سررت بما قرأته من ملاحظات الزملاء وتعليقاتهم على ما جرى ويجري الآن في تونس ومصر وليبيا واليمن، ولا ندري من يلحق بالركب، ولدي أربع ملاحظات إن سمحتم.
(1) التشخيص النفسي والجريمة
تسارع كثير من وسائل الإعلام المحاولة لتشخيص "المرض النفسي" عند بعض هؤلاء الزعماء كابن علي ومبارك والآن القذافي، وربما غيره بعد قليل!.... وربما هذا السعي ينطلق من نظرة إلى الأمراض النفسية، وأن الإنسان إذا كان سيئا أو مرتكبا لأعمال فظيعة فهذا يعني أن لديه "مرضا" نفسيا.
ولعل في هذا تحامل وظلم للمرضى النفسيين، والذي نعلم يقينا أن نسبية بسيطة جدا منهم من يمكن أن يشكل خطرا على نفسه أو على الآخرين، وهذا إن لم يعالج المريض، بينما غالبية من يعاني من المرض النفسي إنسان مسالم لا يشكل خطرا على نفسه أو على الآخرين.
وأرى أن ننتهز هذه الفرصة لنصحح أفكار الناس عن المرض النفسي والمريض النفسي، وخاصة أننا نعلم أيضا أن من يقوم بجرم ليس بالضرورة أن يعاني من "مرض" نفسي، وإلا فيمكن أن تسقط عنه الأهلية، وبالتالي لا يسأل أو يحاسب على سلوكه العدواني. فما يقوم به هؤلاء من الزعماء الدكتاتوريين عمل إجرامي، يقومون به في كامل ملكتهم العقلية، وهم بالتالي مسؤولون عن هذه الأعمال ويحاكمون عليها. ولا مانع أن يتعرض الواحد منهم للفحص السريري في وقت المحكمة وتقديم شهادة الطبيب النفسي في حينها، وخاصة الذي لديه خبرة في مجال الطب النفسي الشرعي أو القانوني.
نعم قد يرتكب إنسان أحيانا عملا إجراميا تحت تأثير المرض النفسي، ولكن ليس بالضرورة أن كل من يرتكب جرما هو بالضرورة مريض نفسي.
إن نظرة المجتمع أحيانا، الأمر الذي يحتاج للتصحيح أن أسوأ ما يمكن أن يوصف به الشخص المجرم أو الذي يرتكب أعملا فظيعة أنه مريض في رأسه!
نعم ممكن أن نتحدث أن شخصية الإنسان كهؤلاء الزعماء، كالشخصية النرجسية والشخصية الزورية والشخصية العدوانية اللااجتماعية...، ويمكن أن نتحدث عن طبيعة الشخص وهو يتصرف تحت الضغط والشدة والتوتر، وكما بدا مثلا القذافي في خطابه الأخير، ولكن ليس بالضرورة أن يصل هذا الأمر إلى تشخيص "مرض نفسي". علينا أن لا نختزل العمل الإجرامي ليصبح مرضا نفسيا، وإنما نوجه تهمة العمل الإجرامي للفاعل، وبالتالي محاكمته في محكمة قضائية عادلة.
الذات والقابلة للاستعمار
السؤال الذي يطرح نفسه ربما ليس مجرد ما هو تشخيص مرض القذافي أو مرض ابن علي أو مرض مبارك، وإنما كيف أمكن لهؤلاء أن يحكمونا كل هذه السنين الطويلة، كيف يمكن لمجتمع استطاع خلع حاكم في أسابيع أو أيام، كيف تحمل هذا المجتمع هذا الحاكم "غير الطبيعي" والمجرم، كيف حكم المجتمع وسيطر على كل شيء فيه كل هذه السنوات والعقود من الزمن. أنا متفائل بأن مثل هذا لن يتكرر، وعلى الأقل على المدى القريب. وربما تفيدنا هنا للتفكير والحوار فكرة الأستاذ مالك بن نبي المفكر الجزائري المعروف حول "القابلية للاستعمار"، وكيف أن حقيقة الاستعمار والاستعباد تنبع من داخلنا، وبالتالي تحررنا ينبع أيضا من الذات، مصداقا قوله تعالى ".... إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ..." (الرعد:11)
هل نصنع الحدث أو الحدث يصنعنا؟
وأطرح هنا سؤالا تطرق إليه بعض الزملاء في بعض مداخلاتهم على هذا الموقع المهني الرصين، وهو عن دورنا نحن الأطباء والأخصائيين النفسيين والاجتماعيين، عن دورنا المطلوب منا في رعاية أمتنا وبلادنا؟ الآن وبسهولة نتجرأ ونتحدث عن ثلاثة أقطار تونس ومصر وليبيا، ولكن ما بالنا لا نتحدث عن الأقطار الأخرى التي تعاني شعوبها أنماطا مشابهة للدكتاتوريات المختلفة، هل دورنا فقط أن نتحدث ونظهر مهاراتنا النفسية والاجتماعية، ونقف مع الشعوب، ونشعر بمسؤولياتنا فقط بعد أن ينتفض الشعب، أو أن علينا أن نتقدم الشعب، فنتحدث عما نعرفه معرفة يقينية. هناك مثل عامي يقول أنه عندما تقع البقرة تكثر السكاكين من حولها!
أريد لنفسي ولزملائي أن نبادر في حملة التوعية الصحية والنفسية لكل شعب مظلوم، أو سجين مظلوم في أي بقعة من عالمنا العربي والإسلامي، وأن ننتصر له.
وهنا أريد أن أقول أن هناك بعض الأنظمة الوحيدة الحزب والوحيدة الزعيم والدموية في تصرفاتها مما يعيق أهل ذلك البلد عن الحديث المباشر خشية العنف والتعسف والانتقام، فلماذا لا يبادر زملائنا في البلاد الأخرى من حمل راية الانتصار لشعب ذلك البلد، فزملائنا في اليمن مثلا يدافعون ويفضحون معاناة المغرب، وزملاؤنا في لبنان يتبنون قضايا الجزائر، وزملاؤنا في تونس يدافعون عن شعب سورية، وزملاؤنا في مصر يتبنون قضايا العراق... وهكذا ننتصر نحن الأطباء والاختصاصيون النفسيون لقضايا الإنسان العربي والمسلم في كل مكان.
الدعم النفسي لإجهاد ما بعد الصدمة (PTSD)
النقطة الأخيرة التي أثرها هنا، ولخبرتي واهتمامي في قضايا الجانب النفسي للكوارث والصدمات، حيث زرت من قبل الضفة وغزة وكشمير بعد زلزال 2005، ولبنان بعد حرب 2006، وآخرها غزة أواخر العام الماضي 2010، وهو موضوع الحاجة الكبيرة للدعم والإرشاد النفسي للكثير من الناس في هذه الشعوب "المحررة" ونتيجة لما عانته هذه الشعوب من فظائع تجري الآن، أو الاضطهاد والظلم الذي تعرضوا له خلال السنوات الطويلة من الظلم الذي كشف عن بعضه، وما لم يكشف بعد أكبر وأخطر.
كيف يمكن أن نتعاون نحن الزملاء في البلاد المختلفة على تقديم الخبراء والمهارات الكثيرة التي لدينا والموزعة بين البلاد، كيف نقدم هذه الخبرات لإخواننا في تونس ومصر وليبيا واليمن وغيرها كثير. وكما نعلم جميعا أن الكثير من الناس الذي عانوا مثل هذه الأنواع من الصدمات قد لا يطلبون المساعدة في وقت الشدة، ولكن مع حلول الأمن والسلام، يبدأ الناس يتحسسون جراحاتهم النفسية وما أكثرها، فكيف يمكن أن ننسق أعمالنا، ونرتب صفوفنا قبل أن يزداد الطلب على مثل هذه الاستشارات النفسية التخصصية. ونحن يمكن أن نطور برامج تدريبية، بل هي موجودة، ولكن كيف نفعلها، مستفيدين من الزملاء أطباء النفس واختصاصيي النفسي والمجتمع، وطلاب الطب، والمتطوعين المتدربين في الإسعافات النفسية.
وشكري لكل الزملاء على تفاعلهم مع هذا الموقع، ومع قضايا أمتنا وبلادنا.
اقرأ أيضاً:
لا تشتمونا لسنا كالقذاقي! / القذافي مجنون أم مجرم أم ذا وذا؟ / الاضطراب النفسي شرف لا يستحقه / سلوك القذافي... هل هو جريمة أم مرض؟