كثرت التحليلات السياسية حول خطاب حوار السيسي مع الإعلاميين إبراهيم عيسى ولميس الحديدي بين مؤيد ومعارض، بين مبهور وناقد، وبين مهتم ومستهتر، ولكن وهذا يعتمد على زاوية رؤية كل محلل ومدى قربه أو بعده من شخص السيسي وما يمثله له في المرحلة الماضية والحالية والمستقبلية، وهذا حق لكل محلل وإثراء للرؤية مع احترام طبيعة الاختلاف لدى البشر، وتفهم دوافع التحيز والتحيز المضاد.
واليوم نطرح رؤية للجانب النفسي في الحوار، نتمنى أن لا تكون متحيزة مع أو ضد (قدر الإمكان) لتكتمل الرؤية لشخص مرشح للرئاسة ويريد الناخب المصري أن يعرفه بشكل أعمق قبل أن يدلي بصوته.
حاول المشير السيسي أن يبدو هادئا ومتوازنا وعقلانيا ومستندا للأرقام في جزء كبير من الحديث (ربما تحت تأثير نصائح من خبراء حملته خاصة بعد انتقادات خطاباته المبالغة في العاطفية والحنية) ونجح في ذلك بدرجة معقولة، ولكنه حرم من طريقته الأولى في الاستمالات العاطفية للمصريين والتي منحته زعامة شعبية لا يستهان بها في الشهور الماضية. وحرمانه من الخطاب العاطفي جعله يتحرك في مساحات ضيقة ومحددة تجعله في حالة ضيق فيضطر للخروج منها ومن ملاحقة الأسئلة بأوامر وقرارات سلطوية يوجهها نحو المحاورين.
وعلى الرغم من قدرته على ضبط طبقة صوته على درجة منخفضة تبدو حنونة وعلى الاحتفاظ بنظرة عينيه متواصلة ومتعاطفة ومستعطفة إلا أن حركة اليدين وخاصة اليد اليمنى كانت تعكس سلطوية وتحكمية واضحة فالحركات جافة وخشبية وقاطعة (الكف السيف والكف الساطور والسبابة السلطوية).
وبدت علامة الصلاة في الجبهة أكثر وضوحا، والمتابعة الطولية لتلك العلامة في الجبهة تعكس ظهورا متدرجا ومتزايدا لها منذ بدأ السيسي يظهر إعلاميا في الفضاء السياسي والإعلامي، وقد يمكن رؤية هذا بأكثر من طريقة: الأولى: أن السيسي يريد أن يغازل فئة غير قليلة من الشعب المصري ترى في التدين قيمة كبيرة، الثانية: تأثر السيسي بالناحية الروحية والدينية لدى السادات والذي كان يتمتع بعلامة صلاة واضحة، خاصة وأن السيسي (في التسريبات) ذكر أنه رأى السادات في منامه يعطيه شيئا، الثالثة: أن هذا نوع من رد الفعل العكسي لمحو الاتهام الموجه له بأنه يحارب اليمين والديني وأنه أجهض المشروع الإسلامي وأنه انحاز للرؤية اليسارية العلمانية الليبرالية، الرابعة: أن الرجل ربما تحت الضغوط الشديدة والمستمرة يحاول الاقتراب من الله لاستلهام الدعم والطمأنة والمساندة كأي انسان في محنة، أو أنه يشعر بأنه حقق أحلامه الشخصية بأكثر مما كان يتمنى ويسجد شكرا لله على ذلك.
نستطيع أن نتفق أو نختلف في كل ماسبق (كل حسب موقفه وتقديره لشخص السيسي ولدوره وقراراته وأفعاله في السنة الماضية)، ولكن يبقى شيء واحد مهم في هذا الحوار يكاد يستحوذ في النظرة النفسية على الاهتمام الأقصى نظرا لدلالته القاطعة وصعوبة تبريره، ذلك الشئ هو كلمة "أنا" التي وردت في الحوار مرات كثيرة بحيث تفوق أي كلمة أخرى في الحوار. وقد ذكر البعض أن كلمة "أنا" وردت 25 مرة ووكلمة "احنا" 18 مرة، وكلمة "المصريين" 12 مرة، وكلمة "الشعب" مرة واحدة (المصري اليوم 7/5/2014).
وبالإضافة لكلمة "أنا"، كان المشير طول الوقت يتحدث بضمير المتكلم المفرد، وقد ظهر في الحوار وحده (في حين ظهر منافسه في حوار آخر ومعه فريق حملته)، ويتحدث عن حلول المشكلات الاقتصادية والتعليمية والبطالة والطاقة من خلال قرارات سلطوية علوية تعتمد على سلطة صاحب القرار وقدرته على الحزم والحسم من ناحية كما تعتمد على طاعة وانصياع متلقي الأمر ومنفذه، وهذا ربما يعكس الطبيعة العسكرية في التفكير. ولم يكن مستريحا للمقاطعة بالأسئلة من المحاورين، فهو يريد أن يكمل رؤيته بالشكل الذي يريده والذي خطط له، ولهذا كان يصر على استكمال الحديث بشكل قاطع واستخدم الأمر أكثر من مرة: "أكمل ..." "خلوني أكمل ..." "انتوا عايزين تسمعوا ولا تتكلموا انتوا..." (وصاحب هذا زغرة سلطوية أرغمت المحاوران على الصمت الاضطراري معظم الوقت على غير عادتهما) .
وذكر بأنه لن يسمح بتجاوزات المعارضة، وذلك يوحي بشكل واضح بعدم القدرة على التعامل مع المخالفين والمعارضين، وأنهم سيخضعون للتقييم الشخصي للسلطة الرئاسية وتحديد ما إذا كانوا متجاوزين أم في الحدود المسموح بها سلطويا.
والإحساس المتضخم بالذات يبدو جليا في العبارة التالية: "أنا جبت الدكتور فاروق وجبت الجيولوجيين علشان يقولوا لي المياه الجوفية قد إيه". وقد يسأل سائل: وفيها إيه .... الراجل بيستعين برأي العلماء في الموضوع !!! ... وهذا صحيح من ناحية ولكن من ناحية دلالات اللغة على طبيعة الشخصية وتوجهاتها كان المتوقع بلغة الدبلوماسية التي تعرف قيمة الجميع وتقدرهم وتعرف تواضع صاحب القرار وديموقراطيته أن يقول: "لقد سألت الدكتور فاروق الباز وسألت الجيولوجيين" .. وفارق كبير في الصيغة ودلالاتها.
ويزيد من الإحساس العالي بالذات قوله: "أنا من مؤسسة لازم تنجح" .. "أنا محتاج المصريين يفهموا أنا هاتحرك ازاي" .. "أنا محتاج المستثمرين يفهموا أنا هاعمل إيه" ... "أنا في الجيش عملت ده من 45 سنة" ... "أنا واثق من نفسي" .. "أنا لازم أعظم وأحفز المصريين على الترشيد".
وفي الحديث عن حلول مشكلات الاقتصاد والتعليم والطاقة لم يكن يتحدث عن آليات وعمل مؤسسات دولة وأفكار حديثة ولكن كان يتحدث عن أوامر وإجراءات سلطوية وخبرات فردية ورؤى وقناعات شخصية ولهذا كانت تبدو الحلول شديدة التبسيط والاختزال، فمثلا مشكلة الطاقة تحل في جزء كبير منها بفرض لمبات موفرة على الناس في بيوتهم، ومشكلة رغيف العيش تحل بأن يقطع المصريين الرغيف "أربع تربع" (وهذا ربما يذكرنا بنصائح هشام قنديل رئيس الوزراء في عهد الدكتور مرسي للناس بأن يحلوا مشكلة انقطاع الكهرباء بارتداء ملابس قطنية والجلوس في غرفة واحدة لاستخدام تكييف واحد).
وعلى الرغم من كثرة التفاصيل في الحوار إلا أن ثمة رسالة تصل للقارئ المتأمل والمتمعن مفادها: "أنا الدولة والدولة أنا" .. وقد لا يكون المشير السيسي يسعد بذلك أو يقبله ولكن يبدو أن هتافات المؤيدين ومبايعات المبايعين وتأوهات المعجبين المشدوهين ومبايعات المبايعين وتفويضات المفوضين وأقوال القائلين بأن السيسي لا يحتاج إلى برنامج ولا يليق به أن يدخل في مناظرة مع منافسه وأنه لا يحتاج إلى انتخابات وصناديق ما دام يتربع على قلوب المصريين ... كل هذا جعل الرجل يدخل في مساحة خطرة عليه وعلى محبيه ومؤيديه وربما على الوطن، وأن الأمر يحتاج لمراجعات قبل فوات الأوان بصرف النظر عن نتائج الانتخابات.
وعلى الرغم من أن المحاورين معروفين بدعمهما للمشير السيسي إعلاميا وتعاطفهما معه فكريا وإنسانيا إلا أن علامات التعجب والتساؤل والتشكك والاستنكار وأحيانا الإحباط كانت تظهر على وجهيهما وفي لغة جسديهما خاصة الإستاذ إبراهيم عيسى الذي كان يستخدم حركة الأصابع تحت الذقن وبجوار الفم كإشارة دالة على التشكك والتفكير النقدي لما يسمع، إضافة إلى علامات الإحباط وتكشيرة الوجه لدى الأستاذه لميس التي تعودت أن تتحدث هي ويسمع محدثها فإذا بها تجد نفسها في مواجهة مع متحدث يجبرها على الاستماع إليه ولا يقبل بأسئلتها إلا في حدود ما يراه جائزا فلأول مرة يفقد المحاوران قدرتهما على السيطرة على الحوار.
واقرأ أيضاً:
فوبيا المعارضة ! / طبيعة السلطة القادمة/ 1 سيكولوجية الجماهير / 3ـ الخصائص النفسية للجماهير العربية