من أخطر ما يؤدي إلى بؤسنا المشتهى أننا نسلم أنفسنا وحياتنا إلى أنماط في التفكير والعيش والعلاقات .. قطع العلم الصحيح، والتدين السليم، والمنطق المستقيم بفشلها تمامًا، لكننا نرفض التخلي عنها، وتمسكنا بما وجدنا عليه آباءنا .. داء جاهلي قديم يلازمنا!
مرت هذه الفكرة بخاطري وأنا في الإسكندرية التي أعشقها لأحضر المؤتمر الحادي عشر لقسم الطب النفسي بجامعتها، وعادة ما تكون المؤتمرات المشابهة نوعًا من التكرار لطقوس احتفالية واجتماعية، مع بعض التعرض لمستجدات في الأبحاث الدوائية، وقليل من العلاجات النفسية الأخرى مثل السايكودراما، أو أنواع العلاج الجمعي الأخرى!
التداخل والتواصل والتكامل بين المهني التخصصي والشخصي والعام المجتمعي هو عصب حياتي منذ عقود، والجديد في مؤتمر الإسكندرية هو تكثيف الحديث عن العلاجات النفسية غير الدوائية، ويأتي هذا مواكبًا لما يحصل في العالم من ارتفاع الاهتمام بالجوانب والأبعاد غير البيولوجية في السلامة والاعتلال النفسي، بل إن طب الأبدان يسير على نفس المنوال من البحث عن الأسباب وطرق التعافي .. غير الدوائية!
هذا أراه تطورًا يحسم جدلاً طويلاً عشته طوال سنوات اهتمامي بالإنسان، وعملي مع الناس معالجًا ومصاحبًا ومتعلما من حركتهم وتواصلهم وآلامهم! حيث العلاجات النفسية المهمشة سابقا تعود إلى الواجهة، ودور علم النفس، والطب النفسي -بشكل عام- في فهم وتفسير الظواهر، وإدارة التحديات، وتحسين حياة الناس يتعاظم حول العالم، ومن ذكاء القائمين على علوم الإنسانيات أن ينضجوا الأبحاث والنظريات والاقترابات الأكاديمية في ضوء التجارب وتطور الأحداث، فتكون الممارسة الحية هي المدخل لتطوير العلم، وليس فقط العكس، كما تعودنا!
ابحثوا عن العلم في حياة مجتمعاتنا العربية .. ابحثوا عن العلوم الإنسانية ستجدونها مغيبة مهمشة حتى إن كليات وأقسام الإنسانيات لا تظفر غالبًا إلا بمن فاتته مساحات السبق المتميزة!! وهي عندنا تلك التي تجلب وظائفا أسرع، ومكانة ووجاهة اجتماعية ألمع، وفي مجال علم النفس وطبها .. لا يبدو أن أحدًا يكترث بها غير أصحاب المعاناة الشديدة بحثًا عن تسكين للألم، وأولئك القابضين على السلطة اجتهادًا في إحكام السيطرة والتسلط!
أن يفهم الإنسان نفسه وغيره، ويستعيد وعيه، ويشحذ حضوره الذي يقابل به يومه ويدير علاقاته ويبني مستقبله، ماذا لدينا نحن الناس من ذلك؟؟ غير رتوش باهتة وشذرات متناثرة في صورة ورش عمل ودورات ما نسميه التنمية البشرية، والتي تحاول تيسير الأدوات دون تجذير العلم ومسائل وأسئلة الوجود والحضور الواعي للإنسان، مما يوقظ الحياة فيه!!
في وقت من الأوقات تقدم علم النفس في التجربة الغربية ليحل محل دين الكنيسة الخانق الذي ودعه الناس هناك، وأودعوه مخازن طقوس العبادة، وبقي علم النفس متحديا لعقود طويلة ثم هو ينضج خلال العقود الأحدث ليتواصل ثانية مع الروح والروحانيات والأبعاد غير المادية للإنسان، كما حاولت أن أشرح توا!!
عندما تنظر فلا تجد علما نفسح له المجال ليؤثر ويقود، ولا نجد دينًا إلا تدين الكهنة الخائب، أو تدين الجماعات الخائف، أو تدين الانسحاب من الحياة، أو إعادة إنتاج مادياتها بلحية ونقاب!!
لا عجب إذن إذا حضرت في مؤتمر الإسكندرية ورشة تذكرك بقدراتك كمشارك في تغيير واقعك ومن حولك، ولا عجب حين وجدت نفسي أسبح وأنتقل من المتخصص إلى الخاص وللعام في ورشة أخرى عن علاقة الأحلام بالتعلم والإبداع، وصعوبات تطور أية جماعة بالاقتصار على إعادة إنتاج الوعي الجمعي المشترك لأبنائها!
ولا عجب إذا ناقش بعض المشاركين في جلسة من الجلسات رواية شارلوت برونتي "جين إير" من وجهة نظر سيكولوجية، و في حين ناقش أمس أحد الأساتذة الزملاء الجوانب النفسية في ظاهرة إلحاد الشباب، سيناقش آخر غدا موضوعا شائكا عن المثلية الجنسية / الشذوذ بين الرفض ومحاولات الإدماج!!
كثيرا ما سمحت لنفسي بالشرود في مثل هذه الملتقيات، و تساءلت ذات مرة: هل ما يحيطنا من جدران القاعات هي حوائط عادية للوقاية من الضوضاء وهبات الرياح أم أنها حواجز للعزل والحجب والفصل بين العلم والناس؟؟ وأين الخلل؟؟ ومن المسئول عن تغييب العلم؟؟ وغيبوبة مجتمعاتنا بغياب الحد الأدنى من التفكير العلمي، وروح البحث العلمي في واقعنا، بينما نحن نصدع رؤوس الخلائق بأننا أتباع دين أول ما قال للبشر أن اقرأوا!! وما ميز بينهم إلا بالعلم، و ما يتبعه ويرافقه من تقوى ضمير، و عمل صالح!!
المجد للإسكندرية!
1/11/2014
واقرأ أيضاً:
التربيط / المشروع الثوري ثورة داخل الثورة / فرصتنا للحياة / عقوبة أم نعمة / ألغام معركة الأمل