حاولت كثيرا أن أسأل معارفي وأصدقائي وغيرهم ممن ألقاهم مصادفة (على اختلاف توجهاتهم وثقافتهم) عن إيحاءات كلمة "معارضة"، وكانت الردود تدور حول المخالفة والاختلاف، والمشاغبة والمشاكسة، وحب الشهرة، والمظاهرات والعنف والاعتقالات، وقلب أنظمة الحكم، والخيانة، والمحاكم العسكرية، والمقالات العنيفة في الصحف، والخروج على النظام العام، والقلة المارقة، وشق الصف، وتكدير الصفو العام، والصراع على السلطة، ومحاولة إثبات الذات بالإختلاف (خالف تعرف.. أو تضرب)، والخروج على الصف، والناس المغامرين، والمتهورين.... إلخ؛
ومن الملاحظ أن أغلب التعبيرات تدور حول معان سلبية (مع استثناءات قليلة) وكأنها استخدامات عصرية لنفس مقولة فرعون "إنهم شرذمة قليلون وإنهم لنا لغائظون"، ووصف الحكام المستبدين في المراحل التاريخية المختلفة لمعارضيهم بأنهم "قلة مارقة"، وهذا يعكس سلبية مفهوم المعارضة أو تشويهه أو اختزاله في الثقافة العربية، وربما يستغل البعض هذا المفهوم السلبي أو المختزل أو المشوه لعزل المعارضة في كنتونات صغيرة غير فاعلة، ووصمها بالتهور وعدم المسئولية والنزق والطمع والإنحراف.
ويبدو أن هناك مشكلة تاريخية لنا مع المعارضة فعلى مدار التاريخ كان ينظر إليها على أنها حركات مارقة أو أصوات نشاذ وأو خروج على الإجماع، أو خراف ضالة تخرج عن القطيع فيأكلها الذئب، وهذا موقف ربما يحتاج لسنوات كي يتم تعديله في الوعي العام.
فإذا جئنا إلى مفهوم المعارضة من الناحية النفسية والعلمية والحياتية فإننا نجد أن المعارضة تعني رفضا كاملا لإدارة السلطة إذا ما كانت هذه السلطة غير شرعية، فهي لا ترضى منها بأي شيء وتسعى لزعزعتها من الأساس لكونها غير شرعية، ولا ترضى من هذه السلطة بأي تعديل حتى ولو كان بعضه إيجابيا، فغياب الشرعية هنا عن السلطة يجعل المعارضة في حالة رفض مطلق لا يقبل التفاهم، وهنا تكون المعارضة والسلطة في حالة استقطاب وصراع شديد لأن كل منهما يسعى لاجتثاث الآخر من جذوره وتصفيته نهائيا؛
أي أن العلاقة هنا علاقة استعبادية واستبدادية واستبعادية من جانب السلطة وعلاقة رفضية اجتثاثية من جانب المعارضة، وهذا أسوأ نموذج للعلاقة بين السلطة والمعارضة ولا يستبعد فيه العنف بكل أشكاله، ويدفع المجتمع ثمنا باهظا جراء هذه العلاقة وذاك الصراع.
أما إذا كانت السلطة شرعية فإن المعارضة هنا تعني رفضا لكيفية ما لتنفيذ إدارة السلطة أو سعيا إلى تحوير أو تعديل الكيفيات والوسائل التي تتم بها تلك الإدارة، والعلاقة هنا بين السلطة والمعارضة تكون منطقية وموضوعية، ومنضبطة بقواعد اللعبة السياسية القائمة على مبدأ التعددية وتداول السلطة بطريقة سلمية شفافة من خلال صناديق الإنتخابات، وبدلا من أن تتصارع السلطة والمعارضة لتصفية بعضهما البعض (كما في النموذج السابق) نجد أن كلا من السلطة والمعارضة يتوجهان إلى المواطن (صاحب المصلحة الحقيقي) لإقناعه بما يريد كل منهما على أمل الحصول على ثقته في أقرب انتخابات تصعد بهذا أو ذاك إلى موقع السلطة (المؤقتة بالضرورة) وليس إلى سدّة الحكم (كلمة سدّة هذه تعطي إيحاءات بسد الطريق على أي تيار آخر لتبادل السلطة ولهذا يكثر استخدامه في العالم العربي لأسباب مفهومة).
وقد تستهجن المعارضة بناءا على تصور ديني يفترض السمع والطاعة لولي الأمر حتى ولو كان فاسقا ما دام لم يمنع الناس من الصلاة (كما هو المعتقد لدى طائفة من علماء الدين يدعمهم أو يدفعهم الحكام المستبدين لترسيخ هذه المفاهيم على أساس أن الفتنة الناتجة عن الخروج على الحاكم المستبد أشد خطرا من الإستبداد في رأيهم أو رأي المستبد الذي يستثمر هذا الموقف فيعيس في الأرض فسادا واستبدادا، ثم تحدث الفتنة بعد ذلك كنتيجة طبيعية للفساد والإستبداد فيدفع الناس ثمن الفتنة مضافا إلى ضريبة الفساد والاستبداد)؛
أو ينظر إلى المعارضة على أنها خروج على إجماع الأمة، أو يقرن بينها وبين مجموعات نالتها وصمة المروق الديني أو السياسي أو الإثنين معا كالخوارج والمعتزلة والفرق الضالة أو المارقة. ونجد أن المستبدين على مدار التاريخ العربي يحبون أن تترسخ هذه المعاني لدى الناس فينظرون بريبة إلى كل مخالف أو معارض، ويستحضرون في وعيهم بشكل تلقائي كل سمات المروق والعصيان والتمرد والفتنة.
واقرأ أيضاً:
متسع جديد للدهشة / زينب مهدي: صرخة وفرصة / الحاضر والمستقبل بعيون الفن / هوامش على مقتلة باريس / 25 يناير... رابعة