"اسطنبول"..مدينة عشقتها قبل أن أزورها بسنوات..وعَبرت عن عشقي هذا عندما كتبت عنها في إحدى خواطري عام 1986 على إثر قراءتي لعدد من مقالات الأستاذ أحمد بهجت القصيرة في عاموده اليومي بالأهرام "صندوق الدنيا" وتمنيت يومها أن أزورها، وهي الأمنية التي لم تتحقق إلا في أواخر صيف عام 1995 عندما سافرت لحضور مؤتمر الاتحاد العالمي للمنظمات الطلابية الإسلامية وهي الزيارة التي أكدت لدي عشقي للمدينة، ومن ثم فقد تعلقت بزيارتها ثانية وبالفعل زرتها مرتين أخريين، الأولى كانت في صيف العام قبل الماضي 2003 والثانية كانت هذا الصيف، لكنهما زيارتين فيهما أكثر من مجرد السياحة المعتادة من حيث الجوهر.. حول مشاهداتي وانطباعاتي عن المدينة من خلال تلك الزيارات الثلاث أكتب هذا المقال.
للسياحة فيها وجوه عدة
اسطنبول مدينة ذات وجوه سياحية عدة:
• فهناك الوجه الطبيعي/الجغرافي: تنقسم مدينة اسطنبول إلى ثلاثة أقسام قسم آسيوي وقسمان أوروبيان يفصل بينها مضيق البوسفور وبحر مرمرة الذي يقع القسم الآسيوي على شاطئه الشرقي وخليج القرن الذهبي المتفرع من المضيق والذي يفصل القسمين الأوروبيين إلى شمالي وجنوبي، ويتنقل الناس بين تلك الأقسام برا وبحرا عبر عدد من الكباري القصيرة التي تمتد فوق مياه الخليج والكباري المعلقة التي تمتد فوق المضيق والخطوط البحرية الداخلية التي تربط بين محطات عديدة على هذا القسم أو ذاك والسياحة بطول المضيق أو من المدينة إلى جزر الأميرات التي تقع في بحر مرمرة من أمتع الرحلات التي تكشف الكثير من معالم المدينة الساحرة، واسطنبول مدينة ذات طبوغرافيا متموجة فهي عبارة عن هضاب وجبال ووديان يغلب عليها جميعا اللون الأخضر حيث تغطيها الأشجار مختلفة الأنواع والأحجام.
• وهناك الوجه الأثري/التاريخي: فما أثراها من مدينة فأنى سرت هنا أو هناك قابلك أثر إسلامي إما مسجد أو سبيل أو سوق أو مقبرة أو قصر أو متحف، ومساجد اسطنبول سواء القديمة الأثرية منها أو الحديثة تحفة معمارية وآية في الجمال والنظافة سواء من الداخل أم من الخارج، ولكل من طابع وسمت غير أن ما يجمعها جميعا شعور السكينة الذي ينتابك أينما دخلت، شعور ربما يكون مبعثه الجمال والنظافة، وربما يكون مبعثه الوجوه الصبوحة البيضاء المتوضئة التي تنتشر هنا وهناك راكعة ساجدة أو قارئة للقرآن في هدوء وسكينة، وكل مسجد من تلك المساجد عالم أو نسيج وحده سواء المشهور منها كالمسجد الأزرق (أو مسجد السلطان أحمد) أو مسجد الفاتح أو مسجد أبو أيوب الأنصاري، أو الأقل شهرة كالجامع الجديد (يني جامع) أو مسجد بايزيد أو لاليلي أو غيره من المساجد الجامعة؛
أغلب تلك المساجد تحيط به ساحات فسيحة تقع الميضاة في كثير منها، وتوجد بها حدائق ذات بهجة ومهابط آمنة للحمام تشبه تلك الموجودة في ميدان البيكاديللي في لندن حيث يسير الحمام بين الناس الذين يقدم بعضهم إليه الطعام الذي يبيعه بعضا من الباعة رقيقي الحال كسبا للرزق الحلال. أما الأسواق فأشهرها اثنان: السوق المغطى ويقع بالقرب من مسجد بايزيد وجامعة اسطنبول ويشتهر بالذهب والملابس والحرف اليدوية من سجاد وخزف وما أروعها من حرف حيث تشتهر تركيا بخزفها المتميز شديد الروعة، أما السوق الآخر ويعرف بالسوق المصري أو سوق البهار ويرجع تاريخه إلى القرن الخامس عشر ويقع بجوار الجامع الجديد ويمتلئ بالبهار والعطارة والحلوى التركية الشهيرة.
• وهناك الوجه البشري الإنساني: فإن اسطنبول هي مدينة تموج بالحياة وحركة الناس، ولعل أمتع ما فيها –وكلها ممتعة- هو حي إيمينونو الذي يقع في منطقة تفرع الخليج من المضيق ويقع بالقرب منه قصر توب كابي وهو قصر الخلافة العثمانية، وتقع عليه العديد من المحطات البحرية وتمر به خطوط الترام وتنتهي عنده خطوط الأتوبيس والقطار ويطل عليه الجامع الجديد بساحة الحمام أمامه والسوق المصري المغطى لبيع البهار والحلوى، ميدان يموج بالحياة ليلا ونهارا:
الناس ذهاب وإياب إلى خطوط المواصلات، البيع والشراء على الأرصفة وفي الأكشاك وفي الأنفاق الواصلة بين ضفتي طريق المواصلات البرية الذي يعبره، الطعام والشراب الرخيص والغالي هنا وهناك، أسماك وفواكه ومكسرات وسميط وفطائر وأشربة كثيرة من أيران (أو اللبن السلطة كما يسمونه في مصر) وعصير الكريز والكيوي والليمون وغيرها، الناس في الميدان وقوف ومرور وجلوس والوقت فيه يمر بلا ملل.
• وهناك الوجه الحضاري: فالمدينة لا تقل نظافة ونظاما وجمالا عن أرقى المدن الأوروبية وسكان مدينة كالقاهرة مثلي يحسون بالفارق الشديد بين المدينتين اللتان يتقربان في عدد السكان (حوالي 15 مليون في كل منهما تقريبا).
الطيف الإسلامي التركي على وجه اسطنبول
على الرغم من تلك المزايا السياحية العديدة التي تتمتع بها المدينة والتي تجتذب إليها الملايين من كل حدب وصوب إلا أن لي في زيارتها مآرب أخرى يأتي على رأسها جميعا متابعة وقراءة الحالة الإسلامية لتركيا عن كثب، فاسطنبول هي المرآة الصغيرة التي تستطيع أن ترى فيها وجه تركيا كاملا.
ومنذ أن زرت اسطنبول عام 1995 وكان حزب الرفاه هو الذي يحكم بلدية المدينة، وكان هو مضيف وفود المؤتمر، وقبل ذلك..ومنذ أن قرأت ما كتبه الأستاذ مصطفى الطحان عن تاريخ الحركة الإسلامية في تركيا، ثم منذ أن حدثني أخي وصديقي الدكتور إبراهيم غانم بحديثه العذب عن نمط الأعمال يقوم بها الرفاه في البلديات وبخاصة ما يفعله رجب طيب أردوغان في رئاسة البلدية، ومنذ أن حدثني عن تركيا الأوقاف والمجتمع الأهلي وأنا أتشوق لمعرفة المزيد ودراسة الحالة عن قرب، وهو الأمر الذي رأيته بشكل أوضح خلال الزيارة الثانية والثالثة على وجه الخصوص، ومن ثم فإنني أستطيع أن أصف المشهد الإسلامي في تركيا الآن على النحو التالي:
• يتوزع الطيف الإسلامي التركي على متصل، ما بين يمين ووسط ويسار إذا جازت التسميات
• على أقصى اليمين يقف حزب السعادة والمنظات الأهلية المرتبطة به فكريا كـ"مظلومدر" وهي حركة حقوق إنسان تضغط على الحكومة بكل الوسائل القانونية المشروعة ضد انتهاكات حقوق الإنسان، ومنها منع الطالبات من ارتداء الحجاب، وكذلك اتحاد المحامين ويقوم بصياغة تعديلات في القوانين أو قوانين بديلة لتلك التي يراها جائرة، ومن ثم يضغط على الحكومة من أجل تبني تلك التعديلات أو التبديلات.
• في الوسط يقف حزب العدالة والتنمية الحاكم ويسعى من أجل أن تحظى تركيا بوضع الدولة العضو في الاتحاد الأوروبي، وأن يهيئ الوضع الداخلي لنجاح تلك المحاولات، وفي سبيل ذلك يسعى لتغيير بعض القوانين الجائرة التي تعد انتهاكا لحقوق الإنسان أو تبرر تدخل الجيش التركي في السياسة.
• وإلى اليسار يوجد النورسيون (تلاميذ الشيخ بديع الزمان سعيد النورسي وتلاميذ تلاميذه محمد فتح الله كولن) والنقشبنديون وهؤلاء يقومون بتهيئة التربة الإيمانية للشعب التركي من خلال ما يقومون به من أعمال وما أنشأوه من مؤسسات في مجال الإعلام والتعليم كما امتدت أعمالهم في هذا المجال إلى الكثير من بلدان العالم من الصين شرقا إلى الولايات المتحدة غربا، كما تعددت ترجماتهم للكتب والمجلات التي تدعم رسالة الإيمان والأخلاق بما يخدم أعمالهم في البلدان التي فتحوها بمدارسهم وجامعاتهم ومجلاتهم وصحفهم وسائر وسائل إعلامهم ومن ثم فإنهم يمثلون البنية الأساسية للبناء الإيماني والأخلاقي للشعب التركي وغيرها من شعوب العالم، وقد استمتعت بزيارة مؤسساتهم في زيارتي الثانية والثالثة لاسطنبول ومن ثم أستطيع أن أقدم عنها صورة أكثر تفصيلا:
تاريخ طويل من العمل الدؤوب
منذ عام 1978 بدأ تلاميذ الشيخ محمد فتح الله كولن في تحويل الفكر القائم على التربية الإيمانية والسلوكية إلى برامج عمل ومؤسسات تعمل بشكل أساسي في مجالين تخاطب بهما ضمائر الشعب التركي وتبث فيهم رسالتها وهي: الإعلام والتعليم، ويدعم تلك المؤسسات ويمولها عدد آخر من المؤسسات التي تعمل في مجالات المال والأعمال، بحيث تكون تلك المؤسسات في مجموعها حلقة متكاملة تخدم أعمال مؤسسات الإعلام والتعليم بشكل أساسي، وتعمل تلك المؤسسات الإعلامية والتعليمية من خلال استراتيجية أساسية هي: فن الممكن، والمحور الأساسي لعمل تلك المؤسسات والذي يمثل النواة الصلبة لهل هو: بناء الإنسان على أساس إيماني وأخلاقي وعلمي متين.
ففي مجال الإعلام:
• هناك مؤسسة أبحاث النور: والتي تصدر عددا يقارب العشرين من المجلات بأكثر من لغة منها التركية والروسية والإنجليزية والفرنسية والإسبانية والألمانية وقريبا تصدر المجلة العربية "حراء"، كما تصدر عددا من الكتب المترجمة بتلك اللغات تتضمن في الأساس الفكر النورسي والجولاني، وبالمثل فإن هناك دار نشر سوزلر وتمثل جناحا آخر وأصغر من النورسيين وتقوم نشر رسائل النور للشيخ النورسي بحوالي 15 لغة على الأقل.
• هناك وكالة أنباء جيهان: وهي تعمل أيضا بعدة لغات
• هناك محطة تليفزيونية وإذاعة إف إم: سامونيولو (وبالمناسبة فإن في تركيا الآن ثلاثة محطات فضائية تمثل الطيف الإسلامي فيها الأولى: قناة (5) وتمثل اليمين الإسلامي، والثانية قناة (7) وتمثل الوسط الإسلامي إضافة إلى قناة (S) أو سامونيولو وتمثل اليسار الإسلامي إضافة إلى وجود العديد من محطات البث الإذاعي.
• هناك جريدة زمان: وهي ثاني أوسع الصحف التركية انتشارا وتوزع طبعات خاصة بالبلقان وطبعات خاصة بأمريكا وأخرى بأوروبا، وتصدر مؤسسة زمان مجلة سياسية تسمى أكسيون، تعتبر من أوسع المجلات السياسية الشهرية انتشارا في تركيا، وبالمناسبة فإن تركيا تحفل بالصحف والمجلات ذات الأرضية الإسلامية أمثال: يني آسيا ودنيا، ويني شفق وغيرها.
• هناك مطابع تقوم بطبع كل تلك الأعمال الإعلامية الورقية (الكتب والصحف والمجلات)
وفي مجال التعليم:
• هناك مجموعات من المدارس لجميع المراحل التعليمية قبل الجامعية (ابتدائية وإعدادية وثانوية ومدارس إعداد وتجهيز لدخول امتحان القبول الجامعي حيث لا يدخل الجامعات هناك إلا 10 % فقط من الطلاب المتقدمين لامتحان القبول فيها، وتحرص مدارس الحركة على تأهيل طلابها وطلاب المدارس الأخرى من خلال تلك المدارس التجهيزية لاجتياز ذلك الامتحان) ومنها مجموعة مدارس جوشقون، ومجموعة مدارس فاتح وغيرها من مجموعات المدارس والتي تنتشر ليس فقط على مستوى تركيا فقط بل على مستوى العالم من الصين شرقا وحتى الولايات المتحدة غربا، وتزمع تلك المدارس تأسيس مدرسة في مصر تم تخصيص قطعة أرض لها بالفعل؛
وتعتبر مصر بالنسبة لهم مرتكزا مهما للانطلاق إلى أفريقيا.
• هناك جامعة فاتح وهي جامعة أهلية وقفية وهناك ثمانية جامعات أخرى في دول آسيا الوسطى، وتسير الجامعات على نفس نهج المدارس والعمل لفي إطار فن الممكن والمتاح.
وفي مجال المال والأعمال:
• هناك مجموعة شركات "قيناق جروب" والتي تضم ما يقرب من عشرة شركات تعمل في كافة المجالات التي تدعم الرسالتين الإعلامية والتعليمية وتلبي كافة احتياجاتها
• هناك بنك آسيا
خصائص المؤسسات التعليمية:
تتميز مجموعات المدارس بمستوى عالي من النظافة والنظام، والنشاط الطلابي، والتركيز الأساسي في المدارس على أمرين: المستوى الإيماني والأخلاقي من جانب، والمستوى العلمي من جانب آخر.
• فعلى المستوى الإيماني: وبالرغم من عدم وجود حصة للتربية الإسلامية في القانون التركي بل هناك حصة للدين بشكل عام (إسلامي ومسيحي ويهودي) مدتها ساعتين في الأسبوع إلا أن المدارس تحفل بنشاط تربوي عالي تعمل من خلاله المدارس على تثبيت المعاني الإيمانية والسلوكية في نفوس الطلاب
• وعلى المستوى العلمي: تؤهل المدارس طلابها لمستوى علمي عالي يجعلهم يتفوقون على نظرائهم في المسابقات العلمية على مستوى تركيا والعالم في مجالات الفيزياء والكيمياء والبيولوجي، ومن أجل ذلك تتجهز تلك المدارس بمعامل على مستوى عالي، للمستوى الدراسي العادي وهناك معامل أبحاث يشرف عليها أساتذة جامعات ويقوم الطلاب فيها بالعمل تجهزا للمسابقات الدولية العلمية.
• وعلى مستوى النشاط الطلابي: هناك أنشطة متعددة سواء رياضية أو صحفية بالمدارس تؤهل الطلاب للدخول في منافسات على مستوى تركيا أيضا في مجالات الأنشطة المختلفة
• وخلال فترة العطلة الصيفية تتحول تلك المدارس جميعا إلى مدارس للقرآن والأنشطة الصيفية المختلفة التي تستكمل ما بدأوه في فترة الدراسة في الجانب الإيماني والأخلاقي.
هذه هي حصيلة ملاحظاتي ومشاهداتي ومعلوماتي التي حصلتها من خلال زياراتي الثلاث لاسطنبول.
اقرأ أيضاً على مجانين:
العدالة الاجتماعية بين منهجين: خيري وثوري / داغستان..سطور من دفتر الحالة الإسلامية