ربما بدا هذا السؤال غريبًا في نظر بعضنا؛ لأنهم يجدون الإجابةَ حاضرةً في أذهانهم؛ مثلَ: لأننا نجوع، أو: لكي نستطيع الحياة؛ حيثُ يعوض الأكل ما نفقده من طاقة. وهذه إجابةٌ صحيحةٌ قطعًا، إلا أنها لا تكفي بحالٍ من الأحوال لتفسير سلوك الأكل في البشر، فمن المعروف نفسيًّا أن دافعَ الأكل هو واحدٌ من أقوى الدوافع النفسية في الإنسان وفي الحيوان، إلى حد أن نقص الغذاء المتاح للإنسان يؤدي إلى توجيه كل أفكاره ومشاعره في اتجاه واحد؛ هو البحث عن الطعام! فدافع الأكل لا يدفعُ الكائنَ البشريَّ إلى الأكل فقط وإنما يدفعه إلى البحث عن الأكل، وإلى العمل من أجل الحصول عليه؛ أيًّا كانَ نوعُ العمل المطلوب.
كما أن سؤال لماذا نأكلُ؟ ليسَ بالبساطة التي يبدو بها لأنه ليس فقط: لماذا نأكلُ؟ بل أيضًا: لماذا نأكلُ كذا.. ولا نأكلُ كذا؟ ولماذا نأكلُ الآن؟ ولماذا لا نأكلُ أحيانًا؟ ولماذا نتوقف عن الأكل رغم جودة طعمه وحلاوته؟ وما هي طريقتنا في الأكل؟ أو بأي سرعة نأكل؟
كلُّ هذا متضمنٌ في السؤال المكون من كلمتين: لماذا نأكل؟
وسنحاول في السطور التالية أن نجيب إجاباتٍ مختلفةً على بعض الأسئلة المتعلقة بسلوك الأكل في الإنسان (مع ملاحظة أن معظم الدراسات أجريت على الحيوانات)، ونناقشَ كلَّ إجابةٍ منها؛ لعلنا نصل في النهاية إلى تصورٍ يفيدُ في فهم السلوكيات المتعلقة بالأكل.
أولاً: ماذا يثيرُ فينا الرغبةَ للأكل؟
هل نشعرُ بالحاجةِ للأكل مثلاً لأن وقتَ الطعام أو وقت الوجبةِ قد حان؟
هذه إجابةٌ لا تكفي؛ خاصةً إذا عرفنا أن عدد الوجبات التي يتناولها الإنسان خلال يومه تختلفُ بين ثقافةٍ وثقافة؛ فنحنُ العربُ نأكلُ ثلاثَ مراتٍ في اليوم (أو لعلها عند البعض أصبحت مرتين بسبب التغيرات الاجتماعية المتسارعة)، وهناكَ في القارةِ السمراء من الشعوب من يأكلونَ مرةً واحدةً في اليوم! إذن فموعدُ الوجبة هذا شيءٌ نحدده نحن متأثرين في ذلك بمعطيات مجتمعنا وثقافته.
هل نشعرُ بالحاجةِ للأكل عندما تفرغُ معدتنا فتتقلصُ لتشعرنا بتقلصات الجوع؟
كنتُ أتمنى أن تكفي هذه الإجابة! لكنها لا تكفي؛ فأنا أعرفُ كطبيبٍ أن الذين تجرى لهم جراحةٌ تستأصلُ فيها المعدةُ بالكامل (مثلاً بسبب سرطانٍ أو قرحةٍ معدية كبيرة)، هؤلاء الناس يستمرونَ في تنظيم كمية ما يتناولون من الطعام بعد العملية، إذن فليست هي المعدةُ وحدها، التي تنظمُ الرغبةَ في الأكل.
هل نحسُّ بالرغبة في أن نأكلُ لأن الأكل طعمه جميل؟ هل لأننا نستمتعُ بطعمه الجميل؟ أو رائحته الجميلة؟ أو منظره الجميل؟
أيضًا: لا! لأن تجاربَ علماء النفس أثبتت أن الإنسان يستمرُّ يشعرُ بالرغبة في الأكل حتى بعد استبعاد كل هذه المشعرات أو المثيرات للشهية، ويستمرُّ أيضًا في تنظيم كمية أكله وكم مرةً يأكل رغم ذلك (Atkinson et al.,1987).
إذن: ماذا يثيرُ فينا الرغبةَ في الأكل؟
إن الأبحاث الحالية في علم النفس ما تزالُ تؤكدُ أن جسد الإنسان يقومُ باستشعار الكميات المخزونة فيه من المواد الغذائية المختلفة ويدفعنا للأكل عندما يستشعرُ نقصًا (تحت حدٍّ معينٍ) في أي من هذه المواد الغذائية؛ خاصةً سكر الجلوكوز والدهون، وذلك من أجل الحفاظ على حالة الاتزان البدني Homeostasis.
ومن الملاحظِ والمتعارف عليه بين علماء النفس أن الحيوانات التي تعيشُ في بيئة المختبر، ويقدمُ لها فيها كلُّ ما تحبُّ من الأطعمة، تأكلُ أيضًا بالقدر الذي يجعلُ وزنَ أجسادها في الحدود العادية ولا تنزلقُ وراء شهوة الطعام كما أن هذه الحيوانات عندما تُقَدَّمُ لها أنواعٌ متعددةٌ من الأطعمة تختارُ ما يمثل غذاءً متوازنًا بفطرتها، إلا أن الجوعَ وسلوكيات الأكل ما تزالُ أعقدَ من أن تفسرَ ببساطة الحفاظ على الاتزان البدني، فنفس هذه الحيواناتُ إذا تم تحويل نوعية طعامها إلى أطعمةٍ تشبه أطعمةَ السوبر ماركت البشرية الحديثة، خاصةً الحلويات، تتجه بالتدريج نحو البدانة وتفقد قدرتها الفطريةَ على التحكم في الرغبة في الأكل (Freed et al.,1995).
وهذا ما يؤكدُ أن هناكَ عاملاً آخرَ غير الجوع الفسيولوجي يتحكمُ في إثارة الرغبة فينا للأكل وهذا العاملُ هو الشهيةُ والتي تعتمدُ على عواملَ نفسيةٍ شرطيةٍ وعلى مفاهيم معرفيةٍ عديدةٍ، فمثلاً رائحةُ الطعامِ تثيرُ شهيتنا لأننا تعلمنا أن الطعام الذي تفوحُ منه رائحةٌ جميلةٌ غالبًا ما يكونُ جميل الطعم أيضًا، أو لعلنا أكلناه وشممنا رائحته فربطنا بين الاثنين في منظومتنا المعرفية مثلاً، ومعنى ذلك أيضًا هو أننا قد نأكلُ استجابةً للجوع الذي هو تعبيرٌ عن حاجةٍ فسيولوجية للجسد؛ لأن نقصًا قد حدثَ في مادةٍ ما أو أكثر من المواد المغذية التي تحتاجها أجسادنا، وقد نأكلُ لإشباع حاجةٍ نفسيةٍ هي الرغبةُ في الاستمتاع بأكل الطعام الجميل الذي نشتهيه، وقد نأكلُ في هذه الحالة الأخيرة رغم أننا لا نحسُّ بالجوع أي ليست هناكَ أسبابٌ فسيولوجية تدعونا للأكل، وقد بينا الفرق بين مفهومي الجوع والشهية في مقال سابق.
ثانيًّا: ما هو المحددُ الرئيسيُّ للجوع (أي للبعد الفسيولوجي لرغبتنا في الأكل)؟
أو ببساطة: ما الذي إن قلَّ جعنا؟ وإن زادَ شبعنا؟
وضعت عدَّةُ نظرياتٍ للإجابةِ على هذا السؤال، واحدةٌ اعتبرت درجةَ حرارة الدم عند مروره بالوطاء Hypothalamus هي المحددُ الرئيسيُّ Thermostatic Theory؛ فأرجعت الأمرَ إلى أن هبوطَ درجة حرارة الدم بسبب الحاجة للأكل ينبه مستقبلات الحرارة الموجودة في الوطاء فتشعرنا بالجوع، وزيادةُ درجة حرارة الدم عند مروره على مستقبلات الوطاء بعد تناول الطعام يشعرنا بالشبع، ومن المعروف أن كميةَ الطعام الذي نأكله تزيدُ في الطقس البارد وتقلُّ في الطقس الحار.
كما وضعت ثلاثُ نظرياتٍ تفترضُ كلُّ واحدةٍ منها أن صنفًا معينًا من المواد المغذية (أو بالأحرى ناتجُ هضم واستقلاب Metabolism هذا الصنف بعد أن نأكله) هو المحددُ الرئيسيُّ للجوع فإن نقصَ مستواه في الجسد عن حدٍّ معينٍ أثيرتْ فينا الرغبةُ في الأكل أي شعرنا بالجوع، وإن عاد مستواه إلى ما كانَ عليه في الجسد شعرنا بالشبع، وكانت النظريةُ التي تعتمدُ على نسبة سكر الجلوكوز Glucostatic Theory هي ألمعُ تلكَ النظريات (Campfield & Smith, 2003) مقارنةً بالنظرية التي اعتمدت على نسبة الأحماض الدهنية (Lipostatic Theory (Kennedy, 1953، وبالتي اعتمدت على نسبة الأحماض الأمينية (Amino-static Theory (Meyer & Hargus, 1959.
فمن المعروف أن المخ كعضو من أعضاء الجسد لا يستطيعُ استعمال غذاءٍ غير الجلوكوز، بينما تتمتعُ بقية أجزاء الجسد بنوعٍ من المرونة مقارنةً بالمخ في هذا الخصوص، ويحتوي المخ على مستشعراتٍ Sensors تستشعرُ نسبةَ هذا الجلوكوز، وتوجدُ هذه المستشعرات في الوطاء Hypothalamus؛ وهيَ تقيسُ الفرقَ بين نسبةِ الجلوكوز في دم الشرايين التي تمرُّ بها ونسبته في دم الأوردةِ التي تمرُّ بها.
وقد قامَ فريقٌ من الباحثين في علم النفس الفسيولوجي بزرعِ لاحباتٍ مجهرية Microelectrodes (ومفردها لاحب مجهري، أو مَسْرًى مِكْرَوِي) في منطقة الوطاء في الكلاب والقطط، لتسجيل وقياس النشاط العصبي في مناطق الوطاء المختلفة قبل وبعد حقن الجلوكوز والذي يؤدي إلى زيادة نسبة الجلوكوز في الدم، وقبل وبعد حقن هرمون الإنسولين والذي يؤدي إلى نقص نسبة الجلوكوز في الدم.
وقد بينت نتائج دراستهم تلك: أن حقنَ الجلوكوز يؤدي إلى نقص نشاط الخلايا العصبية في الجزء الجانبي من الوطاء Lateral Hypothalamus بينما يؤدي حقن الإنسولين إلى زيادة نشاط الخلايا العصبية في هذه المنطقة، وزيادةُ النشاط تؤدي إلى أن يحس الكائنُ الحيُّ بالجوع ويسعى للحصول على الغذاء، كما تؤدي إلى إفراز السكر المخزون في الكبد إلى الدم إن لم يبادر الكائن الحي بالأكل، خاصةً وأن الكبد هو الآخر يحتوي على مستشعراتٍ لنسبة الجلوكوز في الدم؛ لأنه من أوائل أعضاء الجسد التي يصلها ناتج الهضم (Stricker et al.,1977).
وحديثًا اكتُشف واحد من الهرمونات المعوية يسمى الغِرِلين Ghrelin ويعتبر هو الهرمون المشهي Orexigenic الوحيد المكتشف في الدم (Kojima & Kangawa, 2005)، فقد أثبتت الدراسات دوره في استثارة الشهية وزيادة سلوك الأكل؛ حيث تزيد نسبته في الدم مباشرة قبل تناول الوجبة كما تنقص بعدها، وله دور في استثارة حركة المعدة وإفراز الحامض المعدي، كما أوحت النتائج باحتمال وجود علاقة لتغيرات مستواه في الدم بالشهية والتنظيم قصير الأمد لسلوك الأكل (Wren, et al., 2001) ، وقد يكونُ للغرلين أيضًا علاقة بالتنظيم طويل الأمد لوزن الجسد، وهو ما تجرى الدراسات حاليًا بشأنه في محاولة لاكتشاف عقار جديد يعالج البدانة (Cummings & Shannon,2003).
إلا أن كل هذه النظريات التي حاولت الإرجاعَ لعاملٍ واحدٍ -رغم وجودِ مُعَضِّداتٍ لكل منها- لم تستطع واحدةٌ أن تجيبَ على العديد من الأسئلة المتعلقة بسلوكيات الجوع والشبع في الإنسان (وربما حتى في الحيوان) مما جعل النظريات الحديثة التي تحاولُ الإجابةَ على سؤال ما هو المحددُ الرئيسي للجوع والشبع؟ تخلصُ إلى أنه ليسَ محددًا واحدًا وإنما محدداتٌ عديدةٌ متداخلةٌ ومتشابكةٌ، أي أن العلم الحديثَ ما يزالُ لا يملكُ إجابةً محددةً وقاطعةً ونهائيةً لهذا السؤال.
ونعود مرةً أخرى لتفنيد الافتراض القائل بأننا نأكلُ لكي نحافظ على حالة اتزان الجسد Homeostasis، فإذا وصلناها أحسسنا بالشبع فتوقفنا عن الأكل فالأمرُ أيضًا أكثرُ تعقيدًا من ذلك، لأن رجوعَ الجسد إلى حالة الاتزان يحتاجُ ثلاثةَ أو أربعةَ ساعاتٍ لكي يتمَّ هضمُ الطعام وامتصاصه ووصوله إلى الدم ومروره بالكبد لكي يتمَّ توفيرُ ما يحتاجُ إليه الجسد من موادَ مغذية كالأحماض الدهنية (مثلاً)، فهل نحنُ نظلُّ نأكلُ إلى أن يحدثَ ذلك؟ بالطبع لا! إذن ماذا يوقفُ عمليةَ الأكل بعدما بدأت، بينما الأكلُ جميلٌ ولطيفٌ وسهلُ الهضم، ولدينا الوقتُ لنأكل كما هو حالُ الإنسان المتحضر، لماذا نتوقف رغم ذلك؟
وهذا ما يقودنا إلى سؤالٍ جديدٍ؛ هو: ماذا يجعلنا نتوقف عن الأكل؟
المراجع:
1) Atkinson L.R., Atkinson, R.C, Smith, E.E. & Hilgard, E.R. (1987): Basic Motives, Hunger, In: Atkinson L.R, Atkinson R.C et al (editors) Introduction to Psychology, 9th ed, Harcourt Brace Jovanovich, Publishers. International Edition. P. 319.
2) Freed , W. J. , Freed , L. M. , and Giordano , M. (1995): Motivation and Consummatory Behaviors. In: J.M. Wiener & N.A. Breslin (Editors),The Behavioral Sciences in Psychiatry , Middle East Edition.
3) Campfield, L. Arthur and Françoise J. Smith. (2003): Blood Glucose Dynamics and Control of Meal Initiation: A Pattern Detection and Recognition Theory. Physiol. Rev. 83: 25-58
4) Kennedy G ( 1953): The role of depot fat in the hypothalamic control of food intake in the rat. Proc R Soc London [B] 140:578-591
5) Meyer J, Hargus W (1959): Factors influencing food intake of rats fed low-protein rations. Am J Physiol. 197:1350-1352
6) Stricker, E.M. Rowland, N, Saller, C. F, & Friedman, M.I. (1977): Homeostasis during Hypoglycaemia: Central control of Adrenal Secretion and Peripheral Control of Feeding. Science, V. 196, P.: 79-81.
7) Kojima M. & Kangawa K. Ghrelin: Structure and Function Physiol Rev, April 1, 2005; 85(2): 495 - 522.
8) Wren AM, Seal LJ, Cohen MA, Brynes AE, Frost GS, Murphy KG, Dhillo WS, Ghatei MA, & Bloom SR. (2001) Ghrelin enhances appetite and increases food intake in humans. J Clin Endocrinol Metab 86: 5992–5995
9) Cummings DE and Shannon MH.( 2003) Roles for ghrelin in the regulation of appetite and body weight. Arch Surg 138: 389–396.
واقرأ أيضاً:
ماذا نفعل مع الطعام في الأوقات الحرجة؟ مشاركة1 / جدد علاقتك بأكلك وجسدك متابعة مشاركة / جدد علاقتك بأكلك وجسدك مشاركة1