كم هي فكرة مخيفة بالفعل تلك التي تتمحور حول سرقة الثورة، أو اختطافها من قبل "الجبناء" أو "الأذكياء" أو "العملاء" أو أي فئة أخرى. وكل ثورة معرضة لذلك ما لم تتوفر على قدر كاف من الذكاء الثوري، قبل وأثناء وبعد العمل الثوري، مع الاتصاف بالنفس الثوري الطويل، وامتلاك ذاكرة تراكمية، والتلبس بالعقلانية والتسامح والجماعية ونبذ الأنانية، واستضافة المستقبل على مائدة الثورة وتجاوز التفكير الماضوي بغصصه وآلامه.
ومؤكد أن مخاوف كبيرة تحيط بالثورات العربية الحالية والمستقبلية، الأمر الذي يدفعنا إلى طرح بعض الرؤى، علها تسهم في زيادة تمكين الشعوب العربية من الظفر بغلة ثورتها، واستثمارها بطريقة تعود بالمنفعة عليها وعلى أجيالها القادمة.
تسمية الأشياء خيط للسيطرة عليها
الثورات العربية بحاجة ماسة الآن إلى نوع من التبصر في مجالات عدة، ومنها "تسمية الأشياء بدقة وعقلانية"، وذلك أن تسمية الأشياء خيط لإحكام السيطرة عليها والتحكم بها، وهذا يعني أن تلك الثورات تفتقر إلى منظومة مفاهيمية متكاملة إزاء الأشياء المفصلية في الفضاء الثوري، بكل تجلياته ومراحله.
وللتأكيد على أهمية ذلك، نورد مثالاً واحداً. الدقة في تسمية العمل المجابه للثورة، ولّدت قدرة هائلة لدى الثوار في السيطرة أو التحكم في فضاءات كثيرة يتخلق فيها مثل ذلك العمل، وأنا أقصد هنا مصطلح "الثورة المضادة".
فهو مصطلح ذكي فعال بامتياز، فهو دقيق من جهة، وتعبوي من جهة ثانية. كما أنه يصنع نوعاً من الحماية الذاتية من جهة ثالثة، والردع من جهة رابعة، بالإضافة إلى كونه يؤسس تحذيراً دائماً من أخطار "الثورة المضادة"، وكل ذلك يعيّش الفريقَ الآخر حالة من الرعب النفسي والهلع القانوني، وربما القطيعة الاجتماعية والمهنية، وهذه مكاسب كبيرة تحققت من جراء شيء واحد تمثل في البراعة في تسمية الأشياء.
إذن هناك ضرورة لتسمية الأشياء المفصلية في الثورة بقدر من الدقة والعقلانية، مع تجنب حدوث التنازع المفضي إلى التفرق والتشرذم.
ففي الثورة المصرية على سبيل المثال نجد أنه يثور حالياً جدل كبير ومخيف أيضاً حول "توصيف هوية" الدولة الجديدة، أهي دولة مدنية بمرجعية إسلامية، أم دولة إسلامية ديمقراطية حديثة، ونحو ذلك من الجدل الدائر في فلك "تسمية الأشياء"، ونحن نشاهد جميعاً أن وتيرة ذلك الجدل في ازدياد، وهي مرشحة على ما يبدو للمزيد أيضاً.
وقد يقول قائل إن هذا "جدل أفكار" أكثر من كونه "جدل مفاهيم"، وهنا نبادر بالقول إن هذه الملاحظة صحيحة ولا غبار عليها، فالمفاهيم لا تولد في فراغ، بل داخل إطار فكري حاكم أو مهيمن على طرائق التفكير والخلوص إلى النتائج.
لماذ ثار الناس؟
التحليل السابق يقودنا إلى قضية أعقد من المفاهيم والأفكار، وهي قضية يتوجب علينا التصدي لها قبل أي شيء آخر، وهي: ماذا يريد الناس فعلاً من الثورة؟ وهل ثاروا من أجل حفنة مفاهيم أو أفكار، أم أنهم ثاروا بالدرجة الأولى من أجل "حياة كريمة" وبناء بلد يحترم إنسانيتهم ويحقق العدالة الاجتماعية ويمنحهم هوامش حرية كافية؟
هذا رشد ثوري أحسب أنه شرط لازم لنجاح "البناء الما بعد الثوري"، وهو يتطلب قدراً من المرونة الذهنية الكبيرة لدى التيارات الفكرية المتنازعة حول مفاهيم أو أفكار يرونها "تأسيسية"، ومما لا شك فيه أن تلك التيارات تصنف نفسها على أنها "تيارات ملتزمة" بإطار مرجعي، سواء كان دينياً أو فلسفياً أو فكرياً، وقد تجد تلك التيارات حرجاً كبيراً في مخالفة إطارها المرجعي.
وهنا تأتي قاعدة ذهبية تقول: دعونا نبدأ بقواعد عامة متفق عليها، مع انحياز كبير للبعد التنموي الحياتي المباشر للناس، على أن نترك مساحة كافية للنقاش حول بقية المسائل، مع اشتراط عدم التهور من قبل أتباع تلك التيارات في أي حالة قد يرونها نكوصاً أو تلكؤاً في تطبيق ما يطالبون به، أو ما اتفقوا حوله بحد زعمهم.
ومؤدى هذا أن الثورة في بداياتها تحتاج -بكل صرامة وجدية- إلى إبعاد "الغلاة" في كل تيار، وتوسيع هوامش العقلانية التفاوضية، والانشداد الدائم إلى: لماذا ثار الناس؟
لا أحد يقول إن الناس ثاروا في تونس ومصر بسبب عدم التحكيم المباشر للشريعة الإسلامية، أو لعدم الالتزام بمبادئ الليبرالية مثلاً، وإنما ثاروا أساساً لانعدام الحياة الكريمة وغياب العدالة الاجتماعية والحريات العامة، وعلى هذا ينبغي تغليب السبب الرئيسي للعمل الثوري والوصول إلى مقاربة عامة حيال مسألة الهوية أو التوصيف للدولة الجديدة، أي لما بعد الثورة.
وتفاصيل ذلك لا تُترك للشيطان، بل للحكمة والعقلانية اللتين تضعان لتلك التفاصيل مساراً ذكياً لمناقشتها وإنضاجها عبر آليات العمل الديمقراطي وإجراءاته.
أما التشدد والانغلاق في هذا الاتجاه أو ذاك فإنه خطر حقيقي، وقد يفضي بالثورة إلى الفشل، وقد يجعل لفيفا من الناس يكفر بالأفكار التأسيسية التي تشبث بها المتعصبون هنا أو هناك، نظراً لأنها تسببت في حرمانهم من قطف ثمرة عملهم الثوري: الحياة الكريمة والعدالة الاجتماعية والحريات.
وهذا يعني خسارة "المثقف الداعية" -كما في تعبير عبد الإله بلقزيز- لرصيد دعوي يتمثل في كفر شريحة من الناس بما يدعو إليه من أفكار دينية أو فلسفية أو قومية.
تسمية الأشياء والنظر للمستقبل
كثيرة هي الأشياء التي تتطلب تسمية ذكية في محيط العمل الثوري، ولعلي أذكّر بمجموعة منها، ولتكن في حزم كبيرة، كما يلي:
- أصناف الناس العاملين في النظام البائد.
- أنواع المخاطر التي تتهدد الثورة.
- الأفكار التأسيسية للدستور.
- أهل الحل والعقد.
- مراحل بناء الدولة الجديدة.
- دمج أو تفعيل كيانات سياسية ومهنية محسوبة على النظام السابق.
- أساسيات العدالة الاجتماعية.
- أساسيات الحياة الكريمة.
- أساسيات الحرية.
- السلبيون في فضاء بناء الدولة الجديدة.
- التلون السياسي والفكري المضاد للثورة.
- شروط العمل السياسي وأخلاقياته في العهد الجديد.
- شروط المساءلة والشفافية.
- قيم التسامح "اذهبوا فأنتم الطلقاء" وشروطه.
- العلاقات مع الأطراف الدولية المؤثرة.
- محاربة الفساد ومعالجته.
- قيم التعليم في الدولة الجديدة.
بجانب تسمية الأشياء، تحتاج الثورات العربية إلى "التفكير في السيناريوهات" لتحديد المسارات المحتملة في المستقبل، عبر الإجابة الحكيمة على سؤال جوهري هو: ما مسارات العمل الثوري بعد نجاح خطواته الأولى؟ وبطبيعة الحال فإن ذلك يستلزم التفكير المعمق في سؤال آخر: ما شروط تحقيق أهداف العمل الثوري؟ وما ضمانات النجاح الثوري البنائي؟
إنها أسئلة كبيرة ومعقدة، والثورات العربية مطالبة بالإجابة عليها بدقة وذكاء وعقلانية، وبتسامح كذلك.
واقرأ أيضاً:
أسئلة حول (الثقافة القلقة)! / سمات عَشْر للثقافة القلقة! / وعينا متوعك!! / لماذا ينجذب الإنسان المعاصر للتقنية الحديثة؟