدلع......... فهمهم يا دكتور إني مش باتدلع...... أنا فعلا تعبان ومفيش أي علاج بيجيب معايا نتيجة.... حتى فكرت إن ده يكون مس من الجن ورحت لشيخ قرأ علي ولكن برضه مفيش فايده ......... تعرف يا دكتور لولا الخوف من ربنا أنا كنت انتحرت....... أنا تعبان جدا يا دكتور وشغلي كده هايفصلوني, هما صبروا علي كتير لكن مفيش فايده ...........",
وما كاد هو أن ينتهي من كلامه حتى ألقت الزوجة ملفا كبيرا مليئا بالوصفات الطبية ونتائج الأشعات والتحاليل, ألقته أمامي على المكتب بشكل غاضب وكأنني مسئول عما حدث (رغم أنني أرى هذا المريض لأول مرة), ولم تترك لي فرصة للكلام أو مطالعة الملف المتضخم الذي ألقته أمامي بل راحت تشرح لي بتفصيل ممل رحلة المرض والعلاج التي استمرت لأكثر من سنتين بلا جدوى, ثم تنهدت تنهيدة عميقة وقالت في أسى مشوب بالغضب (من زوجها ومن الأطباء وربما مني ومن كل الرجال):
أنا تعبت يا دكتور.... ساعات ييبقى كويس ومفيش فيه أي حاجه ونقول خلاص هايصبح يروح شغله وأول ما يصحى الصبح نلاقيه تعب تاني مع إنه كان فرحان بالليل إنه هايروح الشغل...... فكرت إنه معمول له عمل بالصد عن الشغل......... مع إنه كان موظف ملتزم جدا في الشغل وعمر ما حد اشتكى منه ولا كان حد يسمع له حس.......",
وبينما كانت هي تتكلم كان ينظر إليها كطفل ينظر إلى أمه, وبعد لحظات وجدته يقاطعها بلا مناسبة ليقول لي:
"يا ريت ماتكتبليش حقن يا دكتور....أنا ماباحبش الحقن طول عمري......... أنا تعبان.....شوف لي حل ضروري يا دكتور".
وحين راجعت التحاليل والأشعات لم أجد فيها شيئا, ووجدت أنه قد زار كبار الأطباء النفسيين ووصفوا له أفضل أدوية الاكتئاب حتى تلك التي تعطى للحالات المقاومة للعلاج, وبعضهم عالجه بجلسات تنظيم إيقاع المخ ( الكهرباء ), ومع هذا كانت حالته لا تتحسن.
الحالة الثانية:
حضرت إلى العيادة مع ابنتها الصغرى وقبل أن تجلس بدأت الشكوى (وكأنها تعرفني من قبل):
"أرجوك يا دكتور ساعدني, مابانامش وماباكلش وماليش نفس من حاجه في الدنيا, وبنتي دي مفروض كان فرحها من سنه أجلناه علشان تعبي وهي صعبانه علي بس هاعمل إيه.........
بقى لي 3 سنين تعبانه وزهقت لف على الدكاتره ماخليتش دكتور مارحتلوش وكله زي عدمه, والعلاج تعب معدتي..... قالوا لي يمكن سحر ولا عين رحت للمشايخ وفكينا العمل وبرضه مفيش راحه....... لا مرتاحة في أكل ولا شرب ولا نوم....... وكل حته في جسمي بتوجعني وماخليتش دكاترة باطنه ودكاترة عظام وعملت عمليتين وبرضه مفيش راحه...... الآخر قالوا لي ماعندكيش حاجه كل التحاليل والأشعات سليمه!!!!!! ....... أمال التعب دا كله إيه...........!!!!! ".
ثم أكملت ابنتها: "ماما يادكتور عايزانه حواليها على طول, وانت عارف كل حد مننا وراه مشاغله..... حتى اتصلت بأخويا رجع من الخارج وساب شغله ومش عايزاه يسافر... ودايما حزينه وتشتكي بكل حته في جسمها, وكل مانعالج حاجه يطلع لنا حاجه تانيه مش عارفين نعمل معاها إيه... وعلى فكره هي أخدت كل علاجات الإكتئاب وكانت تتحسن شويه ونحاول نبدأ نرجع لحياتنا الطبيعيه نلاقيها بتتصل بينا تاني تعالوا أنا تعبانه..........!!!!!!!! ".
الحالة الثالثة:
رجل أعمال في أواخر الأربعينيات من عمره تخرج في كلية الهندسة ولكنه فضل العمل التجاري فأنشأ مكتبا للتصدير والاستيراد وحقق بعض النجاحات ولكن حدثت له كثير من التعثرات والمشكلات في السنوات الأخيرة وأصبح غير قادر على الوفاء بمستحقات البنوك وأصيب بنوبة اكتئاب منذ عام وسافر إلى أمريكا للعلاج في أحد المصحات المعروفة ووصلوا معه لأعلى مستوى من جرعات مضادات الاكتئاب الحديثة والقديمة,
ودخل في برنامج للعلاج النفسي التدعيمي, وعالجوه بجلسات تنظيم إيقاع المخ بالكهرباء, وكان يتحسن قليلا ثم تعاوده الأعراض مرة أخرى بمجرد خروجه من المصحة, وهو يقضي الآن أغلب وقته في بيته يئن ويتوجع طول الوقت ويريد زوجته بجواره ويبكي (كالطفل) إذا أصرت على الذهاب لعملها..... وقد جاءت زوجته قبله وهي تتعجب كيف انقلب زوجها الطموح النشيط إلى هذه الحالة الضعيفة المستسلمة الشاكية ليل نهار بلا كلل أو ملل, وعندما قابلته كان صوته ضعيفا وصورته باهتة ويكرر باستمرار: " أنا تعبان..... شوفوا لي حل...... مش قادر..... نفسي أرجع زي زمان...... أنا علي التزامات كتيره عايز أخف علشان أوفي بيها........ أرجوكو ساعدوني....... أنا تعبان...... تعبان.......تعبان".
هذه نماذج لما يسمى الاكتئاب النعّاب(Nagging Depression),
ولنرجع إلى المعاني اللغوية لاسم هذا المرض لكي نفهم دلالاتها الهامة, فكلمة Nagging في اللغة الإنجليزية تعني الفرس الهرم أو الضعيف, وتعني التذمر أو الشكوى باستمرار أو النقّ والإزعاج المتصل أو المضايقة والنكد (قاموس المورد: إنجليزي عربي-منير البعلبكي- الطبعة السابعة عشرة 1983– دار العلم للملايين, بيروت, ص 263), وكلمة نعّاب مأخوذة من نعب الغراب –نعيبا, ونعابا, وتنعابا: أي صاح وصوّت. والنّعاب: الذي ينعب كثيرا (المعجم الوجيز– مجمع اللغة العربية, مصر, 1423 ه – 2002 م , ص 623).
الصورة الإكلينيكية:
والمكتئب النعّاب يشكو من أعراض الاكتئاب المعتادة مثل المزاج الحزين وفقد القدرة على الاستمتاع بأي شئ واضطراب النوم والإحساس بالدونية وفقد الأمل وقلة الحيلة والنظرة المتشائمة للمستقبل وفقد الشهية للطعام (وأحيانا زيادتها), وفقد الوزن (وأحيانا زيادته), والإحساس بالذنب, والرغبة في الخلاص من الحياة, ويزيد على هذه الأعراض في نوع الاكتئاب النعّاب حالة من القلق الزائد والخوف المجهول وتعلق المريض بمن حوله بطريقة زائدة ومزعجة بحيث يريدهم حوله طول الوقت وكأنه طفل يخشى أن يتركه أبواه, وسلبية بالغة تجاه المرض وتجاه الأحداث, والعرض الأهم هو الشكوى المستمرة ليل نهار من أعراض نفسية أو جسمانية غير محددة.
وعلى الرغم من شكوى المريض (أو المريضة) فإنه لا ينتظم في تعاطي العلاجات الموصوفة ويتذرع بأنها أتعبته أو سببت له أعراضا جانبية، ونحن نعرف هذا المريض من كل ما سبق ومن عبارات مهمة يقولها عند حضوره للمتابعات, فما أن يدخل غرفة الكشف حتى يقول: " أنا ماارتحتش يا دكتور أنا حالتي ساءت بالعلاج.... أنا حالتي أوحش بكتير من الأول.... أنا زي الزفت الأيام دي....... أنا حاسس إني مش هاخف يا دكتور....... أنا مرضي ده مالوش علاج.... تفتكر ممكن أخف يا دكتور.....؟؟؟؟؟.".
هذه أمثله حية لنوع من أنواع الاكتئاب المزعج، ينزعج منه أهل المريض نتيجة للشكوى المستمرة (الزن والنق) من المريض (أو المريضة) ونتيجة للاعتمادية الطفلية اللزجة منه عليهم, تلك الاعتمادية التي تكاد تخنقهم فضلاً عن إثارة غضبهم وحيرتهم وكثير من المشاعر المتناقضة الأخرى نحو المريض، كما أنه يزعج الطبيب أيضاً لأن هذا المريض يقاوم كل أنواع العلاجات وفي كل مرة يحضر إلى الطبيب يبادر بالقول: «أنا ما ارتحتش يا دكتور ..الدوا ده ماجابش أي نتيجه.. أنا حالتي بتسوء لما باخذه», وينظر المريض من طرف خفي إلى الطبيب ليرى علامات الإحباط واليأس على وجهه وربما أيضاً علامات الغضب، والمهم لدى المريض هو إعلان الفشل من جانب الطبيب حتى يظل الوضع على ما هو عليه.
والاكتئاب في هذه الحالة يخلو غالباً من الاضطراب الوجداني الأصيل فلا تشعر بحزن عميق أو أصيل لدى المريض، وإنما تلاحظ شكاوى وأعراض أغلبها على المستوى العقلاني الجاف، وتزداد الأعراض حدة في وجود بعض الأشخاص خاصة الذين يطمع المريض في الحصول على رعايتهم وجذب اهتمامهم نحوه مثل الزوجة (أو الزوج) أو الأبناء أو الطبيب وتزداد أيضاً كلما لاحت في الأفق بوادر تحمل مسئولية في الأسرة أو في العمل أو في الحياة.... عندئذ تشتد الأعراض وتزيد الشكوى.
وربما يكون هناك تداخل في هذه الحالة بين اضطراب الاكتئاب وبين ما يسمى الاضطراب المصطنع Factitious Disorder وفيه يميل الشخص إلى لعب دور المرضSick Role ولا يريد شيئاً غير ذلك,وهو يسعى دائما لأن يكون في أحضان المستشفيات أو العيادات ولا يشعر بالأمان إلا إذا كان تحت رعاية طبية، وغالباً ما تبدأ حالة الاكتئاب النعّاب باكتئاب حقيقي يستوفي كل شروط الاكتئاب، ولكنه يتحول بعد فترة تبعاً لشخصية المريض واحتياجاته والظروف المحيطة به إلى هذا النوع من الاكتئاب اللزج الطفيلي الاعتمادي.
وتبدو على المريض بهذا النوع من الاكتئاب الكثير من أعراض القلق فهو يشعر بالتوتر (Tension) والتوجس (Apprehension) ويتوقع حدوث شيء سيئ ويشعر بالتهديد باستمرار ولا يستقر في مكان ويعاني من الأرق والشعور بالاختناق أو قصر النفس, وسرعة ضربات القلب وكثرة التعرق, ورعشة وبرودة بالأطراف وقلة الشهية للطعام .ويميل المريض إلى القول والاعتقاد بأنه لا فائدة من أي شيء ولا معنى لأي شيء ولا ضرورة لأي شيء.., ومع هذا لا ينسحب أو يسكت, وإنما يلقي بكل هذا على من حوله ويريدهم أن يجدوا له حلاً, ويعلن وذلك طول الوقت بشكل مباشر أو غير مباشر.
وقد وصف الدكتور الرخاوي هذا النوع من الاكتئاب بقوله:{هذا النوع من الاكتئاب هو المكافئ للوجود الإنفصامي (وليس الفصام) وهو أقرب ما يكون إلى ما وصف مؤخراً في التقسيم الأمريكي الثالث للأمراض النفسية (DSM III 1978 ) عن الشخصية فصامية النوع (Schizoytpal personality), وفيه يبدو الشخص طفيلياً معتمداًُ كثير الشكوى نقاقاً نعابا ناعياً حظه متحوصلاً على ذاته وهو بهذه الحال يقوم بتفعيل ميوله الاعتمادية الرضيعية (Acting out his infantile dependency), و يبلغ تأصل هذا النوع درجة تكافئ الوجود الفصامي المزمن. كما أن وظيفته الاعتمادية التحوصلية تؤدي نفس الهدف التوقفي (الرخاوي1979, دراسة في علم السيكوباثولوجي, دار عطوه للطباعة, القاهرة, ص155-156)}.
00والربط بين الاكتئاب النعاب وبين الشخصية فصامية النوع خاصة بعد اتضاح معالمها في التقسيم الأمريكي الرابع للأمراض النفسية DSM IV 1994 يبدو ضعيفاً من الناحية الوصفية الإكلينيكية, فالاضطراب الأخير يعني غرابة في المعتقدات وأفكار سحرية وغرابة في التفكير ومظهر شاذ أو غير معتاد مع انحسار في المشاعر والعلاقات الاجتماعية, والشخص المضطرب هنا لا يهمه أن يشكو ولا يهمه أن يسمعه أحد بل هو بعيد عن كل الناس أو يريد ويتمنى أن يكون بعيداً وأن يتركه الآخرون في حاله.
وهذا يختلف كثيراً عن المكتئب النعاب الذي يلتصق بالآخرين ويعتمد ويتطفل عليهم ويريد جذب اهتمامهم ويتسول مشاعرهم وهو لا يتصف بأي من الصفات سالفة الذكر والتي اتصف بها إضراب الشخصية فصامية النوع. وربما يكون وجه التشابه في المآل حيث يتوقف النمو في الحالتين, ولكن هذا الوجه من التشابه يبدو أضعف من أن يربط بين هذين النوعين من الاضطراب.
التفسيرات الدينامية:
هناك العديد من التفسيرات لاضطراب الاكتئاب النعاب نذكر منها على سبيل المثال:
1- مصاحبة القلق للاكتئاب: فوجود أعراض القلق مع الاكتئاب بدرجات متفاوتة (وهذا ثابت إحصائياً ويصل إلى 60% من الحالات) يؤدي إلى وجود الكثير من أعراض هذا النوع من الاكتئاب, حيث أن شعور المريض بالتوتر وعدم الأمان يجعله في حاجة دائمة إلى الالتصاق بمن حوله أو استدعائهم لطمأنينته وكلما زادت شكواه زادت وتنوعت محاولاتهم لطمأنينته, وهذا ما يريده أو يحتاجه في النهاية.
2- الشعور بالوحدة: وربما يكون هذا الشعور قديماً وكامناً, ولكنه مع الإصابة بالاكتئاب يكون قد اكتشف وسيلة للتخلص من هذا الشعور واجتذاب الآخرين بالشكوى المرضية, وربما يكون في ذلك نوع من العقاب للآخرين الذين تركوا المريض (أو المريضة) وحيداً طوال هذه السنين.
3- الشخصية الاعتمادية (الطفيلية اللزجة): وربما تكون هذه السمات موجودة من قبل في المريض (أو المريضة) ولكن الظروف السابقة لم تسمح بظهورها وتبلورها إلى هذه الدرجة الموجودة بعد الإصابة بالاكتئاب, فالأخير قد أعطى شرعية لظهور هذه السمات السلبية وخاصة إذا أبدى أحد المحيطين بالمريض (أوكلهم) استعدادا لتقبل اعتمادية المريض وتطفله والتصاقه, هنا يحدث إتفاق غير مكتوب (وغير شريف) بين الطرفين فيتنازل المريض (المكتئب النعاب) عن الكثير من حقوقه (وربما كرامته) في مقابل أن يعفى من مسئولياته وأن يتحمل الآخرون اعتماديته وسلبيته.
4- العدوان: فالمريض يقوم بالعدوان على من حوله (الأسرة والأطباء) بإظهار عجزهم وقلة حيلتهم عن مساعدته وإخراجه من أزمته فهو يخرج لسانه للجميع ويقول لهم بلسان الحال «وريني هاتعمل إيه يا فالح». وهذا العدوان قد يصل إلى درجة ما يسمي في علم النفس ب«الإخصاء» وهو تعبير يعني نزع رجولة من حوله بإخصائهم سواء كان من حوله رجلاً فعلاً أو امرأة مسترجلة متسلطة نزعت رجولته من قبل بتسلطها واستبدادها. والمريض إذ يشعر من حوله بالعجز عن مساعدته يشعرهم أيضاً بأهمية دوره الذي كان يقوم به وهو الآن متوقف عنه بسبب المرض, وكأنه يقول لهم بلسان الحال «شوفوا من غيري بقى هاتعملوا إيه ؟».
5- التوقف عن النمو: أي أن المريض كانت لديه رغبة (شعورية أو لا شعورية) بالراحة والتوقف عن النمو, فهو (في رأيه) قد تعب كثيراً وأعطى كثيراً وقد آن الأوان له ليستريح وعلى الآخرين أن يتحملوا مسئولياتهم نحوه كما تحمل هو مسئولياته نحوهم سنوات طويلة . وعلى الرغم من أن المريض يعلن كثيراً رغبته في الشفاء والعودة لعمله وحياته إلا أن هذه الرغبة تبدو لفظية باهته خالية من أي روح أصيلة, بالإضافة إلى أن سلوكه ينبئ بخوفه من الشفاء وتفاديه له ورغبته الدائمة في استمرار المرض (أو بالأدق مظاهر المرض) كحماية له من مطالب النمو والمسئولية.
6- التسول العاطفي: والذي يظهر في صورة صرخات الاستغاثة ونداءات القرب ومحاولات جذب الانتباه من أم انصرف عنها أبناؤها أو أب تركوه وحيدا وانشغلوا بأمور حياتهم, هنا لا تجد المريضة (أو المريض) وسيلة للحياة الأسرية والعاطفية إلا باستجداء العطف وتسول المشاعر من الأبناء أو الأقارب الذين لا تتحرك قلوبهم ولا تسعى أقدامهم إلا صوب مريضه تشكو أو مريض يحتضر, فمشاعر الذنب التي يوقظها مرض الأم أو الأب هي المحرك الوحيد لهم للاقتراب منها أو منه ورعايتهما. وكشأن أي متسول يبدأ الأمر باستجداء ما هو ضروري لاستمرار الحياة, ولكن ما يلبث المتسول أن يزداد طمعاً ويحترف المهنة فيتسول حتى في غير وقت الحاجة, وهكذا يفعل مرضى الاكتئاب النعاب, فهم لا يكفون عن الشكوى ليل نهار ولا يشبعون من رعاية وقرب أبنائهم وبناتهم حتى ولو تركوا حياتهم كلها وجلسوا بجانبهم, وهذا الموقف يفعله كثير من الآباء والأمهات غير الناضجين لأنهم لا يستطيعون الاعتماد على أنفسهم وليست لهم حياة مستقلة بعيداً عن أبنائهم وبناتهم, لذلك يميلون للتطفل عليهم واستجدائهم وربما ابتزازهم العاطفي طول الوقت.
7- إعلان التمرد السلبي (الإضراب عن الحياة): فحين يفشل المريض في التكيف أو التوافق مع ظروف حياته ويفشل في المواجهة الصريحة مع الظروف الصعبة التي تواجهه, هنا يعلن تمرده السلبي من خلال استمرار المرض (مثل محاولات الإضراب عن الطعام والتي يقوم بها من أعيته الحيلة لتوصيل صوته إلى من يهمه الأمر), فنحن هنا أمام عملية «إضراب عن الحياة» يعبر بها المريض عن غضبه وفي نفس الوقت عن قلة حيلته ووجوب فعل شيء ما ممن حوله للخروج من هذا المأزق, ووسيلته هنا هي التأثير فيمن حوله وجدانياً لكي ينصتوا له ويعطوه الاهتمام الذي يستحقه والرعاية التي حرم منها.
8- الاتجاه العدمي التعجيزي: حيث يعلن المريض أنه لا فائدة من أي شيء ولا معنى لأي شيء ولا ضرورة لأي شيء, فكل شيء مثل لا شيء, وتصبح هذه فلسفته في الحياة, وهو يريد أن يقنع الآخرين بهذه الفلسفة فيشكوا دائماً ويعجزون هم دائماً عن مساعدته فيقول لهم بلسان الحال: « أما قلت لكم انه لا فائدة».
المسار والمآل:
غالباً ما يأخذ المرض مساراً مزمناً تدهوريا أو يثبت في شكل عادات اكتئابية اعتمادية سلبية متكلسة بحيث تصبح هذه العادات جزءا من تكوين المريض وطباعة بعد ذلك فيعيش على مستوى أدنى من ناحية العمل والعلاقات الاجتماعية والهوايات والاهتمامات.
وكثيرا ما يتردد المريض ومعه أسرته على العيادات والمستشفيات أملاً في الوصول إلى علاج حاسم لهذا المرض المزمن المعاند، ويغير المريض طبيبه كل فترة ولا يستمر على أي علاج فترة كافية، ولا يتغير هذا المسار والمآل إلا بمعرفة ديناميات هذه الحالة والتعامل معها من خلال برنامج علاج نفسي وسلوكي خاص.
العلاج:
بمجرد الوصول لتشخيص هذه الحالة فإن الأمر يستلزم عدة إجراءات ضرورية نذكر منها:
1- العقد العلاجي: فبما أن المريض اعتاد تغيير طبيبه وعلاجه على فترات قصيرة وبما أن هذا كان يجهض كل المحاولات العلاجية السابقة، لذلك يلزم تنبيه المريض وأسرته لذلك وعمل عقد علاجي يلزم المريض بالاستمرار في خطوات البرنامج العلاجي الدوائي والنفسي والسلوكي والعائلي بشكل متدرج ومنتظم حتى لا تتكرر الأخطاء السابقة.
2- العلاج الدوائي: يستخدم في حدود بسيطة حيث أن الاكتئاب هنا ليس أصيلاً ولا عميقاً (على الرغم من الإزمان والإزعاج) ولا يعول عليه كثيراً فدوره محدود بالضرورة في هذه الحالة، ويستحسن تثبيت أحد أنواع مضادات الاكتئاب لفترة طويلة على أن يراعى في اختيارها تأثيرها المزدوج في الاكتئاب والقلق معاً، أو يتم إضافة مضادات القلق على مضادات الاكتئاب. وكثير من مركبات الماسا (SSRI) لها خصائص مضادة للاكتئاب والقلق معاً وأعراضها الجانبية محتملة بحيث لا تترك للمريض فرصة التهرب من استمرار العلاج بدعوى الأعراض الجانبية, ولا يجب تغيير العلاج كل فترة قصيرة بناءاً على طلب المريض وإنما نشرح له أن هذه الأدوية تحتاج لوقت كافٍ حتى يظهر مفعولها كما أنها ليست وحدها القادرة على شفاء المرض.
3- العلاج النفسي: من خلال تقييم التركيبة النفسية الدينامية والتركيبة الأسرية والاجتماعية يتم تحديد الأسباب والدوافع التي أدت إلى استمرار حالة الاكتئاب والتعامل معها من خلال العلاج النفسي الاستبصاري أو العلاج المعرفي السلوكي.
وهناك نقطة هامة في العلاج النفسي لهذه الحالات، فعلى الرغم من ضرورة المساندة والتدعيم (الطبطبه) لمرضى الاكتئاب عموماً إلا أن الاكتئاب النعاب بوجه خاص يختلف عن ذلك لأننا كلما ساندناه ودعمناه استجابة لشكواه فإننا نعزز عادات الشكوى لديه، والموقف الصحيح هو أن نكف عن ذلك فيكتشف المريض أن الشكوى (الزن) لا يؤثران في الطبيب ولا في أفراد الأسرة وعندئذ ربما يلجأ إلى الابتزاز والتهديد بالانتحار أو يرفع وتيرة الشكوى، وهنا يجب أيضاً عدم الاستجابة الانفعالية لكل هذا. وعلى العكس نعطي اهتماماً ووداً للمريض حين يكف عن الشكوى وحين تظهر منه أي بوادر إيجابية.
والنقطة الهامة الأخرى هي محاولة تفجير غضب المريض وإطلاقه إلى الخارج ولا مانع في هذه الأحوال من ممارسة بعض الضغوط المحسوبة على المريض والتي يستقبلها أحياناً على أنها عدوان من المعالج أو من الأسرة، وهنا تستيقظ دوافع حب الذات لدى المريض فيهب مدافعاً عن نفسه ويغير توجيه عدوانه إلى الخارج (بعد أن كان موجهاً كلياً أو جزئياً إلى الداخل) دفاعاً عن نفسه وعن وجوده.
وهذا التغير يصحبه تغير في الرؤية فالآخرين ليسوا وسائل ترفيه واعتماد له ، وصبرهم له حدود، وهم مستاءون من سلبيته واعتماده. وأولى مراحل التغيير في هذه الحالة أن يظهر غضب المريض (أو المريضة) وعدوانه نحو المعالج ونحو أفراد أسرته، وربما رفض العلاج الدوائي أو النفسي، ولكن الصبر والمثابرة على الطريق مع دعمه في حالة توقفه عن الشكوى، كل ذلك يساعد على تغيير السلوك الشكاء.
ومن الوسائل البسيطة التي تساعد في هذا الاتجاه جعل المريض يستبصر بقبح سلوك الشكوى فمثلاً كنا نطلب من زوجة أحد المرضى (وبالاتفاق مع المريض ذاته) حين تسمع المريض يقول "أنا تعبان" أن تقول هي العبارة بهذا الشكل "أنا زنان" وكان المريض يغضب من هذه السخرية من شكواه ولكنه بعد فترة يضطر لمراجعتها والتوقف عنها حيث لم تعد تؤدي وظيفتها.
ونحن لا نهمل المريض بالكلية لأن هذا يؤذيه من جوانب أخرى وإنما نهمل شكواه المستمرة (زنه ونقه ونعابه) فلا نعطيه وجهنا أو اهتمامنا حين يعاود هذا السلوك وإنما نعطيه كل هذا حين يسلك سلوكاً إيجابياً مسئولاً ناضجاً وبهذا نصحح عملية الارتباط الشرطي الخاطئة التي حدثت في مراحل سابقة من المرض حيث ارتبطت الشكوى بالاهتمام والرعاية وارتبطت الصحة بالهجر والإهمال.
واقرأ أيضًا :
المرأة والاكتئاب / الدواء لا يؤدي إلى تحسن الاكتئاب م / الاكتئاب المتبقي أم العلاج المنقوص ؟ م