سقراط وخصومه وآداب الخلاف في الرأي
أن يوجد مفكر كبير في عصر ما، فهذا شئ طبيعي، أما أن يكون هناك اثنان فهذا من النوادر والغرائب، ومن المفروض أن يدور الصراع بين أفكار وآراء كل منهما، وليس بين المصالح والغنائم، ولا يوجد ما يبرر أن يكون هناك عنف دموي في الصراع الفكري، لأن الصراع الفكري ينبغي أن يدور بين وجهتي نظر يحاول كل منهما أن يقدم الدليل على صوابه. وفي مثل هذا الصراع الرفيع، فإن العنف والرغبة في إلحاق الأذى بطرف من الأطراف والعمل على تدميره وإسكات صوته تكون كلها من الأمور الغريبة المؤلمة.
فمعنى ذلك أن مهنة التفكير لم تستطع أن تخلص الطبيعة الإنسانية من نزعتها إلى العنف وميلها إلى الحرب والقتال ورغبتها في الانفراد بالسلطان، حتى في مجال لا تسمح طبيعته بذلك، وهو مجال التفكير وتبادل الاجتهادات العقلية بين أصحاب العقول الكبيرة.
إن عالم التفكير بطبيعته يقوم على التنوع وتعدد الآراء، والاختلاف هنا لا يبرر الحرب والصراع حتى الموت، وعبارة الاستبداد الفكري تكاد تكون عبارة لا منطق فيها، لأن الفكر معناه طرح وجهات نظر متعددة ثم الاختيار بينها للوصول إلى الأفضل، وقد كان الفنان المسرحي أريستوفان يعيش مع سقراط في عصر واحد، وقد ولد بعد سقراط بحوالي عشرين عام ، وكان عصرهما هو عصر الحرية الكاملة في أثينا مما انعكس على فن المسرح، وعلى المسرح الكوميدي الضاحك بشكل خاص، فقد كان هذا المسرح يقوم على النقد بغير حدود ولا قيود للأوضاع والأشخاص.
وقد كانت شخصية أريستوفان وكتاباته تقوم على فكرة أساسية، وهي أن الكتابة الكوميدية ليست هزلا هدفه إضاعة الوقت والترفيه عن الناس وحسب، بل إن هذا النوع من الكتابة هو أداة خطيرة في يد صاحبها إذا كان حقا من الموهوبين، ولكن أريستوفان وقع في غلطة كبرى هي مهاجمته لسقراط، الذي كان معاصرا له في ذلك الزمن، وذلك حينما كتب مسرحيته المعروفة باسم "السحاب"، وهذه المسرحية تتحدث عن رجل عجوز يعيش في قلق بسبب الديون الكثيرة، وبدلا من أن يفكر جديا في العمل لسداد ما عليه من ديون، فإنه قام بالذهاب إلى المفكر والفيلسوف سقراط ليتعلم كيف يقيم البراهين والحجج التي تعفيه من آداء ديونه، ويذهب الرجل إلى سقراط بالفعل ولكنه يجد أن تعلم الفلسفة هو أمر من الأمور العسيرة عليه، ويقنع الرجل ابنه الشاب بأن يذهب إلى سقراط ليتعلم منه، فلعله أقدر على التعلم من أبيه.
ويتعلم الابن بالفعل من سقراط كيف يقيم البراهين والحجج على أي عمل يقوم به، وبدلا من أن يستفيد من هذا التعلم في مواجهة الدائنين، فإنه يعود إلى بيته ويضرب أباه، ثم يبرهن للأب بحجته القوية أنه كابن قد فعل ذلك مع أبيه لأنه يريد تربية الأب على ألا يستدين من أحد مرة ثانية!!.
وقد كانت فكرة أريستوفان تقوم على أن سقراط يفسد الشباب ويحرضهم على آبائهم ويزرع فيهم نوعا من التمرد العنيف ضد الأجيال القديمة والتقاليد السائدة، وقد كانت تلك التهمة من ضمن التهم الرئيسية التي حوكم عليها سقراط وانتهت بإصدار حكم ضده بالإعدام.
لاحظ إصرار سقراط على موقفه أثناء المحكمة وتأكيده لذاته في اختيار عقيدته وإصراره على ما يؤمن به غير آبه بعقوبة الإعدام، ورافضا حتى الاعتذار عن أفكاره من باب التقية، وكذلك تأكيده لذاته في إحساسه الدقيق بأهميته كمواطن مهم في الدولة، لاحظ أيضا إصراره على نشر أفكاره بلا مقابل وفي أي مكان، لاحظ أيضا قناعته ورفضه لزخارف الدنيا التي لن تفيده بل قد تضره، مع حرصه على الاعتدال، ومحافظته على صحة بدنه وعقله وهذا أيضا من تأكيده لذاته.
ومن الدروس شديدة الوضوح في هذه القصة التاريخية أيضا، والتي لا تحتاج إلى شرح هي أن كبار المفكرين لا ينبغي لهم أن يطلقوا العنان لأنفسهم في اتهام غيرهم من المفكرين والتحريض عليهم ولا بد أن يحصروا خلافاتهم في حدود الحوار الهادئ والخصومة الفكرية الشريفة.
* والآن وبعد أن تحدثنا عن سقراط والذي عاش قبل سيدنا المسيح عليه السلام بحوالي خمسة قرون، سأذكر تأكيد الذات في شخصية أحد أبناء هذه الأمة الأفذاذ، والذي كان عالما دينيا إسلاميا وكبيرا للقضاة لأكثر من ملك وسلطان، وذلك في فترة من أخطر الفترات التي مرت بها أمتنا الإسلامية، حين أتى التتار في أوج قوتهم من الشرق وكانوا على وشك احتلال مصر، بعد أن خضعت لهم ممالك وإمارات الشرق كلها وفعلوا بها الأفاعيل، وفي نفس الوقت كانت إمارات الصليبيين موجودة على ساحل الشام تهدد الدول الإسلامية الموجودة بالمنطقة حينئذ، ولكن هذا الرجل الأسطورة ومن فوقه فضل الله ورحمته بهذه الأمة، استطاع هذا العالم الجليل الزاهد في الدنيا وحطامها أن يقود زمام الأمور عن طريق تأكيده لذاته وشجاعته المتناهية، فوقف وقفة شجاعة في وجه الصالح إسماعيل بالشام عندما تحالف مع الصليبيين ضد قريبه نجم الدين أيوب في مصر، ثم أجج الروح القتالية للمماليك والمجاهدين من المصريين ضد حملة لويس التاسع على مصر، ثم دعم الشيخ العز قطز ومن معه من المماليك والمجاهدين للدفاع عن مصر في وجه الغزو التتاري في موقعة عين جالوت والتي أوقفت تقدم التتار نحو الغرب.
وكانت صدمة شديدة الوقع والأثر على التتار لدرجة جعلتهم يراجعون أنفسهم و سياساتهم في غزو بلدان العالم بالعسف والتنكيل والقسوة وسفك الدماء والتمثيل بالجثث، مما جعل من قادة التتار رموزا للشر وسفك الدماء في التاريخ الإنساني، إلى أن نالتهم هزيمة عين جالوت، والتي اعتنق بعدها الكثير من قادة المغول الإسلام، بل وعملوا على نشره ودعمه في الهند وماجاورها من بلدان أخرى، لقد تحول أحفاد جنكيزخان من سفك الدماء وقسوة القلب إلى الشفقة والوفاء وتخليد الحب والدليل على ذلك بناء تاج محل بالهند - وهو من إحدى عجائب الدنيا السبع - فقد بناه الملك المغولي شاه جيهان تخليدا لذكرى زوجته الجميلة ممتاز محل التي توفيت من قبله، وكان محبا لها ووفيا لذكراها، وهذه هي معجزة الإسلام في تحويل القلوب القاسية إلى قلوب رحيمة، فهلم بنا نعيش مع بعض التفاصيل التي تظهر لنا شجاعة الشيخ العز بن عبدالسلام وقوته في تأكيد ذاته.
ويتبع >>>>>>>>>>>>>>> الإصرار على المبدأ