التأصيل الإسلامي لعلم النفس1
2 – أسلمة علم النفس:
في منتصف السبعينات الميلادية ألقى الشيخ جعفر إدريس محاضرة باللغة الإنجليزية في مؤتمر العلماء الاجتماعيين المسلمين دعا فيها إلى أسلمة العلوم، فكان من أوائل من استعمل هذا المصطلح. أما الذي نشره فهو المعهد العالمي للفكر الإسلامي مع شيء من التحوير، حيث أصبح المصطلح أسلمة المعرفة بدلاً من العلوم. وقد عقد المعهد عدداً من المؤتمرات واللقاءات والندوات تحت هذا الشعار، من أهمها المؤتمر المعقود في كراتشي بباكستان تحت عنوان إسلامية المعرفة عام 1402هـ. وقد لقي هذا المصطلح جدلاً عريضاً واعتراضات متعددة منها:
1 – أسلمة لغة خطأ؛ فأسلم يأتي متعدياً بمعنى فوض، تقول: أسلم أمره إلى الله أي سلّمه (الفيروزآبادي، ص. 1448). وبمعنى خذله، تقول: أسلمه للعدو أي خذله (الفيروزآبادي، ص. 1448). ويأتي ((أسلم)) لازماً ويكون بمعنى انقاد وصار مسلماً (الفيروزآبادي، 1413، ص. 1448)؛ وبمعنى أسلف، جاء في مختار الصحاح لمحمد بن أبي بكر الرازي ((أسلم في الطعام: أسلف فيه)) (ص311).
وأسلمة علم النفس بالمعنى الذي يستعملونه له لا يتفق مع أي من الفعلين. ومن يستعمل مصطلح ((أسلمة)) يقصد بها صياغة علم النفس صياغة إسلامية، وهذا لا يصح لغة لأنه يستعمل الفعل المتعدي بمعنى الفعل اللازم، وهو خطأ كما سبق. ولعل سبب هذا الخطأ هو الترجمة، فالأسلمة هي ترجمة للكلمة الإنجليزية Islamization وهي على كل حال كلمة محدثة في اللغة الإنجليزية ومشتقة من كلمة إسلام العربية.
2 – والبعض يخطئ المصطلح حتى من الناحية المعنوية، فمقداد يالجن (1407هـ) في ورقته التي قدمها إلى ندوة التأصيل وكذلك قسم التربية في كلية العلوم الاجتماعية (1407هـ) في ورقته التي قدمها إلى الندوة نفسها يرى أن العلوم لا توصف بالإسلام لأن الإسلام يقتضي إرادة واختياراً من المسلم، والعلوم جامدة لا إرادة لها ولا اختياراً، ولهذا لا توصف بإسلام ولا كفر.
هذا من حيث الاستعمال اللفظي، أما من حيث دلالة المصطلح وما يقصد به فعرف إسماعيل الفاروقي (1986م) الأسلمة بأنها:
((إعادة صياغة المعرفة على أساس من علاقة الإسلام بها، أي إعادة تحديد وترتيب المعلومات، وإعادة النظر في استنتاجات هذه المعلومات وترابطها وإعادة تقويم النتائج، وإعادة تصور الأهداف، وأن يتم ذلك بطريقة تمكن من إغناء وحدة قضية الإسلام)) (ص54).
وتعريف إسلامية المعرفة عند المعهد لا يختلف عن تعريف الفاروقي، فهي عند المعهد جزء من عملية أكبر هي الأسلمة أو الإسلامية التي هي منهاج للحياة، وإسلامية المعرفة تحديداً عند المعهد هي ((جانب أساس وأولي في بنائها (الإسلامية) ويختص بالفكر والتصور والمحتوى الإنساني القيمي والفلسفي، وكيفية بنائه وتركيبه وعلاقاته في العقل والنفس والضمير)) (ص77).
وجعفر إدريس (1987م Idris) حدد مفهوم أسلمة العلوم بأنه بناؤها على أصول الإسلام الثابتة والتقيد بالأخلاق الإسلامية في البحث.
وهذه المعاني والتعريفات متداخلة ويؤازر بعضها بعضاً ولا غبار عليها.
3 – التأصيل الإسلامي لعلم النفس:
في عام 1407هـ عقدت ندوة تحت اسم التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية في مدينة الرياض في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، واعترض على المصطلح باعتبار أن تأصيل علم النفس هو البحث عن أصول شيء موجود، وهذا لا ينبغي، لأن الموجود من علم النفس يعارض الإسلام فلا يصلح بحث أصول له في الإسلام.
ويرى المعترضون أنه حتى لو سلمنا أن لا بأس في البحث عن أصول إسلامية لعلم النفس فهذا لا يكفي، إذ لابد من إيجاد بدائل وتصورات جديدة في علم النفس متفقة مع الإسلام، ولهذا فهم يرفضون المصطلح. ورغم أن ندوة جامعة الإمام عقدت تحت عنوان التأصيل الإسلامي إلا أن هذا الاسم انتقد واقترح بديلاً له ((التوجيه الإسلامي لعلم النفس)). وكان لهذا الاقتراح أثره حيث أصبحت هذه المادة تقدم في الجامعة المذكورة تحت هذا الاسم. وهذه الملاحظات لم تمنع بعض الباحثين ممن شاركوا في الندوة كإبراهيم رجب (1412؛ 1416هـ) ومحمد عثمان نجاتي (1411هـ) وصالح الصنيع (1416هـ) من استعمال هذا المصطلح فيما نشروه من بحوث وكتب بعد ذلك.
والذي يبدو أن ما ذكر من ملاحظات على مصطلح التأصيل تحتاج إلى إعادة نظر؛ فالتأصيل معناه وضع أصل ولا يلزم منه أن يكون لما هو موجود فربما كان لما لم يوجد. وإذا صح هذا المعنى فلا وجه حينئذ للاعتراض السابق.
هذا عن المصطلح من الناحية اللغوية أما من الناحية الاصطلاحية فعرفه نجاتي (1411هـ) وإبراهيم رجب (1412هـ) بتعريفين متقاربين، وهذا تعريف نجاتي:
((نقصد بالتأصيل الإسلامي لعلم النفس إقامة هذا العلم على أساس التصور الإسلامي للإنسان، وعلى أساس مبادئ الإسلام وحقائق الشريعة الإسلامية، بحيث تصبح موضوعات هذا العلم وما يتضمنه من مفاهيم ونظريات متفقة مع مبادئ الإسلام أو على الأقل غير متعارضة معها)) (ص25 – 26).
أما أهداف التأصيل عنده فهي الكشف عن آيات الله تعالى وسننه في الإنسان ومعرفة المنهج الأمثل لحياته مما يحقق له السعادة في الدنيا والآخرة، ومعرفة أسباب انحراف الإنسان عن الحياة المثلى السوية (نجاتي، 1411هـ).
أما تعريف إبراهيم رجب (1412هـ) للتأصيل فهو:
((بلورة أبعاد التصور الإسلامي للإنسان والمجتمع والكون واستخدام هذا التصور كأساس معرفي تنطلق منه العلوم الاجتماعية ليكون موجهاً لنظرياتها ومفسراً لحقائقها ومشاهداتها التي ثبتت صحتها بالتجربة أو الدليل العلمي المحقق)) (ص51).
وفي بحث لاحق عرف إبراهيم رجب (1416هـ) التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية بأنه:
((عبارة عن عملية إعادة بناء العلوم الاجتماعية في ضوء التصور الإسلامي للإنسان والمجتمع والوجود، وذلك باستخدام منهج يتكامل فيه الوحي الصحيح مع الواقع المشاهد كمصدر للمعرفة، بحيث يستخدم ذلك التصور الإسلامي كإطار نظري لتفسير المشاهدات الجزئية المحققة والتعميمات الإمبريقية (الواقعية) وفي بناء النظريات في تلك العلوم بصفة عامة)) (ص41).
وعرفت لجنة التأصيل الإسلامي (1407هـ) في جامعة الإمام محمد بن سعود التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية بأنه:
((تأسيس تلك العلوم على ما يلائمها في الشريعة الإسلامية من أدلة نصية أو قواعد كلية أو الاجتهادات مبنية عليها، وبذلك تستمد العلوم الاجتماعية أسسها ومنطلقاتها من الشريعة ولا تتعارض في تحليلاتها ونتائجها مع الأحكام الشرعية، ولا يعني ذلك بطبيعة الحال أن تدخل العلوم الاجتماعية في إطار العلوم الشرعية وإنما المهم ألا تتعارض معها ولا تتعارض عملية التأصيل بهذا المفهوم العام مع أي تقدم علمي وتطور منهجي لا يناقض المنهج الإسلامي على أساس أن الإسلام دعا إلى العلم وحث عليه)).
وواضح من التعريفات السابقة أنه لا يوجد بينها كبير فرق وإن كان تعريف رجب الأخير أكثر دقة في التعبير عن المعنى المراد وخلواً من المترادفات. وواضح أن قول نجاتي ((بحيث تصبح موضوعات هذا العلم وما يتضمنه من مفاهيم ونظريات متفقة مع مبادئ الإسلام أو على الأقل غير متعارضة معها)) لا داعي له وهو تكرار لما سبق في تعريفه، وكذلك تعريف لجنة التأصيل فيه تكرار لا حاجة له، والجزء الأساس في التعريف هو قول اللجنة:
((تأسيس تلك العلوم على ما يلائمها في الشريعة الإسلامية من أدلة نصية أو قواعد كلية أو اجتهادات مبنية عليها))
وما ورد بعد ذلك في تعريف اللجنة هو إعادة لهذا المعنى ولكن بعبارات أخرى.
4 – التوجيه الإسلامي لعلم النفس:
اقترح هذا المصطلح فؤاد أبو حطب أولاً في ندوة علم النفس والإسلام التي عقدت في جامعة الملك سعود في الرياض عام 1398هـ، ولكن لم يتلق بالقبول يومئذ، ثم اقترحه في ندوة التأصيل الإسلامي لعلم النفس التي عقدت في جامعة الإمام محمد بن سعود عام 1407هـ في الرياض أيضاً، فقبل. كما طرح الفكرة نفسها تقريباً باحثون آخرون في أوراق قدموها إلى الندوة نفسها.
ومفهوم الوجهة عند فؤاد أبو حطب (1412هـ) مرادف للمصطلح الإنجليزي Paradigm، وهو مصطلح تعود أصوله إلى توماس كون أحد فلاسفة العلم المعاصرين. وكون في نظريته يرى أن التقدم العلمي لا يتطور من خلال التراكم ولكن من خلال نشأة ما يسميه بالأطر المعرفية التي تكون بديلاً للأطر المعرفية القديمة التي أصبحت في طور أزمة crisis.
والإطار المعرفي عند كون سابق على العلم ويؤثر فيه ويوجهه. وهو يتكون من الالتزامات العقلية والاتجاهات الأيديولوجية لدى جماعة من العلماء الذين يتسمون بالتشابه المعرفي. وفؤاد أبو حطب يشتق من هذه العملية مصطلح التوجيه الإسلامي لعلم النفس. وإذا كان تصور كون في مجمله مقبولاً، إذ من المسلم به الآن أن العلم يستند إلى أطر معرفية ومسلمات، فإن ما بناه فؤاد أبو حطب على هذه المسلمة وهو اشتقاقه من هذا العمل اسماً للحركة العلمية كالوجهة أو التوجيه لا ينهض دليلاً كافياً لإلغاء المصطلحات الأخرى وحصر الصواب في هذا المصطلح.
وقياساً على رأي أبو حطب ينبغي أن نقول التوجيه السلوكي لعلم النفس بدلاً من المدرسة السلوكية أو التوجيه الإنساني بدلاً من المدرسة الإنسانية أو التوجيه التحليلي بدلاً من مدرسة التحليل النفسي، وهذا لم يقع. نعم طبيعة العمل الذي تسعى إليه كل مدرسة من هذه المدارس هو إيجاد وجهة كما سبق، ولكن التسمية شيء آخر. وعلى هذا فلا يرى الباحث حصر التسمية في الوجهة أو التوجيه كما يرى ذلك فؤاد أبو حطب، كما لا يرى أن هذه التسمية أولى من غيرها.
هذا فيما يتعلق بالاسم أما فيما يتعلق بالمحتوى فإن معنى التوجيه لا يختلف عند أصحابه عن معنى التأصيل والأسلمة؛ فدلالة المصطلحات الثلاثة واحدة.
المراجع:
الفيروزآبادي، مجد الدين محمد (1413هـ). القاموس المحيط. تحقيق مكتب تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة. بيروت: مؤسسة الرسالة.
الرازي، محمد بن أبي بكر (1390هـ). مختار الصحاح. الطائف مكتبة المؤيد.
يالجن، مقداد (1407هـ). مرئيات ومقترحات حول خطة تأصيل العلوم الاجتماعية. (ذكر في): مركز البحوث: ندوة التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية من 5 إلى 6/6/1407هـ. أوراق العمل المقدمة للندوة، القسم الأول الرياض: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. عمادة البحث العلمي.
الفاروقي، إسماعيل (1986م). إسلامية المعرفة. هيرندون: المعهد العالمي للفكر الإسلامي.
إدريس، جعفر شيخ (1408هـ). إسلامية العلوم وموضوعيتها. مجلة المسلم المعاصر. 13، 50، ص5 – 19.
رجب، إبراهيم (1412هـ). مداخل التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية. مجلة المسلم المعاصر، 16، 63، ص43 – 79.
رجب، إبراهيم (1416هـ). التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية: المفهوم – المنهج – المداخل – التطبيقات. الرياض: دار عالم الكتب.
نجاتي، محمد عثمان (1411هـ). منهج التأصيل الإسلامي لعلم النفس. مجلة المسلم المعاصر، ع57، ص21 – 45.
الصنيع، صالح بن إبراهيم (1416هـ). دراسات في التأصيل الإسلامي لعلم النفس. الرياض: دار عالم الكتب.
قسم التربية بكلية العلوم الاجتماعية (1407هـ). محضر اجتماع لجنة التأصيل الإسلامي في العلوم الاجتماعية والإنسانية. (ذكر في): مركز البحوث: ندوة التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية من 5 إلى 6/6/1407هـ. أوراق العمل المقدمة للندوة، القسم الأول الرياض: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. عمادة البحث العلمي.
أبو حطب، فؤاد (أ 1412هـ). نحو وجهة إسلامية لعلم النفس. مجلة المسلم المعاصر 16، 62، ص135 – 184.
أبو حطب، فؤاد (ب 1412هـ). نحو وجهة إسلامية لعلم النفس. مجلة المسلم المعاصر 16، 63، ص135 – 172.
أبو حطب، فؤاد (ج 1412هـ). نحو وجهة إسلامية لعلم النفس. مجلة المسلم المعاصر 16، 64، ص99 – 140.
أبو حطب، فؤاد (1413هـ). نحو وجهة إسلامية لعلم النفس. (ذكر في) أبحاث ندوة علم النفس. المعهد العالمي للفكر الإسلامي. 129 – 241.
يتبع : .............. التأصيل الإسلامي لعلم النفس3
واقرأ أيضًا:
الاستشفاء بالقرآن في الطب النفسي المعاصر / فاعلية العلاج النفسي الديني في الوسواس القهري(2) / التغيرات العصبية الدماغية المصاحبة للخبرات الدينية / الدين والطب النفسي مشاركة