رصد المزاج العام عملية تقع على الحدود بين السياسة والعلوم الإنسانية وبخاصة علم النفس وعلم الاجتماع. فيما نفضل شخصياً اعتبار هذه العملية واحدة من وجوه استغلال السياسة للعلوم الإنسانية. وعملية الرصد هذه تجري عادة بطريقة آلية روتينية إلا أنها تطرح ضرورة التعمق في متابعتها للرأي العام في الحالات المفصلية كمثل تعرض المجتمع لمواجهات داخلية أو خارجية تتطلب تضحيات الجمهور والتأكد من ملكيته للدوافع المؤكدة لاستعداده لتقديم تضحيات مماثلة....
الثورات العربية المتلاحقة بينت تعكر المزاج العام في هذه الدول وربما تعكر المزاج العربي العام بدليل تلاحق التحركات وانتشارها الوبائي السريع في غالبية الدول العربية إذا لم نقل كلها. كما أن اندفاع الشارع العربي لتأييد هذه الثورات يؤكد تعكر المزاج العام لهذا الشارع وصولاً لتبنيه مبدأ التغيير بغض النظر عن تهديدات الفوضى التي قد تصاحب أو تعقب التغيير.
الأنظمة العربية كافة تبحث هذه الأيام عن الوسائل الأكثر فعالية لرصد المزاج العام لجمهورها وأهم منها تشخيص قابلية النظام لحضانة ثورة قد تؤدي إلى نهايته وسقوطه. ذلك أن وسائل الرصد التقليدية لتوجهات الرأي العام ومزاجه لم تعد صالحة في هذه اللحظة السياسية العربية التي تشهد انفعالات تطلق معها القناعات الضمنية التي يخفيها هذا الجمهور عادة ما يجعلها خارج مجال رؤية وسائل الرصد التقليدية.
المسألة هنا تدخل في إطار "الطب النفسي العسكري والأمني" وتقتضي استقراء تجارب هذا الفرع على ضوء معرفة مكتملة بانثروبولوجيا الدول العربية المعنية. حيث المراكز الأميركية التي تتولى أغلب عمليات الرصد هذه جاهلة تماماً لهذه المعطيات الانثروبولوجية. وهو جهل أكدته التجربة الأميركية في العراق.
البعـد الثالث – الزاوية الميتة
في هذه الحالات الانفعالية الجماهيرية تضمحل أهمية النتائج القائمة على الرصد ثنائي البعد القائم على مبادئ ثنائيات العنف/الضحية والنظام/ التمرد وغيرها من الثنائيات. إذ تحتاج الدراسات لأوضاع مماثلة إلى البعد الثالث الذي يجعلها مكتملة وقادرة على إظهار الرؤية الهولوغرافية لهذه الأوضاع. ويتمثل هذا البعد الثالث بأسلوب معايشة الجمهور للحظة السياسية – الاقتصادية المنتجة للأحداث. إنها الزاوية الميتة (المسافة غير المرئية في مرآة الرصد) التي يتم تجاهلها في العادة.
هنا تعجز أساليب الرصد التقليدية عن مقاربة هذا البعد الثالث. الذي نعطي عليه مثالاً أحد أهم الاحتياجات العلمية التي طرحت على صعيد الطب النفسي العسكري حيث سجّل الأطباء الألمان أثناء الحرب العالمية الأولى ردود فعل كارثية لدى الجنود الألمان من نوع الهيستيريا ومنها داء الارتجاف الهيستيري. أما في الحرب العالمية الثانية فقد سجل هؤلاء الأطباء ردود فعل كارثية سيكوسوماتية لدى الجنود الألمان من نوع القرحة وارتفاع ضغط الدم وغيرها من ردود الفعل السيكوسوماتية.
وطرح السؤال هنا: لماذا تبدلت ردود فعل الجندي الألماني واختلفت بهذه الصورة؟
واختلاف ردود الفعل أمام الكارثة يعكس اختلاف معايشة الجنود لضغوط الكارثة المتمثلة بالحرب وخطر الموت خلالها، واختلاف المعايشة في هذه الحالة هو تحديداً ما نقصده بالبعد الثالث.
لقد سجلت الملاحظات الطبية انتشار داء الارتجاف الهيستيري بين الجنود الألمان خلال الحرب العالمية الأولى بحيث كان يعيقهم عن مواصلة القتال. فيما أثبتت الفحوصات الطبية الدقيقة غياب أية خلفية عضوية لهذا الارتجاف. وبينما كان الأطباء العسكريون الألمان يتوقعون مواجهة داء الارتجاف مجدداً في أوساط جنودهم فوجئوا بغياب هذا العارض نهائياً في مقابل ظهور أمراض واضطرابات من النوع النفس– جسدي بين الجنود. وهي إصابات يمكن تبريرها بالشدة المصاحبة للمعارك.
بعد دراسات مقارنة معمقة تبين للأطباء النفسيين العسكريين أن مستوى التحشيد القومي في الحرب الأولى كان ضعيفاً وأن الجنود لم يكونوا محرجين من الانسحاب من ميدان المعركة لأي سبب كان. أما في الحرب الثانية فقد كان مستوى الاندفاع القومي عالياً ما جعل الجنود يخجلون من الانسحاب ويتحملون شدائد المعارك لغاية إصابة بعضهم بردود الفعل الجسدية الناجمة عن هذه الشدائد. ذلك أن الجنود الألمان دخلوا الحرب الثانية لإزاحة الظلم اللاحق بألمانيا نتيجة معاهدة فرساي. مع ملاحظة أن الفارق بين الحربين كان عقدين من الزمن فقط. حيث شاركت أعداد كبيرة من الجنود الألمان في الحربين معاً لكن المختلف هنا كانت معايشة هؤلاء الجنود لظروف الحرب واقتناعهم بمبرراتها وضرورتها.
مثال آخر على أثر معايشة اللحظة الاقتصادية – السياسية هو الاتحاد السوفييتي ومعه أوروبا الشرقية التي شهدت نهاية الثمانينات تبدل اللحظة الاقتصادية- السياسية فانفجرت فيها الصراعات وانتشرت حركات التمرد والثورات الملونة. ومع تسجيلنا لأهمية دور المخابرات الأميركية في تحريك هذه الثورات ودعمها فإننا نلاحظ أن هذا التدخل كان متواجداً بصورة أكثر كثافة خلال السنوات السابقة لكنه لم يكن يتمتع بالفعالية. وإنما هو استمد فعاليته من تغيرات اللحظة الاقتصادية- السياسية ومعها تغيرات أساليب المعايشة لدى شعوب تلك البلدان.
وتأكيدنا على هذا المثال يعود إلى محاولة اختصار البعد الثالث وتجنب الخوض فيه عبر طرح نظرية "الدومينـــو السياســـي". التي تبين أنها صالحة للتطبيق في الحالة المعروضة كون جميع الثورات الملونة اتجهت نحو أنظمة تعتمد نظام حكم عقائدي بعد سقوطه. وهو ما لا ينطبق مثلاً على الدول العربية حيث يشكل الإسلام أحد ركائزها السياسية غير القابلة للتجاوز عداك عن الاختلاف الجذري في التوجهات السياسية للأنظمة العربية الحاكمة.
التصنيف الهولوغرافي للكيانات العـربية
لو دققنا النظر لوجدنا أن الاضطرابات السياسية في المنطقة العربية انطلقت من الكيانات التي ظهرت كنتيجة مصطنعة للحرب العالمية الأولى (بلاد الشام التاريخي ولبنان اضعف حلقاتها). فالتغيرات الجغرافية التي حصلت عقب هذه الحرب لم تكن مجرد تغيير في اللحظة الاقتصادية-السياسية بل كانت تغييراً مصطنعاً في تاريخ الزمن. دون أن يعني ذلك أن بلدان التوازن والازدهار العربية بمنأى عن الاضطرابات السياسية في المستقبل. خاصة وأن الاستعمار ترك معظم الدول العربية دون تحديد دقيق لحدودها البرية والبحرية. بحيث تبقى الخلافات الحدودية مصادر تهديد دائم لاستقرار هذه الدول.
وما يصح في المنطقة العربية يصح على مناطق العالم بما فيها الولايات المتحدة الأميركية. إذ أن حوادث لوس أنجلوس (1991) ولغاية حوادث سـينسيناتي (2001) هي إنذارات باحتمالات نشوب الاضطرابات السياسية لغاية الحرب الأهلية الأميركية إذا ما تغيرت اللحظة الاقتصادية-السياسية الراهنة في أميركا.
وبالعودة إلى المنطقة العربية يمكن توزيع كياناتها السياسية على الفئات التالية:
أ- الكيانات المنفصمة Schizoid : وهي الكيانات التي تعاني تناقضات عرقية و /أو دينية و/ أو فكرية. وهي تهدد بانفجار نوبات عنف من نوع الشيزوفرانيا الاقتصادية- السياسية المتمثلة بتفاوت تمييزي بين فئاتها المتناقضة. وهو تفاوت يتعلق بالحقوق والواجبات ومستويات الدخل ويمكنه أن يؤدي إلى نشوب الحروب الأهلية وعمليات العنف والاغتيالات وغيرها. وتصنف في هذه الفئة كل الدول التي سبق لها وإن شهدت حروباً أهلية بما فيها تلك المؤدية لتوحيد هذه الدول (لبنان وسوريا واليمن والجزائر والأردن والسعودية والبحرين عربياً والولايات المتحدة وأيرلندا وبلجيكا عالمياً).
ب- الكيانات الانهيارية Depressive : وتعاني من تهديد هويتها وشخصيتها القومية مما يدفعها إلى اليأس بحيث يمكنها أن تعمل على إيذاء ذاتها والآخرين بطريقة عشوائية، وصولا” لقيام الأفراد بارتكاب أعمال انتقامية ضد العدو المفترض حسب اللحظة الاقتصادية – السياسية. وهي حالة العراق بعد الاحتلال. كما ينطبق هذا التصنيف على مصر تحت إدارة مبارك التي تبنت توجهات سياسية تهدد الهوية المصرية. فتجلى تمرد الأفراد عبر أيمن الظواهري وأتباعه من مواطنيه ليعود فيتجلى بالثورة المصرية التي هدفت إلى تثبيت الهوية المصرية. وهو ما تؤكده توجهات قيادات هذه الثورة. كما تصنف ثورة تونس ومعها دول موريتانيا والمغرب وجزر القمر في هذه الفئة.
ج- الكيانات الهوسية Manic : حيث يتظاهر الصراع من خلال هوس التطرف القومي أو العرقي أو الديني. هذا الهوس الذي يتفشى بداية في مجموعات صغيرة نسبياً قابلة للاتساع. وهذه الكيانات تملك القوة غير العادية التي يتمتع بها المهووس. ورغم تعددية الكيانات العربية القابلة للتصنيف في هذه الفئة إلا أن الإحباطات العربية المتوالية والحصار الاقتصادي المفروض على هذه الكيانات وانفتاح بعضها اللامشروط على السياسات الأميركية يؤجل تصنيف أي كيان عربي في هذه الفئة. إلا أن اندلاع الثورة الليبية وسلوك النظام إزائها يوحي بالعودة لتصنيف ليبيا ضمن هذه الفئة الهوسية.
د- الكيانات الهيستيرية Hysteric : حيث لا خلفيات أمراضية حقيقية وإنما هو الصراع على السلطة أو على السيطرة على المنافسين الآخرين وعلى مقدراتهم. وتدرج في هذه الفئة بلدان مجلس التعاون الخليجي باستثناء السعودية والبحرين. وتتنافس على صدارة هذه الفئة كل من دولة قطـر وإمارتي دبي وأبو ظبي. في هذه الحالة علينا أن لا نهمل مسألة الإغواء الهيستيري ونجاحاته في السيطرة على الآخرين. حيث يمثل اليمن الموحد الحالي أحد أهم الأمثلة العربية على هذه الكيانات. كما أن علينا ألا نمهل احتمالات بداية الذهان تحت ستار الهيستيريا. بمعنى تحول الكيان اليمني الموحد من هيستيري إلى واحدة من الفئات سابقة الذكر.
تشخيص قابلية الدول لحضانة الثورات
يقودنا التصنيف المعروض أعلاه إلى طرح العديد من الملاحظات المبدئية في عملية "تشخيص قابلية الدول العربية لحضانة الثورات" وهذه الملاحظات هي التالية:
1 – ضرورة التشخيص التفريقي بين كل من الحالة السعودية والبحرينية وبينهما وبين كل من الإمارات والكويت وقطـر. بما يعني وجود اختلافات بنيوية بين هذه الدول يستتبع اختلاف قابليتها لحضانة الثورات الداخلية الافتراضية.
2 – قابلية بعض الدول العربية للمراوحة بين فئة تصنيفية وأخرى اعتماداً على سلوك نظامها السياسي الحاكم. كما بحسب انتمائه للجماعات المتناقضة المكونة للدولة.
3 – عدم قابلية قائمة من الدول العربية لحضانة الثورات الافتراضية بحيث يتحول أي تحرك سياسي فيها إلى صراع بين مكوناتها المتناقضة. حيث نلاحظ تحول الثورة البحرينية إلى المذهبية والثورة اليمنية ومثلها الليبية إلى القبائلية. وهذه الملاحظة تسمح باستبعاد الدول المدرجة في فئة المنفصمة وهي لبنان وسوريا واليمن والجزائر والأردن والسعودية والبحرين. لكن مع الإشارة إلى أن مناعة هذه البلدان تجاه الثورات الافتراضية لا تعني مناعة أنظمة الحكم فيها تجاه الاضطرابات السياسية الأخرى.
أما عن بقية عناصر التشخيص التفريقي لقابلية حضانة الثورات الافتراضية فهي:
1 – تحديد البنية الإنثروبولوجية الأساسية للدولة المعنية مع تعريف عناصر الاختلاف بين جماعاتها المكونة. عناصر طائفية أو مذهبية أو عرقية أو قبائلية أو غيرها.
2 – تحديد التوجهات السياسية الاعتيادية للدولة المعنية. بما يتضمن تحديد تموقعها في التوازنات الجيوسياسية القائمة في المنطقة.
3 – تحديد اتجاهات إعادة تموقع الدولة في التغيرات الطارئة مؤخراً على التوازنات الجيوسياسية في المنطقة. وتحديداً الموقف من الاندفاعة الجيوسياسية التركية الأخيرة في المنطقة. باعتبار هذه الاندفاعة أحد المولدات الرئيسية للثورات العربية. عبر إحيائها للطموحات الكامنة في الشارع العربي.
4 – تحديد علائم السلوك السياسي الراهنة ورصد حدوث متغيرات سريعة طارئة في هذا السلوك. مثال ذلك متغيرات سلوك النظام المصري في الفترة الأخيرة مضافة لمتغيراته السابقة. وأيضاً انقلاب السلوك السياسي الليبي المفاجئ تجاه الولايات المتحدة والغرب عموماً.
5 – نمطية علاقة النظام الحاكم في الدولة بجمهوره ومقدار مجاراته لتوجهات الشارع العربي. حيث تعتبر سيولة التواصل بين الحاكم والمحكوم عنصر مناعة وقائية. وحيث تعتبر مسايرة النظام لمشاعر الشارع العربي جواز مرور للقبول العربي بالنسبة لمواطني الدولة. وتزداد أهمية هذا القبول العربي الأوسع في حالة الدول العربية الفقيرة التي يتوزع مواطنوها للعمل في دول عربية أخرى. مثال ذلك تحميل نظام مبارك مسؤولية ازدراء المصريين العاملين في الدول العربية (سواء بسبب لا شعبية مواقف النظام أو بسبب إهماله الدفاع عن حقوق مواطنيه). وهي مسؤولية شكلت أحد محركات الثورة المصرية. التي ظهرت آثارها قبل تنحي مبارك عبر تغيير لهجة الشارع العربي إزاء مصر والمصريين.
الاستراتيجية العلاجية الوقائية من الثـورات
لا بد لهذه الاستراتيجية من أن تستند إلى معرفة وثيقة بهيكلية الاضطراب السياسي وعلاقتها بالثغرات الهيكلية في النظام السياسي وكذلك علاقتها باهتزاز هيبة النظام وتعرضه لوضعيات التنازل القسري والتهديد الخارجي وغيرها من عوامل المساس بهيبة النظام وإظهار عجزه بما يفقده القدرة على طمأنة الداخل بتأمين حمايته وحماية البلد ومواطنيه. ونختصر خطوات الاستراتيجية المقترحة على الوجه التالي:
أ- تعقيدات سيكياترية: تتظاهر على الصعيد الجمعي عبر الانتشار الوبائي لظواهر غير مألوفة في المجتمعات المعنية كمثل ظواهر انتشار إدمان المخدرات والمسممات وظواهر السلوك الغرائزي الخارج على مألوف التحفظ الاجتماعي المعتاد وظاهرة الدعارة الحلال وغيرها.
ب- تعقيدات سيكوسوماتية: وتتظاهر بضغوط غير مألوفة على الخدمات الطبية مصحوبة بشكاوي أمراضية غير اعتيادية وغير مصنفة في إطار المراجعات الطبية التقليدية.
ج- تعقيدات اجتماعية: تتظاهر بحالة التململ وعدم الرضى عن مستوى الرعاية والأمن الاجتماعيين. مصحوبة بكشف حساب قديم عن حالات الظلم الاجتماعي والفساد مع لا مبالاة فردية تجاه المسؤوليات الفردية والاستعداد لإزاحة التهم عن مسببيها الحقيقيين نحو السلطة باعتبارها اللاعب العاجز في مواجهة المسببين الحقيقيين.
بهذا ننهي حديثنا عن المواقف الاعتيادية والمفاجئة لضحايا الصدمة والتغييرات الاجتماعية الناجمة عن الصدمات المعنوية الجماعية التي تمس بالمجتمعات وبهيكليتها ونحن نتساءل عن مدى التزامنا بالقسم الأبقراطي وعن الضوابط الأخلاقية القابلة للتعميم والتي تحدد دور الطبيب النفسي في حل الصراع وفي التدخل في الحالات الكارثية.
واقرأ أيضًا:
الشباب العربي وملامح ثورة جديدة / كيف نفسـر الثورة التونسية؟ / سيكلوجية الشعوب بعد ثورة الشباب المصرية / أي ثورة نحتاج؟