تأثير الثورة سلباً وإيجاباً بمعنى القلق الصحي والمرضي ى(القلق على الثورة، عدم اليقين الطبيعي نتيجة طول مدّة المُعاناة، الخوف من بكرة، الخوف من عدم المساس بالمجرم الحقيقي، الشعور الطبيعي باستمرار الترقب والشك الذي يُمكن أن يَعُم، الرهافة النفسية لدى البعض، ربما الإحساس بالندم لوقف الحال الوقتي)، طحن المصريين الفساد ووضع اليد على الأرض والعرض، الرشوة والمحسوبية وانعدام تكافؤ الفرص، طحننا كل هذا طحناً، أنهكنا وأرهقنا تماماً على الرغم من صلابتنا الشديدة، وقدراتنا العالية على الامتصاص والانبثاق من الرماد كطائر الفينيق.
إن التأثير النفسي المتعلق بالثورة أكبر وأعظم لتعلقه بالوعي الجمعي، إن شهداء يناير 2011 قد أثروا علينا جميعا، رغم إذكائهم لإنجاح الثورة، لكن طبيعي أن نتفاعل مع ذكراهم إما في صورة صمت مطبق وحزن شديد، ب أو في رغبة عارمة في القصاص، ولا نستغرب أن نرى بعض الأسر قد انكفأت على نفسها وأغلقت بابها واتشحت بالسواد، علقت صور شهدائها في صدر البيت، أو رد فعل عنيف في زمن صعب، خرج فيه بعض الناس إلى الشارع، صرخوا في وجه النظام السابق ناحين باللائمة عليه، ذلك النظام الذي حرق أبناءه ورمى بهم في عرض الطريق أشلاء مضرجة بدمائها، كان الأثر الصدمي الأكبر يتمثل في الإفاقة بعد النصر، في حالة الانكسار الشديدة، والذل العميق الذي نال النفس المصرية،.
إن الإصابات النفسية من جراء القصف والتدمير والمُباغتة وخلق حالة من الفوضى بالخيانة الصريحة، تشمل الهول والرعب والصدمة، فقدان الأمان الكامل المتكامل الذي بدا زائفاً مؤطداً على أن الشرطة لم تكن إلا في خدمة النظام،خلق كل هذا ما يُسّمّى كرب، شدّة ما بعد الصدمة ـ PTSD وهى اختصار Post Traumatic Stress Disorder ونراه هنا زملة أعراض Syndrome الـ PTSD يعني حسب التشخيص العالمي للاضطرابات النفسية أعراضاً (A1) تكونت بعد التعرض لضغط صدمي شديد، نتيجة تجربة شخصية مباشرة، أو حدث له علاقة مباشرة أو تهديدية بالموت أو الإصابة الخطيرة، أو أي تهديد آخر لكيان الجسم أو مشاهدة حادثة أو حوادث تحمل في طياتها بذرة الموت، الإصابة، أو تهديد لجسد الإنسان أو للآخرين حوله، أو حتى العلم بأخبار حول موت مفاجئ أو عنيف مدمر، أو إصابة بالغة؛
أما عن ردود الفعل فتتمحور حول الخوف الشديد، اليأس، العجز والرعب (وفى حالة الأطفال ينتابهم سلوك متهيج ومشتت)،(A2) ـ أما عن الأعراض الناتجة من التعرض للصدمة الشديدة فهي استعادة الإحساس وخوض التجربة الصدمية وكأنها تحدث مرة ومرات أخرى (B) في شكل توهمات، هلوسات، نوبات تذكر انشقاقية Flashback Episodes. مع تجنب دائم ومستمر لأي شيء له علاقة بالصدمة مع (خَدَر) وتنميل في الاستجابات ككل، هذا بجانب أعراض دائمة لحالة (اليقظة الدائمة) D وتستمر تلك الأعراض لأكثر من شهر وتسبب اضطراباً إكلينيكياً، مرضياً يعوق الحياة الاجتماعية والمهنية، كما يعوق أي منطقة أخرى ذات أهمية للمصدوم F.
وينقسم إلى ثلاث درجات: الأولى الحادة وتستغرق أقل من ثلاث أشهر،
والمزمنة التي تمتد لأكثر من ثلاثة أشهر أو أطول.
أما تلك المتأخرة (تأتي بعد فترة حضانة حوالي 6 أشهر من التعرض للحدث، يكون الشخص طبيعياً خلال تلك الفترة وبعدئذ تبدأ الأعراض في الظهور في الشهر السابع)..
أما الأمر في لبنان فهو جدّ مرتبط بالشدّة، بالمدّة، عُمر الظلم والمهانة والاستبداد خاصة من جانب أمن الدولة خاصة فروعه القذرة وأفراده المشوهين نفسياً، مما يوحى بكرب مزمن محفور في الذاكرة، قابع في الوجدان. ذلك الكرب ليس نادراً ولا قصير الأمد، وأيضاً لا يحمل خصائص تشخيصية محددة بمعنى أنه مرتبط بأعراض مرضية أخري ملاصقة له وداخلة فيه، بمعنى أن (كرب ما بعد الصدمة PTSD) ليس اضطراباً خاصاً واحداً خالصاً كما يتصور البعض، سببه القهر السنوات الثلاثين، فالمصري ـ وبشكل صحي من الاكتئاب، حالات الحصر والتوتر، الاضطرابات السلوكية، تعاطي المهدئات والمسكنات، يحدث هذا أكثر في هؤلاء الذين كانوا على استعداد للإصابة ولديهم هشاشة وقابلية والعكس، صحيح أن كرب ما بعد الصدمة يفجر فيمن يبدون (عاديين، خاليين من الأعراض)، اضطرابات أهمها التشوش الذهني الصراع في الرأي بين أفراد الأسرة الواحدة.
رصدت بعض الملاحظات عبر بعض المراكز المحدودة في مصر (مركز النديم مثالاً رائعاً)، تؤكد على أن المعذبين الناجين من صدمات وشدّات كوارث الدولة البوليسية الفاسدة، إن المنظومة النفسية، والجهاز الذهني للإنسان المصري، قد غرقا وسُحقا وقهرا بالحدث العنيف، وبصدمة وفُحش وعنجهية وقسوة النظام السابق بكل أجنحته بدءاً من ممارسات الحزب الوطني بكل قياداته وبلطجيته، إلى محولات ضرب الثورة والتشكيك فيها إعلامياً، (الدماء – الفقدان – الموت – الكذب – الانهيار – الحرمان – التشريد – دوي القنابل والخراطيش - ارتطام عربات الأمن العمياء - أصوات التهشم والتكسر - الخوف – الترقب – الرعب – الهلع – انتظار ما هو آت – أصوات الجماهير الهادرة – أزيز الرصاص – عويل النساء – انعدام الأمن والأمان – الخشية).
إذن ترى ما الذي حدث داخل الأنا المصرية على مدى تلك العقود نتيجة العنف المُزمن؟، تدور هنا ثلاثة أفكار: واحدة من الصدمة العنيفة، والثانية من الجرح الغائر (البدني والنفسي، العميق والمتشظي)، والثالثة هي تلك الآثار والتوابع الممزقة للكيان البشري ككل. إن الغزو الذهني واختراق الأنا يتم بشكل مفاجئ، سريع، خاطف، شديد لا يسمح في الكثير من الأحوال بالتقاط الأنفس للتكيف واستعادة التوازن ورباطة الجأش.
الصدمة كأثر ونتيجة للتحرر من عبء الكُره وفجاجة الظلم، قد يكون الاكتئاب (أحياناً) صمام أمان وملاذ يمتص (الصدمة) بكل بشاعتها، لوعتها، رعبها لكن إذا لم يمتلك المصدوم إمكانية الوصول إلى ذلك (الوضع الاكتئابي) الذي يسمح له بإخراج المرارة والحسرة، (فإن الصدمة هنا قد تلعب لعبتها القذرة في ساحة النفس دون رحمة ودون هوادة)، عندئذ فيبدأ فكر الانتقام والتشفي، ليحدث في الآخر (أياً كان) صدمة بالغة للغاية، وهكذا تدوّر الصدمة والكرب وتوابعها لتصبح كالنار لا تترك أخضراً أو يابس.
وما بين الجلاد والضحية تدور دوائر العنف والقسوة، دوامة الشعور بالذنب، والإحساس بالعجز، ثم الاندفاع نحو ما يمكن أن (يفصل)، يحقق عتمة الوعي، في الحياة، في السياسة، العمل الحزبي، النشاط الاجتماعي الزائد أو التحوصل داخلياً،.
لا للتقوقع والنوم في كهف، فلا إحساس بالأمان داخل درع السلحفاة، فلنتكلم قليلاً ولنعمل كثيرا، عملاً منتجاً ومفيداً.
واقرأ أيضاً:
التعامل مع الأزمات / ما هو التوازن الذي نحتاجه؟ / العقل الجمعي المصري يقود الثورة / ساخن من مصر أيام الغضب الخميس3