فكرة هذا المقال جاءت من التكرار المستمر للجميع الصغار والكبار لكلام القذافي وبن علي ومبارك.. في الآونة الأخيرة، كيف أن كلام الأب الرمزي أصبح موضع سخرية، وفاقد المصداقية، لا شك أن الكلام هو السمة البارزة لبني الإنسان، لذا أردت ومن منظور تحليلي إلقاء بعض الأفكار لاحتواء وتحليل الكلام الحدود الصلة بين الكلام واللاشعور.. لذا ارتأيت عنونة مقالي هذا بما يلي:
"سنزحف عليهم: ملايين من الصحرا إلى الصحرا.. شبر شبر.. بيت بيت.. دار دار.. زنقة زنقة.. فرد فرد"... هذه العبارة للرئيس الليبي ستظل تردد لوقت أعتقد أنه سيطول...
من هذه العبارة يتضح وكأن لسان حاله يتوقع أن كل ليبيا ضده وهو لن يقبل بذلك ولأنه هو الذي بيده القوة يُخيّل إليه أنه أقوى من إرادة الجميع وهو يكشف عن نية المقاومة على اندفاعات الشباب الليبي حتى يجعل الصراع يتوغل في مجال النشاط العقلي الشعوري، كما يظهر ذلك في كلام القذافي أيضا "تعوا تفرجوا يا أمريكا كيف أنا وسط شباب ليبيا، لن نستسلم الدفاع الجوي هو الشعب هو أقوى دفاع جوي"، عظيم إن كان كل شباب ليبيا معه لماذا سوف يقوم بحملة تطهير لكل الأمكنة في بلده.. نجد أن هذا الاستطراد التي تحكمه بنية الطعن في الذات الملكية، مثاله مثال حال الذي يعاني من الأفكار الاستحواذية يمتص أولاً ضمير المخاطب you, للأنا العليا العقابية في صيغة محايدة إذ يظهر ذلك قوله "معقول يا بنغازي"..
فهذه الإشارات تغطي ضمير المتكلم وياء المتكلم الوظائف التي يؤديها عادة ضمير المخاطب العقابي الذي يخاطبه الضمير conscience هذه الأقوال الإنكارية توضح معاناة صاحبها من كونها أفكار استحواذية والتي يكون من يتمتع بها في عالم مغلق مليء بالأشباح، وبمحاولة كلامه المختصر والذي يحمل تهديد ووعيد ورجاء مرات واستغراب وهذه الآلية في الخطاب أسلوب مساعد على النطق بعبارة تفصح بصورة أوضح عن وظائف ضمير المتكلم حيث يتكلم وهو لا يسمع نفسه، وحيث أن علاقته بالآخر الذي يسمعه هي علاقة مضطربة حكماً.. إذ يأتي الوصف الفج لحالته على النحو التالي بمجرد غياب الآخر الحقيقي ينصب المتكلم مكانه آخر خيالي، على عكس الآخر الحقيقي حيث وحسب ميشال فوكو في كتابه العلة العقلية وعلم النفس / mental illness and psychology فالعلة العقلية تنشأ نتيجة النكوص من الديالوج الواقعي إلى الحوار الخيالي حيث الكلام في ظل مفهوم الإحالة أي إحالة الشخص المتكلم بحيث يكون محل الآخر المخاطب، كضمير أعلى فيصبح، وكأنه شخصاً ثانياً، وضمير المخاطب يدخل بالفعل خطاب الموقف أو الجلسة، خطابه المعلن الذي يتخذ إحالة ضمائر المتكلم I,s إلى ضمير المفرد الغائب he,s التي يستخدمها الشخص المضطرب بعداً إضافياً مثل عبارة القذافي "لو كنت رئيس ألوح استقالتي في وجوهكم..." فنجده يذهب إلى أنه شخص يركز انتباهه على الضمائر (ضمائر المتكلم وضمائر المخاطب......)؛
وعملية الكلام في التحليل النفسي تقتضي رداً ضمنياً. لأن المحلل يؤدي دور المستمع وليس فقط الإصغاء، لأن الإصغاء يلتبس مع استراق السمع أما الاستماع على العكس من الإصغاء يورط المستمع فيما ينطقه المتكلم حيث أن المحلل يقف في مرمى نيران المتكلم إذا جاز التعبير ويفترض أنه ضمير المتكلم الذي يتضمن في كل مرة ذات المنطوق التي تندفع إلى الأمام، سواء كمتكلمة أو كمتكلمة متواربة خلف ضمائر المتكلم أو ضمائر المخاطب في العبارة المنطوقة... فالانتباه إلى استخدام المضطربين للضمائر قد تكون له ميزاته الخاصة، الذات الملكية عند "فرويد" تستثير علاقة معينة بين الذوات الناطقة، حيث هنا في حال القذافي نجد الرئيس هو الملك المستبد الذي يطلب أن يخضع كل رعيته لرغبته، فإذا سمح لواحد من الرعية أن يستشهد بآخر قال الإمبراطور أحمق فسيتم خلق ميزة مميزة للذات، وهذا ما وجدناه في ليبيا عندما وجدنا جموع تقف ضد الحاكم وجدنا جموع أخرى تقف بجانب ميدان العاهل الحاكم......
منهجية التحليل النفسي تتبنى صورة المرآة لتوضح وضع الملك المستبد أي القاعدة الأساسية، ترى فيه شخصاً يمكن لنا أن نوجه إليه كل أشكال الكلام، والمحلل بداية لا يعرف فرقاً بين الكلام المباشر والكلام غير المباشر، لأن المحلل يسمع كل شيء كما لو كان الكلام موجهاً إليه مباشرة، وهنا لابد من عمل مقاربة بين ما يفعله المحلل وبين ما يفعله الجمهور المستمع، يؤكد "فرويد" أن في اللاشعور لا توجد أزمنة نحوية tenses، ولا يوجد إنكار أو تأكيد بل توضع الكلمات في الخطاب اليومي على محور مختلف عن محور بناء الجملة، المحلل يتجاهل الأفكار ويعالج علامات التنصيص اللامرئية في أسلوب الكلام الغير المباشر/حركات الجسد المتململ... هذه الحركات يتم التعامل معها كما لو كان كلاما مسموعاً... فبصرف النظر عما يقال وعن تشويش الصور الفنتازية، للمستبد في استخدام اللغة وبغض النظر عن أسلوب الصياغة، أي بمعنى أن الوظيفة التواصلية للكلام في خطاب الدكتاتور تخطئ الهدف، حيث عندها الآخر غير موجود وهذه هي أهم اعتبارات نظرية أفعال الكلام كما أكدها "جاك لاكان" تستخدم لغة مقيدة بشدة، يغيب فيها البعد الشعوري بالحدث وبإدراك سليم للزمان والمكان...
فخطاب الدكتاتور عائم مطلق منتقد للوضعية المنطقية بل لغته وصفية أو تجسدية constative وهذا وحسب "لاكان" ما يؤكد اغتراب الذات في العلم، فالقذافي كلامه بدائي رعوي غير متحضر، مثال شنّوا عقيرتهم يخاطب الفرنسيين والأمريكان بلغة البهائم ليقلل من شأنهم، لاشك أن هذه أساليب دفاعية لا تخفى لا إلى المختص النفساني ولا على أي شخص يسمعها..
حيث أن الاستخدامات الخاطئة والانجازات الخاطئة والتنفيذ الخاطئ للكلام من الظواهر اللسانية مثل أخطاء التسمية نسيان المواضع أخطاء القراءة وهذا ما يعرف بالزلات الفرويدية، إن المفهوم اللغوي يتعرى حين تسلب قوته بحيث يكون المتكلم والمستمع في موضعين متماثلين، إذ أن بعض أفعال الكلام تحدّ في الواقع من الحرية المفترضة للمستمع في عملية النطق بها، عالم النفس اللغوي "أوستن" يؤكد بأن لأفعال الكلام في اللغة التعبيرية مفهوماً، سمته البارزة هي قدرته على تحويل الآخر أثناء عملية النطق حين تصبح اللغة أكثر وظيفية وتصبح غير ملائمة للكلام، وحين تصبح أكثر خصوصية بالنسبة لنا، تفقد وظيفتها كلغة، فالعلاقة بين الكلام واللغة في دراسة العصاب، ودراسة العصابات هي الحقل المتميز للممارسات التحليلية، حيث يتم انتزاع الكلام من الخطاب العياني، الذي ينظم شعور الذات ويجدد دعامته في الوظائف الطبيعية للذات أو في الصور الذهنية إلاّ أن "لاكان" يؤكد أن هذا الكلام على العكس مما يحدث في الذهان يوظف توظيفاً كاملاً، لأنه يتضمن خطاب الآخر وغموض شفرته، حيث أن الذات تفقد معناها في تشيؤ الخطاب objectifications ؛
وهناك تكمن أعمق أشكال اغتراب الذات في الحضارة العلمية في العصر الحديث، فمفهوم اضطراب الآخر هو السمة المشتركة للخصائص الثلاث التي تميز الاضطراب في علاقة الكلام باللغة، المفهوم اللاكاني عن اللاشعوري، اللاشعور هو خطاب الآخر، وهناك عبارة شهيرة أخرى للمحلل الفرنسي الشهير "جاك لاكان" تقول : أن اللاشعور يبنى كبناء اللغة. فالكبت استعارة والرغبة كناية هذه هي نظرية المعنى الرمزي والواقعي.. فالتحليل النفسي يؤكد على تحول الذات من خلال الكلام التام يناظر الكلام المؤسس، حيث نتعامل فيه مع مصطلحات ثنائية مثل السيد والعبد، الزوج والزوجة، هذه الأمثلة تقدم أبرز الشواهد على تحول الذات بسلطة الآخر.. بحيث في الجملة الأولى الفعل يعود إلى الشخص الثاني وتدل على إيمان المتكلم بأن المخاطب سوف يتبعه، وأن ضمير المتكلم متورط في دعوى خاصة ضد الآخر أنت أو في احتياج إليه، ويكاد يكون نوعاً من التهديد مع الفعل الذي يعود إلى الشخص الثاني يتم إعلان رغبة المتكلم ، رغبته في ألا يهجر، إنه بدقة يعزو للآخر قدراً أكبر من الحرية "لاكان" يدعو هذه الطريقة توسل invocation بكل ما يحمله المصطلح من دلالات اجتماعية..
التوسل ليس صيغة خاملة، بل إنه الطريقة التي أثر بها إلى الوجود في إيمان الآخر الذي هو إيماني "أوستين" يقول: إنه إيمان تعبير.. لكن "لاكان" يلمح إلى بعد العرف، وإلى ميثاق اللغة لاشيء وراء الكلام الذي يؤسسه إلاّ أنه يبدو وكأنه يتأسس على ميثاق، وتجلب كل ممارسة للكلام معها احتمالية تحطيم الميثاق واحتمالية أن الآخر ينوي خداعي حتى وهو يقول الحقيقة، وهذا ما يؤكده "أوستين" فيما يتعلق بالأساس التعاقدي لأفعال الكلام..
اللاشعور خطاب الآخر other الذي تستقبل فيه الذات في شكل مقلوب يلائم الوعد، الوعد الذي هو تنظيم اجتماعي للحاضر وتنظيماً لتأكيد ما يتعلق بالمستقبل، فإن ما يبرز هو قلب لعلاقات المستقبل، والحاجة لنأخذ وعداً معروفاً وأساسياً بكل ما تحمله الكلمة.. مثال: الوعود الذي يؤكدها الرؤساء في بياناتهم الانتخابية فالوعد المتعلق بالمستقبل هو فعل كلامي محض، ولا يكفل علاقة التبادل المحض، سوى واقع مادي فبقدر انحراف الطلب إلى موضع آخر عموماً، أو تعلقه بتنفيذ ما قدمه الوعد في دائرة لا تنتهي تستمر بالوعد ويستمر بها، وهو الأكثر نموذجية بين كل الأفعال الكلامية نتيجة اليقين، بأن ذلك الوعد لن يتم التخلي عنه أبداً الكلام في التحليل يتحاشى الكياسة والاحترام والإحساس بالواجب تجاه الآخر، التداعي الحر free association محاولة استبعاد وسائل الآمان في المحادثة مع الآخر، حيث بعدها تتحرك الذات في هذا العالم اللغوي الذي نورطها فيها..
القاعدة الأساسية تحض على التصرف بدون مسؤولية من خلال فقدان الذات لروابطها، وهكذا تتضح روابط الذات ونقاط تماسكها points decapition في الكلام الموثوق به، الذي تقدمه للمحلل ويحتاج إليه، فإن بدا أن الذي يعاني من الأفكار الاستحواذية يعتقد، أن اللغة اكتشفت لتحول بينه وبين معرفة أي شيء حتى رغبته، فإن الهستيري يجد في الكلام وسيلة فريدة لاختبار سذاجة الآخر، وقاحته في الواقع واختبار تحديد ما إذا كان يمكنه أن يعثر على شخص يعطيه إجابة تختبر وجود حسن النية...... "سيرل" في هذه النقطة المفصلية يفضل استخدام مصطلح الاقتراف commitment، "لاكان" يؤكد أن الفعل عندما يجند بالقول: "يتم اختلاط الروابط الرمزية للكلام مع الارتباطات الاجتماعية، حيث أن الحديث المسئول سيكون مؤلماً بالضرورة" تثرثر بحيث لا تقول شيئاً وبحيث تملأ الجلسات بكلام فارغ الكلام مثل كلام الطفل الصغير لا مسؤولية متضمنة فيه، فمهما كان متعالياً لا يورطه في أي شيء، لكن القضية الجوهرية في كلام الراشد هي قيمة الكلام، حيث لم تعد تقاس بقدر ما يخلق من التباس أساسي، ولكنه بقدر ما يؤدي وظيفة الرمزي وظيفة الميثاق الذي يربط الذوات معاً في فعل واحد.
هذا هو الكلام المؤسس الذي أسماه "لاكان" توسل يتم فيه تعديل ضمير المتكلم وضمير المخاطب في الوقت نفسه.. فمثلاً تحول المتكلم والمستمع في الموقف التحليلي يدعى "تحويل" transfer ، حيث المحلل يتعامل مع الكلام المؤسس ومع هذه الضمائر المحولة، التحويل الفعال الذي نضعه في اعتبارنا، هي بكل بساطة في جوهر فعل الكلام، وفي كل مرة يتحدث فيها إنسان إلى إنسان بصورة مكتملة، تدعو للثقة وتوجد بالمعنى الحقيقي إحالة رمزية شيء ما يتم ويبدل طبيعة الاثنين الحاضرين، التحليل النفسي هو تحليل للقول، بحيث أن الشخص الذي ينوي التحليل يبدأ حياته التحليلية باعتباره شخصاً ثالثاً على المستوى النحوي وعملية تصنيف ضمائر المتكلم وضمائر المخاطب وضمائر المفرد الغائب، هي عملية تحويل نحوي في الظاهر، ولكنها في حقيقة الأمر عملية تصنيف لأفعال الكلام التي على علاقة بالموضوع، فتفكيك الضمائر في التحليل النفسي التي تمت إزاحتها وإحالتها يجدد بعد الأمنية في الصورة الذهنية المضطربة وعملية التجديد تلك هي التي تشير إلى التفسير الذي يتضمن بعد القوة مرتبطاً بأفعال الكلام، فتفكير المريض بالوسواس القهري بدلاً من الكلام عن أفكار الوسواس القهري، البنية الاستحواذية يمكن أن تتماثل مع كل أنواع الأفعال النفسية، وهذه الأفعال النفسية تصنف باعتبارها: "أمنيات أو إغراء أو اندفاع أو انعكاسات أو شكوكاً أو أوامر أو نواهي"؛
أفكار الوسواس القهري تكون مجردة من المؤشر العاطفي، ولما كان التغلب على المقاومة هو قانون العلاج النفسي التحليلي، ولا يمكن الاستغناء عنه تحت أي اعتبار، فمثلاً لو كان باستطاعة "القذافي" التراجع عن كلامه، لما تردد ولكن إن تراجع يسقط في الفراغ، فهذا الأمر يلزمه من تحمله، فهو كأنه كان يفكر في الخازوق الذي نصب له، لأنه كان يحكم بيقينية مطلقة وليس في اعتباره أي وجود للآخر المحاسب في كلام القذافي من مرة لأخرى كان يظهر التشويش الذهني وخلط المفاهيم والمكابرة في توضيح الحقيقة، مثلما هو الحال في كلام الرئيس اليمني علي عبد الله صالح، حيث أنه أخيراً لا يعير اهتماماً لأي رد فعل عليه، حيث أباح كليهما القوة الخالصة للمخيلة متجاهلين الواقع.. وبذلك تكون سلسلة الأفعال التي تنتقل فيها العملية التحليلية / العهد والتوسل والتنصل.
هي ذاتها التي يعيشها الحاكم مع الشعب بأن يعاهدهم ويتوسل إليهم ومن ثم يتنصل منهم. وكل منها يعدل في العلاقة بين ضمير المتكلم وضمير المخاطب في الكلام المباشر في المنطوق الذي يظهر فيه ضمير المتكلم وضمير المخاطب، أي بهذا المفهوم التجسيدي للغة كما يراها "جاك لاكان، وأوستين" لاشك أنه قاصر مقاييس اللعب في توظيف اللغة التي ابتكرها العلم الحديث..
أما الفكرة التحليلية الجوهرية، فهي أن التفكير القهري يقابل بين كل الأفعال النفسية بمجرد عودة المؤشر العاطفي، هذه العبارات التي تعتبر أفعالا أكثر مما تعتبر أوصافاً لأحوال، إذ أن التفكير الاستحواذي أو القسري هو تفكير تتمثل وظيفته بفعل نكوصي، الاعتبارات المنهجية المتعلقة بالضمائر يمكن استبعادها تماماً بملاحظة أن القاعدة الأساسية للتداعي والتي تتمثل في قول كل ما يخطر على البال في موقف التحليل، هذا التداعي للأفكار يحمل في ثناياه تأمين ضمني أو كفالة للتغافل الأسي للمحلل عن الاسم: لا يهم ما تعتقده بشأن ما يمكن لك أن تقول لي أي شيء، "لاكان" يرى رؤية محتملة لواقع اللاشعوري، تعتمد على إدراك التكرار بوصفه تأكيداً لاختلاف لا يزول، لا بوصفه تأكيداً للهوية....
نقلا عن الشبكة العربية لعلوم النفسية