من البداهة أنه لا يقوم نظام ديموقراطي مدني حديث بلا معارضة، ومع ذلك تجد كتابا كبارا ومثقفين متعمقين وإعلاميين لامعين وسياسيين نافذين وحزبيين مخضرمين يرفضون أي صوت معارض منذ 30 يونيو وحتى الآن، ومبررهم لذلك أنه "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" وأن "المعركة ضد الإرهاب" لا تحتمل الحديث عن الرأي والرأي الآخر ولا تحتمل الحديث حتى عن حقوق الإنسان، وتنكر هؤلاء جميعا لكل ما كتبوا وقالوا ونظّروا عن مبادئ الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان. ومن هنا خلت الساحة تماما إلا من أصوات المؤيدين والمعجبين والمريدين والمناصرين والمفوضين والموكلين والمنبهرين والمقدسين.
إن المتأمل للخريطة السياسية يلمح فراغا هائلا للأحزاب السياسية (رغم كثرة أعدادها .. حوالي ثمانين حزبا) وفراغا هائلا للأصوات المعارضة العاقلة والمتزنة بعد أن اصطفت القوى الليبرالية والعلمانية واليسارية والقومية والناصرية والعروبية في جانب السلطة أو جلست على حجرها احتماءا من شبح الإسلام السياسي (عدوهم اللدود) أو كيدا له. وتنكر هؤلاء لقول الفيلسوف الفرنسي العظيم فولتير "إنني أختلف معك في الرأي ولكني مستعد لأن أدفع حياتي ثمنا لأن تعبر عن رأيك بحرية".
ولكي لا تقوم للمعارضة قائمة تم تسليط سيف الخوف والقهر عليها فأصبح أي صوت معارض يسهل اتهامه بأنه مؤيد للإخوان أو خلية نائمة أو طابور خامس أو أداة للمخططات والمؤامرات الأجنبية أو خارج عن الإجماع الوطني أو جاهل بما يتهدد كيان الدولة من أخطار. وبهذا صار الخوف سلاحا مشهرا وأداة لوأد أي صوت معارض وترويج أي صوت مؤيد، وبهذا حدثت ردة ونكوص وعدنا مرة أخرى إلى الرأي الواحد والحزب الواحد والزعيم الواحد، وأصبحنا نرى المعارضة كما كان يصفها فرعون "إنهم لشرذمة قليلون وإنهم لنا لغائظون"، ولا يبقى لأي صوت معارض إلا أن يبتلع لسانه أو يغادر البلاد.
فهل يليق بعد ثورة عظيمة مثل ثورة 25 يناير (وموجاتها المتتالية) حركت الوعي وأيقظت معاني الحرية والكرامة الإنسانية أن نرتد هكذا عن قيم الديموقراطية والدولة المدنية الحديثة تحت تأثير التهديد بالفزاعات والمؤامرات والخطط الداخلية والخارجية؟ ... وهل هذا التأييد والتهليل الإعلامي الفج والمبالغ فيه يؤدي إلى نتائج إيجابية تصب في مصالح المؤيدين (بكسر الياء) والمؤيدين ( بفتح الياء) أم أنه يعطي صورة بدائية لنظام عفا عليه الزمن ..... وهل يمكن في هذا العصر أن تئد المعارضة وتكتم صوته؟ .. أم أن فرص وصور وأشكال التعبير العصرية ليس لها حدود ولا تقف في وجهها سلطة مهما عظمت؟ (راجع كتابات وسجالات وهاشتاجات الشباب المعارض على الإنترنت).
والسؤال الآن: ماهي قوى المعارضة الحقيقية الكامنة والمطلوبة لصحة النظام القائم والقادم والتي بدونها سيصبح النظام مسخا شموليا استبداديا أحاديا خارج إطار التاريخ؟ ... إنهما قوتان أساسيتان، الأولى هي تيار الإسلام السياسي (المنبوذ والموصوم الآن بالإرهاب) والثانية هي القوى الثورية (خاصة الشباب) التي قادت وحركت ثورة 25 يناير (المسجونة والمطاردة والموصومة الآن بالعمالة للخارج والعمل على هدم كيان الدولة).
فتيار الإسلام السياسي رغم أخطائه الفادحة في الفترة التي حكم فيها ورغم انكشاف ضعف قدراته وإمكاناته السياسية إلا أنه يشكل قاعدة وقوة شعبية تتجاوز بكثير الأحزاب المدنية مجتمعة، وأن إقصاء هذا التيار يترك فجوة هائلة في البناء السياسي والمجتمعي كما أنه يقذف بالمنتمين إليه من الشباب المتحمس في أحضان اليأس والإحباط والغضب وربما الإرهاب انتقاما من مجتمع لفظهم ونبذهم وتنكر لمشروعهم وحلمهم.
والتيار الثوري يرى أنه قام بثورة عظيمة في 25 يناير لتحقيق العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، ولم يتحقق شيء من ذلك حتى الآن بل تم ركوب الثورة تارة وسرقتها تارة والانحراف بمسارها تارة أخرى، والنتيجة أنه يرى الآن مصر غير التي قصدها أو ثار من أجلها ودفع بآلاف الشهداء لتغييرها فإذا بها تظل كما هي أو تعود إلى الوراء سنوات طويلة، ليست هي مصر الديموقراطية المدنية الحديثة بل مصر الستينات، ليست مصر التي تديرها عقول الشباب النابهين بأبجديات وتقنيات العصر بل مصر العتيقة التي يحكمها ويديرها التقليديون المحافظون بمباركة ومساعدة المنتفعين من النظام القديم.
قد يرفض البعض هذه القوى ويتهمها بأقذع الاتهامات ويراها خارج الإطار الوطني ويصمها بالخيانة والعمالة والتآمر وتفتيت الوطن أو على الأقل بالتهور والاندفاع وقلة الخبرة، وهكذا المعارضة لا تأتي دائما على راحة الجميع ولا هواهم ولا توافق معاييرهم، ومع ذلك هي ضرورة حيوية لأي نظام ديموقراطي مدني حديث، حتى الأحزاب اليمينية واليسارية المتطرفة تجد مكانها في النظم الديموقراطية المحترمة طالما تلتزم بالسلمية والقانون وبقواعد الديموقراطية .
واقرأ أيضا:
كيف يختار المصريون رئيسهم / السيسي حزينا / الاستبداد صناعة الحاكم والمحكوم