العَمَلْ والأمل ونزع البرمجة (انتظام القطيع)
طبقاً لإحصائيات شتى تأكد أن المصريين ينفقون أكثر من (10 مليارات جنيه) سنوياً، نعم أكثر من عشرة مليارات جنيه سنوياً على الخرافة والدجل، تُرى ما هو سرّ الغموض في تنامي تلك الظاهرة الخطيرة التي يبدو أنها تتنامى سنة بعد سنة عقب نكسة(1967)؟
هل المسألة عَمَل وأعمال؟ هل هي ضلالات مشتركة (اعتقادات خاطئة لا تقبل الشك) أم أنها هستيريا جماعية، انشقاق، تصدّع، تفكك وضعف في الأنا (النفس والذات)، مما يسهل حتى على حاملي الدكتوراه الوقوع بسهولة شديدة في هوة الدجل راضين مستمتعين وكأنهم بذلك يسعون بذلك إلى قدرهم أو يرمون بأنفسهم إلى التهلكة.
هل الأمر متعلق بأمية المتعلمين ذوي الثقافة المحدودة والتماسك الهش؟ ما الذي يدعو؟ ومن الذي يدفع؟ وما الذي يرمي إلى (الزحليقة) التي ما أن تبدأ لا تنتهي، دائرة مغلقة لا تفرغ، دوامة من السحر والجن والشعوذة، تبعثر وتشتت، تنويم وتمسك بأهداب نملة والجري وراء جناح بعوضة.
محافظون، مستشارون، لواءات،أعضاء مجلس شعب، فنانون، مطربون، يتوجهون إلى حضرة صالح أبو خليل (سها الباز ـ العربي ـ 12-9-2004) والمنزل كما تصفه الصحفية (مكون من ثلاثة طوابق ذا أربعة أبواب: الأول للسيدات والرجال معاً، والثاني للرجال والثالث للنساء، والرابع للخروج فقط) تنظيم دقيق وكأنه المؤتمر السنوي للحزب الوطني، أو كأنه عرض لنجم (بوب) عالمي في ساحة من ساحات أوروبا، أو في مدينة الإنتاج الإعلامي (لإنريك إجلاسيوس ونانسي عجرم) تنظيم وتدفق يوحي ويُهيئ ويُحضّرْ لكل ما يمكن توقعه إلاّ التفكير العلمي وتحكيم العقل.
نعاود الحكاية على لسان شاهدتها، الطوابير لا تنتهي من رجال ونساء عرقانين، يصعدون الدَرْج، كل درجة يقفون عليها نصف ساعة (يتأملون، ويمسح وعيهم الزمن والجهد، تجهز الرحلة على الباقي من أي درجة من درجات التركيز والفهم ..
أخيراً يدخلون إلى غرفة مكيفة مظلمة (لابد أن تكون مكيّفة بعد الحرّ والعناء العرق والجهد، ولابد أن تكون مظلمة حتى توحي بالمجهول. وهي الواحة الروحانية المنتظرة لغسل الذنوب والعرق؟!) شعاع من النور يسقط على وجه الشيخ؟! (Spotlight)
إخراج مسرحي شكسبيري يزيد من قوة الإيحاء ويضخم من الصورة الذهنية المُسبقة لمن لم يره بعد، ويُكبِّر من تلك السابقة لمن رآه سابقاً)ـ ترفض (سها الباز) تقبيل يده فما كان منه إلاّ أن ابتسم ابتسامة شديدة السخرية (بالطبع يهزأ من تلك التي لا تقدر النعمة والتي لا تنتظم في القطيع). رفض الشيخ الإجابة عن أسئلة الصحفيين ورمقتهم بطانته بنظرات غاضبة... زحام شديد، ثلاث سيارات شرطة تطوف المكان طول الوقت (خشية التجمهر)، أم خشية انفلات الجَمْع المنّوََّم
تحضر الفنانة(حنان شوقي) حسب وصف الصحفية في سيارة جيب شروكي مرتدية بنطلوناً من الجينز الأزرق وتصرح بأنها تأتي للبحث عن بعض (نفحات الإيمان) وأن معظم الفنانين يحضرون لأخذ البركة...
الفنانون. مفروض أنهم على درجة من الوعي تحميهم وتسلحهم ضد الخرافة وهم أصحاب رسالة من خلال الدراما التي يقدمونها، إذن ما الذي يحدث حقاً ولماذا؟
هل العمل الفني مرهق للغاية فتكون الراحة ويكون الاسترخاء بهذا الشكل التراجيدي كأفلام الرعب، ولكي يكتمل المشهد تأتي سيارات الصعيد والوادي الجديد لتفرغ يومياً عشرات الأطنان من الأرز والخضروات والدقيق والبطاطس.
كما تقول السيدة زينب عبد النبي المُدرسة: آتى من القاهرة منذ ثلاث سنوات لأتأمل كل شيء لقد حاولت مقابلته لكن حال دونه البسطاء والفقراء وهم يتصارعون على أرغفة الخبز.
(هل لنا أن نتأمل قليلاً معطيات هذا المشهد: مُدرسة تعلم النشء ـ تأتي وتصرّ ثلاث سنوات تباعاً، لكن لا تتمكن من مقابلة الشيخ البركة لأن الفقراء في مشهد الجياع يحولون دون ذلك) إذن فنحن أمام حالة صريحة من (تحكم شخص في عقول مدرسين ومحافظين ولواءات)، بل كما تدل بعض المصادر على أن الشرطة تحميه وهو الذي يقيم في فيلا شديدة الحراسة، ولم لا فهو ثروة قومية أهم من نجيب محفوظ وأحمد زويل
وها هي المواطنة سميحة مختار: (نفس المصدر السابق) تأتي من أسيوط مع والدتها المريضة تتمنى ـ فقط ـ (النظر) إلى وجه الشيخ صالح أبو خليل ورغم أنها دفعت ما معها من فلوس إلى رجاله فلم تتمكن. أي تغييب هذا، أي سيطرة شرسة مدمرة على عقول الناس باختلاف مستوياتهم.
ما هي الديناميكية التي تختفي وراء كل هذا.. ؟
المسألة ليست (غسيل مخ) لأن ذلك يتم بالقوة للأسرى والرهائن وفي نهاية الأمر لا ينجح في تغيير أي معتقدات والدليل مؤكد على ذلك حالة (سهى بشارة) التي تعرضت لأقصي أنواع التعذيب الذهني علي أيدي لاحتلال الإسرائيلي على مدي (15 سنه) قضتها في سجونهم. نحن ـ في مصر الآن (2004) ـ أمام استمرارية مزعجة من الأفكار المخلوطة عشوائياً وكأنها ( خلطة فول سحرية) أو (حلبة محوجة مؤلمة) خلطة مشاعر وسلوكيات مربكة ومرتبكة لناس نسوا أشياء كثيرة تحت وطأه ضغوط نفسية و اجتماعية رهيبة.
إن التغير في الشخصية وتصرفاتها يمكن تفسيره على أنه عملية (نزع البرمجة Deprogramming) فكلنا إلى حدّ ما مبرمج (بمعنى أن التربية، النشأة، الجينات، البيئة المحيطة، الغذاء، الثقافة العامة والمباشرة ... كل ذلك يبرمجنا فنحن نكون ما نحن عليه الشخصية ـ كتركيبة نتاج كل هذا.
بالطبع فإن هذا البرنامج قابل للتغيير حسب ظروف تغير البيئة المحيطة، السفر للخليج مثلاً. غير السفر إلى أوربا أو أمريكا كل سفر يدخل على البرنامج شيئاً أو أشياء، كذلك فإن الكوارث التي تلم بالإنسان بدءاً من موت قطته العزيزة وانتهاءاً لفقده ولد أو والد، يؤثر سلباً وإيجاباً على شكل وطبيعة البرنامج الذي يكوننا ونكون ما نحن عليه( هنا والآن).
قبل وبين ومع كل ذلك تحدث تحولات فيها عمليات تصدير إيحاءات وأفكار ورؤى، "تثاقف عكسي" التثاقف (ِAcculturation)، بمعنى تعديلات تطرأ على ثقافة بدائية نتيجة لاحتكاكها بمجتمع أكثر تقدماً ـ في حالات التشبث بالخرافة، البدع، الشعوذة والدجالين، يكون التثاقف عكسياً بمعنى أن الثقافة المتقدمة تطرأ عليها تغيرات سلبية نتيجة لاحتكاكها ببيئة أكثر تخلفاً وتردياً، والتأخر والارتكاس(Backwardness) ظاهرتان مستقرتان في التاريخ، وتعنيان تخلف الفكر، أي تأخره عن زمانه وأوانه وارتكاس الثقافة باتجاهها نحو الماضي والاحتماء بها ـ (خلدون النقيب في فقه التخلف ـ 2001).
ولا يمكن ترك الموضوع بدون طرق أبعاده فيما يخص مجتمعنا المصري في العمق وفي القلب فـ(التخلف بمعنى التأخر والارتكاس ينتج ثقافة تتناسب مع موقع تلك الأمة، أو ذلك الشعب، في معادلة القوة على مستوى العالم. وثقافة التخلف تنتج منظورات وتفسيرات ترزح تحت عبء التأخر والارتكاس، تتراوح بين جلد الذات إلى الانغلاق على الذات. في تعصب سلفي مضاد ( نفس المصدر السابق)
وإذا تأملنا حالنا الآن لوجدنا أن تخلفنا تأخرنا وارتكاسنا أنتجنا ثقافة متدنية ودنيئة على كافة المستويات: ثقافة الأرواح والعفاريت، ثقافة التيك أواي أكلاً وفناً وثقافة، ثقافة الفيديو كليب وثقافة السيطرة على الآخر وإذلاله نفساً وجسداً، ثقافة مبدأ (نعطيك في جيبك ونأخذ ما في نفسك وقلبك)، ثقافة الإلهاء الجنسي والاجتماعي، ثقافة القهر والظلم والسطحية والأنامالية والنرجسية ورفض الآخر، وفي خضم كل هذا نحن نجلد ذاتنا كل لحظة فننغلق على ذاتنا كثيراً وننفتح على ذاتنا بدون حساب أحياناً أخرى مما يخلق تشتتاً وفوضى وانعدام للتخطيط والحساب.
إذن ماذا يحدث في جلسات تحضير الأرواح وإخراج العفاريت؟
يحدث تأثير وتوجيه أقرب إلى تلك اللغة الجسدية المنطوقة المنمقة الطنانة المتسمة بالمغالاة وعدم الصدق، المتكلفة غير المعنية بالفكر الصحي والعلمي والصحيح. ولنا ـ نحن الذين لا نعتقد ولا نذهب لأئمة الخرافة نجد صعوبة بالغة أحياناً في فهم آليات هؤلاء المنوًمين وكأن الكلمة من (سيدنا الشيخ) بكل آثارها وتأثيراتها.
وكأن (النظرة) فحسب إلي وجه الشيخ تكون طمًاعة, شرهة, شديدة التوق إلي الغيبوبة، الانصراف والاختباء من كل ما هو مزعج ومؤلم وشرير وقادم في ظل تربص اجتماعي مرعب وتوتر إنساني شديد, فتنتشر وتسري كالنار في الهشيم من واحد لآخر ومن بيت لبيت ومن دكان لدكان وهكذا الذي يجد الراحة في ذلك التعميم للوعي (يكون قريباً جداً من حالة تعاطي وإدمان المخدرات، ومن حالة التنويم المغناطيسي).
يعتمد هؤلاء الدجالون علي ذلك جداً ويعرفونه تماماً ويحركونه ببراعة، وكأن الحجر عندما يلقي في البئر يحدث الدويّ المطلوب (واللي ما كانش عايز واللي بيشاور عقله, والمحتار، المغبون والزعلان والمقهور، سيجد ضالته في تلك الغرفة المكيفة، وسيدفن روحه في ظلامها الدامس بعد رحلة العناء في حياته، ورحلة المشقة من مكانه سفراً إلي باب الشيخ وطلوعاً إلي حضرته وسط خضم العرق والتراب والدموع)
ولهذا فإن هؤلاء (صيادي العفاريت) أكثر حظاً ونصيباً لدي العامة والخاصة، لدى النخبة والدهماء، أكثر حظاً من علماء الدين والطب والمعرفة في وصول القطاع الأكبر ممن يعانون من مشاكل مركبة بغيضة وكريهة أحياناً، يصلون إليهم بسرعة البرق ودون تفكير, هنا يختفي الصدق العادي المؤلم، يختفي وراء الأحجبة ودخان البخور وصيحات المُريدين...
نعم يختفي وربما للأبد... إذا ما ماتت ضحية مصابة بالصرع تحت ضربات دجال انهال عليها بالعصا دون هوادة، أو امرأة موتورة تزوج زوجها عليها فجأة فأمسكها سيادة الشيخ بيده من (زمارة رقبتها)حتى كادت تختنق وهو يصرخ كالمجنون (للجني المزعوم) أخرج. أخرج. والمسكينة بكل ثقل الصدق على صدرها وبكل التفاصيل الجنسية والحياتية لا تتمكن إلاّ أن تخرج الجني وتخرج معه صوتاً غريباً يأتي من حشرجة الزور ومن الخوف والرعب ثم تنهد وتسقط مغشياً عليها بعد أن انحسر الأوكسجين والدم عن تدفقهما إلى المخ وخلاياه.. يكبّر الموجودون ويصيحون يهتفون لخروج الجنّي. هنا يرقد التوتر الأعظم في ثنايا المخ ويسكن الصدر الموجوع حتى إشعار آخر.
هنا علينا أن ندقق في استخدامات الدجالين لبعض الأساليب النفسيةـ بالطبع دون علم أو درايةـ لكن بخبرة كبيرة لبني البشر وهم مأزومون وفي عرض بصيص أمل، مهيأون لاستقبال أي شيء.
لكن المحيّر والمثير للدهشة هو إعطاء غطاء شرعي لبعض هؤلاء الدجالين سواء كان ذلك على صفحات الصحف أو على شاشات التليفزيون وتحت دعاوى كثيرة منها ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ الإدلاء بدلوهم في أمور المستقبل والحياة والموت من باب الأحلام وتفسيرها على الرغم من أن (د. جمال قطب عالم الأزهر الشريف) قد أكّد أكثر من مرة علناً وضمناً على أنه لا شيء يُسمى تفسير الأحلام الشرعي؟! لكن البعض تبوّأ مكان عالم الدين وعالم النفس وارتاح إليه، أُفردت له الصفحات بانتظام، ويزداد عدد مُريديه كلما زاد الهجوم عليه! ولذلك تخفض قيمة العلم والعلماء فتنداس آرائهم تحت أحذية الجهلة والمشعوذين، فنرى الغش العلني للضمير الإنساني وتمزيق أوصال الناس وتقطيع لحمهم دون وَرَع.
ونجد في بانوراما العفاريت والسحرة المشعوذين، الدجالين بألف لون ولون يُغيرون وجه الحق بالباطل ويستبدلون الأبيض بالأسود من خلال مجموعة من الأكاذيب، من خلال الحذف والإسقاط والإغفال لكل ما هو واضح والحقيقي والدخول إلى ما هو غريب وبعيد عن المنطق دون هوادة وبإصرار شديد.
وللأسف أن المشكلة عامة عموم الناس فنجد مقولة (فرانك لويد رايت) ـ (Frank Lloyd Wright) ـ (Persuasion and Healing – Schocken, 1974)، (2%) من الناس يفكرون، (8%) يظنون أنهم يفكرون، و (90%) سيموتون قبل أن يفكروا كذلك فنحن نعلم،والدجالين يعلمون جيداً أن غالبية الناس قابلة للإيحاء ويشتد ذلك الإيحاء مع الجهل وانعدام الثقافة، ضعف النفس والأنا، التشوش، التكرار، سريان الخبر، التأثير الجمعي للعامة، الإحساس الدفين بالذنب لشيء أو لأمر عظيم مما يستوجب التعذيب وصرف كل ما هو متاح ومملوك لإرضاء سيد الجن من خلال (تحصينة وتحويطة)، ومما يدعوا إلى ضرورة أن يُذل العبد رضوخاً لملاك الزئبق الأحمر، الإحساس بانعدام القوة على المقاومة، على الفعل الإيجابي، فتجد الضحية نفسها مسلوبة الإرادة تتأرجح بين أحاسيس الخوف والأمل والمشي وراء الناس، الانغماس لآخر لحظة مع القطيع (لعلّ وعسى؟) ...
لكي نفهم ما يحدث لنا وعلينا ـ هنا والآن ـ أن ننهض ونوعى سياسياً، منطقياً، دينياً، علمياً، ليس فقط فيما يخص الدجل والشعوذة لكن في كل ما يحيط بنا وما يدخل في قلوبنا ما يدور في أذهاننا كمصريين بخصوص هويتنا الثقافية إنتماءاتنا، حياتنا، آمالنا، ووجودنا وبالطبع مستقبلنا.
ويتبع >>>>>>: المصريون والعفاريت(2)
اقرأ أيضاً:
المصريون والاكتئاب / المصريون والتعليم / ا المصريون وبانوراما النفس والجسد1