(سرقة الثورة لن تكون بخسارة الثوار جولة، وإنما باستسلامهم للإحباط ـ إكرام يوسف).
قال لي سائق تاكسي في معرض حديثه (ممكن معنديش صبر، لكن أنا مش حاسس بالأمان) وترك وجهه لتعبيرات الحذر والترقب، معلناً أنه أطلق لحيته إحباطاً.
حادثتني زميلة مسيحية، قائلة أن أحد الموظفين معها، رمى عليها كلام من باب(يالّلا ريحونا وروحوا أمريكا)، حاولت طمأنة كل من سمعتهم ورأيتهم وعذرت كثيرين منهم أهل بيتي لأنهم (لم يقرءوا التاريخ جيداً، ولم يعوا الثورات الشعبية على مدار العالم، وأنهم غير قادرين على الصبر، وأنهم محبطون وحزانى ولم يجنوا أي ثمرات للثورة بعد).
إذن تعالوا نتأمل المشهد المصري من خلال كلمة (الإحباط) بكل ما يكتنفها من مشاعر (اكتئاب، نفاذ صبر، ضيق خُلق، يأس، وربما قنوط).
الثورة الشعبية التي بدأت شبابية، بدأت منذ حوالي عقد من الزمان ببطء ولكن بثبات، في كفاية، 6أبريل، أحداث المحلة، اعتصاماتها، سلالم نقابة الصحفيين.
الأمر لم يأت من فراغ، حقاً كانت ثورة تونس الشرارة الملهمة التي دخلت في يقين المصريين و(أفهمتهم) أنه لا مستحيل ومن ثم كان الإصرار، النظام والانتظام، الصمود، الاستشهاد والتحدي غير المسبوق وبالطبع غباء النظام الفائق.
لقد جاهد الشعب بمختلف فئاته، وبذل مجهوداًُ خرافياً للوصول إلى هدفه، وإن كان ذلك قد تحقق جزئياً بإزاحة رأس النظام (المِتَمْسَح) السميك الجلد جداً، الثقيل اليد والظل للغاية. كما في ورش المسرح العلاجي (السيكودراما) فالأمر يبدأ بعد ما تنتهي مظاهرة الثورة في الشارع والميدان، بمعنى أن يبدأ العمل الحقيقي للحساب، التطهير، البناء، المحاسبة، التطوير، قام الناس بدورهم، والآن فلننتظر ما سيقوم به الرجال في الوزارة، لا داعي للقلق بشأن نتيجة الاستفتاء أو ظهور السلفيين على الشاشات (أليس هذا عصر الحريات، نعم إن مزاج الناس ديني وكثير منهم أمّي وغير مسيس، سهل الانقياد وسهل التحريك، ويحاكي ما يقال جهاراً، لكن أليست هذه ضريبة الثورة، أم أن الأمر كله سيكون عسلاً ولبناً؟).
أولاً: فلنسأل أنفسنا جماعة؟ ماذا يحدث الآن، ما الذي تحقق، كثير، لابد إذا أصابك الإحباط أن تذكر نفسك بأن مبارك الذي كان جاثماً على صدر الزمن رحل، وأن رجاله زالوا وبعضهم في السجن، لا نستعجل وكلاء النيابة ولا القضاة ولا القوات المسلحة ولا نتهمهم بالتباطؤ والتواطؤ (فالحِمل ثقيل)، تفكك جهاز أمن الدولة، ومازلنا نناضل مع ذهنية الشرطة في تعاليها، قبضنا علي وثائق ستعيد لنا مالاً وأرضاً كثيرة بإذن الله.
اخلع نفسك من الدائرة المغلقة التي تدور فيها وتلف، يأساً وخوفاً وانتظاراً، ركز على كل ما هو إيجابي، اقبض على روح الميدان، ولنؤمن بأننا قد تغيّرنا فعلاً في علاقاتنا وأمزجتنا ونمط حياتنا، آمالنا، وتوجهاتنا.
بعد الثورة إذا أغلقت شركة أو اثنين أو ثلاثة ـ مثلاً ـ أو أكثر أبوابها، ولم تتمكن من تغيير نشاطها، وكان بها البعض الذين آثروا أن يبحثوا عن عمل آخر في بلد آخر، لا يجب أن نعمم الحدث ولا أن نلوكه وننشره في جلساتنا، نضخم منه ليصير واقعاً خائفاً مستجيراً بعودة الدنيا إلى ما كانت عليه أو ربط هذا أو ذاك بظهور حفنة من ذوي الذقون المُحناّة في أحاديث مثيرة لسماعها فقط، فما يدخل العقل يدخله من باب الواقع، أما ما يدخل القلب فلنتحكم فيه، لا وفق فكرة مسبقة، أو خوفُ كامن، أو رغبة لا شعورية في السفر والهجرة.
ثانيا: اكتب على ورقة، على السبّورة، على الكومبيوتر، على موبايلك، أو حتى في نوتة البقال حسابك مع الثورة، المكاسب والمغانم النفسية، الاجتماعية والسياسية، والإنسانية،ولتَرَ بعين الصقر الراصدة.
اكتب ما الذي أنجزناه وما الذي علينا إنجازه، ما حققناه وما علينا الصبر عليه، ولنفهم أن التسويف في عملنا ليس بوارد، وأن المجلس الأعلى للقوات المسلحة سيكون كما كان عند حسن ظننا، وأنه بطبيعته العسكرية لابد له من التأمل والانتظار، من التخطيط قبل الانقضاض كما في الحرب، تقديم مجرمي مبارك على مراحل، بمعنى أنه قد يكون شبعاناً بالمهام الثقيلة، يفتُ على الجوعى فتاً بطيئاً، حتى لا تصيبهم التخمة.
فلندرك أن أي إشاعات أو أمورٌ مُضخمة، قد يكون فيها تخوين أو تشكيك، ما هي إلا هدف فلول مبارك، الذين كانوا مدججين بالمال والسلاح والسلطة والضمير الميّت والنيّة القذرة، بعدم الإحساس وقـُبح النفس إلى درجة العفن.
ثالثاً: فلنركز سوياً على ما هو آت، ما نريد فعْله، لننشغل بتنظيم أفكارنا وصفوفنا وحشد طاقاتنا وإنشاء أحزابنا، أن ننسق فيما بيننا، وألاّ نهدر الوقت والطاقة، أن نفهم ونعلم ونقدّر ونعذر المسئولين؛ فهم في مهمة أراها أصعب من القيام بالثورة، رغم كل جلالها ورونقها وإبداعها وتميزها المتفرّد.
رابعاً: لنمسح التراب عن جواهرنا، عن أثاث بيوتنا وعن ذاكرتنا، أن نتخيل الوطن الجميل دون تعدّي على الأراضي الزراعية، ودون ظلم أو تمييز ديني، وطنٌ يتحقق تكافؤ الفرص فيه، ويتمكن منه العدل الاجتماعي للناس كل الناس،لا يجب أن تشدّنا أو تلهينا أمورٌ ومُغريات للنميمة وشراهة الحديث الأجوف والفجّ، أن نرصد ما هو مفقود، أن نعوّض النقص، وأن نعود للأصول والثوابت والقواعد التي قامت عليها ثورة يناير المجيدة.
لتكن لنا العزيمة والإصرار والصبر والتحدي مهما كانت العقبات.
خامساً :أن تكون لنا تصوراتنا المختلفة، رؤانا للقضايا الشائكة، بمعنى أن تكون هناك دائماً اختيارات، فليس معنى فوز المقتنعين بضرورة الاستفتاء بنعم أن الثورة قد أجهضت. لا وليس معنى أن فلان وعلاّن لم يُقدّما بعد للمحاكمة أن هناك طبْخة، لنضع البيض كلّه في سلّة واحدة، وحتى لو وضعناه ووقع منا، فالفرخة موجودة والبيض موجود، والسلة موجودة ويمكن تبيض هذه المرة ذهباً.
سادساً :اعمل، أتقن عملك. أنتج، وإذا أصابك الإحباط لا تكتفِ بأن تصرخ، لا تقف محلك سرّ ولا تجتر إحباطك كالجمل، ولا تنشره كإشاعة يغلفها البعض عمداً أو عن غير عمد ـ بغلاف اليقين ـ يقال أن بعض الناس ييأس وهو على بُعد خطوات من تحقيق هدفه لأنه لم يتعلم فن الرؤية وفن هضم الموقف وتأويله وفن النفس الطويل. الحاجة التي تأتي بعناء (كثورة يناير) يكون طعمها حلو وريحها حلو، ومن ثمّ فلننتظر على ثمارها حتى تنضج؛ فلا قام بالثورة حزب له أيدلوجية أو جهاز تنظيمي وقائد، ولا قام بها الجيش على غرار يوليو 52 ليصير حركة تتعثر كثيراً بعد ولادتها، إنها ثورة شعب عفوية، تلقائية، فسيفسائية (كثيرة الألوان والأحجار الكريمة) إذن فالقلق الزائد سيكون بلا سبب وبلا طعم، يعطل أكثر مما يدفع إلى الأمام.
سابعاً: أغمض عينك وضع تصوراً لمصر بعد سنتين وبعد خمسة وبعد عشرة، بإذن الله ستكون جنة، طالما ظلّت فينا الهمّة والحب والوّد والرغبة في النهوض من النوم الثقيل تحت أحذية الجبناء. تخيّلها. تصورها. احلم بها وامش بحلمك الهُوينى، لا تسرع الخُطى تمَّهل. واستنشق هواء الحرية فهو خير علاج للإحباط.
سابعاً: فلتظل هكذا دائماً إيجابياً:
لا تكون الأمور بنفس السوء والتعقد كما قد نراها أول مرّة. ولأننا أُرهقنا ذهنياً، وتمّ استنزافنا إنسانياً وحضارياً ومادياً وسياسياً، فإن حالة الإجهاد والتعب قد تدفع بالرغبة في الراحة والاستقرار التي أحياناً ما تصوّر أن الإحباط قادم لا محالة. اطرد شر اليأس. ارفع رأسك فأنت مصري.
أخيـــــــــــراً: الأمر لا يستلزم الخروج في مليونية جديدة تدعو لإسقاط الإحباط لأنه جوّانا ونتمكن من التعامل معه، ولأن مبارك كان أعتى منه.
من أسقط مبارك بكل تغلغله وتوحشه لا يعرف معنى، أي معنى، حتى ولو كان مثقال ذرة للإحباط.
واقرأ أيضاً:
حشود الإسلاميين ومخاوف الأوصياء/ باستيل مصر/ في روضة أطفال الديمقراطية: كى جي ون/ منظومة الحرية/ الرؤية المستقبلية لمصر