الكاتب: تامر عز الدين سعيدالبلد: اليمننوع العمل: قصة قصيرةتاريخ الاضافة 20/06/2007 تاريخ التحديث 23/07/2019 02:26:42 المشاهدات 4009 معدل الترشيح
فيما كان يعبث بأوتار زمن نشاز قادته فكرة طائشة أن يصوغ نفسه دودة تتلوى فوق خارطة الأزقة المتداخلة التي تضطرب فيها البوصلة حين سقط في حفرة ما هوى كحجر ألقي في بركة راكدة فاثأر دوائر أمواج متوالية وتكسر على شطآن نفوس ترزح تحت وطأة عزلة تامة فرضها عليهم ذلك الحفر الذي كان شباك أرملة سوداء وقعت فيه كائنات من كل حدب وصوب فالتصقت بلعاب عناكب لزجة تناضل حتى تخور قواها وأدرك في النهاية أن الحرية وهم والأسر واقع مرير والعزلة لانهائية.
كانت العصافير تحث الصباح أن يصحو ... السحب تتآمر لإثارة عاصفة في سماء مرصعة بالسحاب والإوز الأبيض المذعور وشمس عاصبة الجبين تبعث أشعة وضيئة مصقولة الحواشي كحلم... ولحن نشاز كطائر مكسور الجناح انبعث في أرجاء الحفر مذ يوم سقوط تلك الدودة متبوعة بهبوط توأمين هنديين معهما صرة مليئة بعظام ورسالة تحوي وصية أبويهما........ صدق أهل الحفر نبوءتي... كانا طفلين متماثلين كصورة مرآة يحرك أحدهما يده اليمنى فتتحرك يسرى الآخر كأن مرآة خفية تفصل بينهما وكانت النسوة يلفتن انتباهنا بلعبة غريبة أن تضع إحداهن كفها موارية عيني أحد الولدين فنرى الآخر وجها بلا عينين، يسبق حضورهما صوت طقطقة العظام داخل الصرة التي كانا يجرانها في تجوالهما الدائب. عظام أبويهما. كما أخبرتنا سوما الهندية التي عهدنا إليها رعاية تام ورام.
قالت إنهما لا يأكلان سوى النمل وجير الحيطان وتراب الأرض.. وذات يوم حار احترقت فيه ماتت العصافير التي كانت تصطدم بزجاج النوافذ المغلقة محاولة النجاة من السعير جاءتنا سوما بوجه كالكركم تعلن أنها استطاعت أخيرا أن تفك الخط وعرفت أن تام ورام جاءا من قرية بأعلى الحفر حيث النهار وضيئ كثمرة شقت لساعتها. جميع أهل القرية ماتوا بداء غريب الأرق حتى الموت وأن عمهما قد أعطاهما الصرة والوصية وألقى بهما يتدحرجان هبوطا على سلالم السماء بتؤدة ووقار راجيا لهما النجاة قبل أن تبتلعه غيبوبة النسيان.
رأينا تام ورام لا ينامان وتلقينا أنباء بحواجبنا أن منا من يواصل الليل والنهار ساهرا يراقب وينتظر أن ينام فبدأ القلق يمر كقطيع كسول من الأغنام يعبر أرضا غبراء وداهمنا خطر فوضعنا عقولنا بين أرجلنا غير أننا لم نشعر بأي عناء من جراء هذا السهر الذي انتشر كوباء بل شعرنا بسعادة. خفة. نشوة أنس متواصل محاولين نسيان الموت الذي بدا لنا كحقيقة كنا ندفنها في زوايا نفوسنا المليئة بالتراب.
استخفنا المرح واستبد بنا السهر ليالي كأنها النهار ونهارا في عمل وسمر.
ورأيته مسحورا ذلك اليوم الذي هبط فيه جماعة الغجر إلى الحفر أقاموا خيامهم وبدؤوا في عرض ألاعيبهم العجيبة..... اختراعاتهم المدهشة رقصات نسائهم المثيرة. رأيته بعيني رأسي يتابع الراقصة اليانعة والتي أنهت رقصتها فسحرت الألباب ثم وقفت وسط زحام المتفرجين تجفف عرقها وتتفرج على عرض المرآة ذات الرقبة الطويلة المدلاة على صدرها كخرطوم فيل....؟ حين غاب في متاهات العيون الكحيلة الساحرة كعيني قط صاد أول فئرانه غاص في عمق نظراتها.
ذبحته رموش برية ضارية دوخه خصر أثم آسن، ميال، عروس صبا مزدانة القدمين والكفين بنقوش الحناء الطريق إلى قلبها هلاك، رماح، سيوف، رصاصات ولكن هي ويموت رأيته يقف وراءها يلتصق بها تنفر منه، تبتعد يقبض على خاصرتيها بذراعين طائشتين، تنتفض، تتسارع أنفاسها، تتلوى محاولة الخلاص فيمد يده يقطف ثديها الأيمن الثائر، تستسلم لطقوس سحر أسود نبع من أجساد عطشى وامتد كطوفان يغرق ذكور الحفر وإناثه وتكون فتنة، غواية، ممارسات غرام عارمة وتردد أركان الحفر تأوهات نساء خوار ثيران، نقيق ضفادع، فحيح أفاعي، في ملحمة خرافية ونضال يائس للموت الذي لابد سيدركهم أينما كانوا.
تحققت نبوءتي نما الحفر وتكاثر وتزايدت أعداد الأبقار والأغنام وتكاثفت النباتات والتفت وربت في حالة فريدة من الخصب الشيطاني وكلما زاد الرجل منا عدد خليلاته زاد بالتالي عدد رؤوس أغنامه وأبقاره وأيضا عدد أبنائه عير الشرعيين حتى أننا كنا في هذه الأيام نكتفي بحرف من حروف الأبجدية نطلقه على كل طفل كاسم له، من الألف إلى الياء كان عدد أبنائه ذلك الوقت، ثم بدأنا في النسيان واختلطت النساء عليهم لم نعد نلم بشتات أبنائنا ولا أبقارنا وشاعت ممتلكاتنا حتى نسينا أسماءنا لم نعد نذكر فائدة أي أداة استفدنا منها قبلا وأصبحت الساعات علامات استفهام تكبل أيادينا ونتائج الحائط لغز مثبت على جدار؟
شاع فينا خوف بينما كان تام ورام يواصلان جولاتهما بتلك الصرة المشئومة ينبشان الحيطان ويأكلان ويرتلان كلمات من نور تضمنتها وصية أبويهما عن قوم نسوا الله فأنساهم أنفسهم أصابهم الله بمرض جزاء نكالا بما كانوا يصنعون ثم أخذنا ندون بقايا ذكرياتنا على الأشياء التي كان حتما علينا أن نستعملها فكتبنا بطاقة على أحد الفئوس (هذا فأس يجب أن نحرث به الأرض قبل أن نغرس فيها شيئا ما في وقت ما لينبت لنا به بعد حين نبات ما) وبطاقة فوق بقرة علقناها (هذه بقرة يجب حلبها كل صباح لنحصل على اللبن فنغذي به أطفالنا ويمكن أن تذبح فنحصل منه على اللحم). (وهذه أموال كنا نعتز بها ونحرص عليها لسبب ما نسيناه) وانشغلنا ليل نهار في تدوين بطاقات على جميع ما حولنا والهلع يقتلنا آملين أن نتشبث بما بقي لنا من ذاكرة لعلنا ننجو من مصيرنا المحتوم.
وفيما كانوا يتخبطون في متاهات النسيان ويدخلون أي بيت ويعاشرون أي امرأة اكتشفوا نسيانهم حتى للقراءة والكتابة قبل أن يتدحرج الرعد من السماء ويكشر الليل في وميض البرق ليطعن الأرض بنصل لامع، ثم تفاجئنا الأمطار الغزيرة وتنتزع الأوحال الأحذية، ثلاث سنوات من الأمطار المتواصلة كان منسوب المياه يعلو كل يوم حتى وصل مستوى المياه إلى أطراف أنوفنا فكنا نشرئب برقابنا كأفراس النهر لنتنفس. إلا تلك الدودة التي كانت بشرا والتي رأيتها تغزل خيوطا من حرير تصنع شرنقة تحتمي فيها من البلل وتطفو. كان منسوب المياه يزداد يوما بعد يوم وكانت أجسادنا جميعا تطفو إلى الحد الذي يسمح لنا بالكاد بظهور أطراف أنوفنا للتنفس... كان لابد للأمطار أن تهطل ثلاث سنوات حتى يمتلئ الحفر عن آخره فنطفو إلى سطح الأرض بعد أن طهرتنا جبال من الماء من الداء العضال.. ومن ذلك الركن الرطب على الخارطة طافت صرة مليئة بالعظام حطت عليها فراشه زاهية الألوان قدرها أن تعيش يوما واحدا وليلة واحدة.