طالعنا أحد أساتذة الطب النفسي من مستشاري موقع مجانين، بمجموعة من المقالات وما أسماه "تحليلات نفسية" نشر بعضها على هذا الموقع والبعض الآخر في وسائل الإعلام الرسمية والخاصة، ويدّعي فيها الدكتور أنه يحلل الوضع السياسي المصري الحالي بمنطق علمي.
ورغم أنني لا أهوى السجالات الكلامية، والجدالات العقيمة غير ذات الهدف، ولا أجد جدوى من الحوار مع من استغل وضعه العلمي وثقة غير المتخصصين فيه، ليضفي صفة العلمية على تحيزات سياسية واضحة، لم يكن لدى الدكتور الجرأة الكافية أن يعلن أنها تحيزاته واختياراته، أو ربما كان دوراً "مدفوع الأجر"، جعله يحاول تصوير آرائه السياسية على أنها رأي العلم، باستخدام بعض المصطلحات النفسية، وإيهام القارئ بأنه يقرأ تحليلاً نفسياً علمياً، يقوم فيه الدكتور بإرساء بعض الأمور وكأنها مسلمات -وهي ليست كذلك- والبناء على ما اعتبره "حقائق" غير قابلة للنقاش للخروج بنتائج تخدم اتجاهاً سياسياً بعينه.
وحتى لا أبخس الدكتور حقه، فلابد لي أن أوضح أنه استخدم أسلوباً مدروساً، وتحليلاً معروفاً، لكنه لا ينتمي من قريب أو بعيد للعلم أو الطب النفسي، ولا يمت للتحليل العلمي بصلة إلا أننا يمكننا أن نقول أنها مقالات متخصصة في فرع واحد من الفنون، وهو فن المغالطات، والتحيز السافر .
أقول أنني وبرغم عدم رغبتي في محاورة أمثال الدكتور - لعدم الجدوى، فعادة حجم المغريات التي تجعل شخصاً في مركز ودرجة الدكتور يجازف بوضعه العلمي بكتابة مثل هذه المقالات المهترئة علمياً يكون كبيراً لدرجة يجعل الحوار غير ذي جدوى- إلا إنني وجدت أن التبيان، ومناقشة منهج المقالات وبعض محتواها، هو حق للقارئ، كما أدعو المتخصصين في البحث العلمي والطب النفسي إلى تقييم منهجية استنباط الحقائق، وتحليل الظواهر التي استخدمها الدكتور والتي يعلم أقل باحث علمي أنها لا تستند لإطار علمي أو منهجية تقترب ولو قليلاً من التحليل وعلم استنباط النتائج.
وكان أحرى بالدكتور أن يتحلى بالشجاعة ليعلن تحيزاته السياسية بوضوح، واختياراته ومواجهة القراء بذلك بكل أمانة، وأن يعرض ما يعرض باعتبارها آراؤه الشخصية كما يفعل بقية مستشاري وكتاب الموقع الذين يفصلون بأمانة ودقة بين دورهم العلمي، وحقهم في التعبير عن الآراء الشخصية، وهي أخلاقيات مهنتنا التي نسيها أو تناساها الدكتور وهو يستغل ثقة القراء في الموقع ومستشاريه ويتلاعب باسم العلم.
ورغم كوني أتبنى اختيارات سياسية مختلفة تماماً عن التي يدعمها الدكتور في مقالاته، باعتبار أنني أؤمن بأن ما حدث في مصر في الثالث من يوليو الماضي هو انقلاب عسكري مكتمل الأركان، اتخذ صفة الوحشية والدموية (كعادة الانقلابات العسكرية) بعد أن قتل خلال أربعة أشهر ما يتجاوز الخمسة آلاف شخص من معارضيه، إلا إنني هنا لن أناقش آراء سياسية قد تقبل الاتفاق والاختلاف بقدر ما سأعمل على إثبات انتفاء صفة العلمية، والتحليلل النفسي عن ما يكتبه الدكتور.
ففي إحدى المحاولات المعروفة في فن "المغالطات"، حاول الدكتور إقرار أن اعتبار ما حدث في ٣٠ يونيو هو "ثورة" وكأنه من المسلمات فوصف الرأي القائل بغير ذلك بأنها "حالة من الإنكار" وهو مصطلح يتلاعب به الدكتور لمصادرة أي رأي قائل بغير ذلك رغم وجود تيار معتبر في المجتمع -شاء الدكتور وأشباهه أو أبوا- يرى غير ذلك
ثم ادعى الدكتور في مقال شديد التحيز بل والعنصرية وجود مصطلح علمي يسمى "التدين الصراعي"، وصار يصف في أعراض ذلك النوع الذي اخترعه الدكتور من التدين لإلصاق أشكال من الانحرافات النفسية بتيار معين باستخدام إيحاءات وإسقاطات واضحة لا تحتاج كثير ذكاء ليخرج القارئ بتطبيق ما ورد في المقال على صورة نمطية ( stereotype ) للتيار الذي يرى أن الإسلام يرتبط ارتباطاً وثيقاً في السياسة أو ما أطلق عليه إعلامياً - تيارر الإسلام السياسي- وهذه الصورة النمطية تم تغذيتها خلال الفترة الماضية إعلامياً بشكل كبير، ومن حق الدكتور أن يتفق أو يختلف مع فكرة ارتباط الدين بالسياسة، أما أن يستخدم في مقال يدعي فيه أنه تحليل علمي تعبير "استغلال الدين في السياسة" فهو تحيز ينفي صفة العلمية والحيدة عن المقال.
وحينما يصف الدكتور تياراً أو جماعة بعينها بـ"الماسوشية" أو "المازوخية" فلابد أن نسائله عن ما استند إليه من دراسات أو إحصاءات ترقى في العدد والربط الإحصائي لتصل لدرجة "الحقيقة" أو أن نطالبه بتراجع مكتوب واعتذار "غير مقبول" لوصمه مخالفيه في الرأي بهذا الانحراف النفسي.
وحينما يتحدث الدكتور عن الإنكار من الجانب الآخر -أيضا-ً، في اعتبار أن الطرف المخالف له في "حالة إنكار" هو مسلمة علمية تم تجاوزها.
والطريف حديث الدكتور عن إنكار الجانب الآخر لما أسماه "الحقائق" التي توحي بأن الدكتور يرى آراءه وما يتبناه حقائق ومسلمات غير قابلة للنقاش.
وتمتلئ مقالات الدكتور بمصطلحات نفسية كالإنكار، مشاعر الاضطهاد، والميول الماسوشية، الانفصال عن الواقع، استدعاء المظلومية، وغيرها من التعبيرات التي تشعر القارئ أنه يقرأ تحليلاً علمياً لا رأياً سياسياً خرج بشكل لا أخلاقي ليس لما يتبناه من آراء وإنما لخروجه عن أخلاق العلم وحيدة الطبيب
ومن المثير للضحك والحزن في نفس الوقت ما يسميه الدكتور "تحليلاً" لإيماءة رأس، أو فتح زر المعطف أو غلقه، وكتابة المقالات المطولة وكأنها دراسة علمية لما وصفه أحد أساتذتنا "شغل نفسجية"، والممارس المبتدئ للطب النفسي يعلم أن الطبيب يحتاج لاتخاذ قرار "أكيد" حول شكوى أحد المرضى إلى معاينة دقيقة بأسئلة محددة واختبارات معروفة طبياً قد تستغرق من الطبيب لاتخاذ قرار بتشخيص معين زيارة أو زيارتين من المريض، ويظلل التشخيص قابلاً للتغيير ولو باحتمالات ضعيفة، حيث قد تتضح بعض الأمور خلال الحديث مع المريض وأهله، بل إن طبيب الأمراض الباطنية لا يجرؤ على اعتبار تشخيصه دقيقاً بنسبة مائة في المائة إلا مع تأكيد ذلك بالفحوصاتت المختبرية والأشعات وغيرها، فكيف لدكتورنا الجهبذ أن يبني تحليلاً علمياً لا نجد فيه حتى لغة تساؤل قد تضع احتمالات من مشاهدة شخص لمدة دقيقة عبر التلفاز، أو تعريف تصرف معين لأناس لم يقابلهم الدكتور في حياته ولم يتحاور معهم يوماً.
أكرر، للدكتور الحق الكامل في أن يتبنى من الآراء ما يشاء، مهما اعتبرها أحدهم شاذة أو متطرفة، كما أن له الحق في التعبير عنها، لكن ما يستلزم اعتذاراً من الموقع أولاً ثم من الدكتور - الذي أتمنى أن يتحلى بالشجاعة الكافية- لتلاعبه باسم العلم، في تطرف وعنصرية استنكرها الدكتور في مقالاته ووصفها بأحادية الرأي.
وأوجه الدعوة لمستشاري الموقع جميعاً، وخاصة الأستاذ الدكتور وائل أبو هندي، والدكتور أحمد عبد الله، لتقييم مقالات الدكتور المذكور من حيث المنهجية العلمية وسبل استنباط الحقائق، ثم تصنيفها إما تحت المقالات العلمية، أو المدونات التي تعبر فقط عن آراء أصحابها.
وحينما ننتقل لمساحة "الرأي والرأي الآخر" أعد بتفنيد الرأي السياسي الذي يتبناه الدكتور وحينها يكون القارئ صاحب الاختيار في تبني هذا الرأي أو ذاك دون قهر أو إجبار على تبني آراء باعتبارها "رأي العلم".
واقرأ أيضاً:
التعليق: أخيرا حد رد
الواحد كان فقد الأمل في الموقع..
الحمد لله