تابع سقراط وخصومه وآداب الخلاف في الرأي
الإصرار على المبدأ في شخص الشيخ (العز بن عبدالسلام):
هو مجدد القرن السابع الهجري بلا منازع، واجه القوة والسلطان ولم يهن، واجه الملوك المنحرفين ولم يهتز، واجه المماليك وهم سلاطين للأمة فأمرهم بالإنفاق على الجهاد في سبيل الله ضد المغول، وذلك قبل أن يأخذوا درهما واحدا من العامة فانصاعوا لأمره، وهو من حفز الجند وقادتهم من المماليك بمصر على مواجهة المغول في أهم المواقع التاريخية قاطبة، ألا وهي معركة عين جالوت، وهذا من وجهة نظر المؤرخين الغربيين، لأن هذه المعركة أوقفت المد المغولي ليس على مصر ودول المغرب العربي فحسب، ولكنها في الحقيقة أوقفت المد المغولي على أوروبا أيضا، وهي الجزء المتبقي من العالم القديم الذي لم يغزه المغول، والأكثر من هذا أن الكثير من جند المغول وقادتهم قد اعتنقوا الإسلام بعد هذه المعركة، وقاموا بنشر الإسلام في ربوع كثيرة من شبه القارة الهندية.
هذا هو العز بن عبدالسلام، سلطان العلماء، الذي أعز الله تعالى به الدين، ورد به كيد الصليبيين والمغول، فياليت الزمان يجود بمثله كل مائة أو كل مائتي عام، وياليت الله يهيء لهذه الأمة رجلا مثله، في هذا الزمان، هو عبدالعزيز بن عبدالسلام بن مهذب السلمي، المغربي الأصل، الدمشقي المولد، يعود أصله إلى قبيلة بني سليم، وهي إحدى قبائل مضر العربية.
سأذكر بعض مواقفه التي تشير إلى تأكيده لذاته، واعتزازه بنفسه، ولن أتطرق إلى تفاصيل حياته، ولكن سأذكر بعضا من مواقفه المشرقة في إصراره على نصرة الحق والصبر والمثابرة في مناصرته، وذلك بالوقوف في وجه أيا من كان مغتصب ذلك الحق، ولذا قيل عنه أبو المحن، وسلطان العلماء.
تولى الأشرف موسى بن الملك العادل الأيوبي ملك دمشق في عام 626 هـ، واختلف مع الشيخ العز في مسألة من مسائل علم التوحيد، وهي: "قِدم كتابة القرآن، وقِدم صوت قارئه"، وأصر الشيخ على رأيه المتفق مع رأي أهل السنة والجماعة، وأصر الملك على مايعتقد أنه صواب، وذلك بعد أن أدخل في روعه بعض شيوخ الفرقة الحشوية: أن الشيخ العز ضال في عقيدته، فغضب الملك لدرجة أنه أرسل إلى الشيخ من يأمره باعتزال الافتاء، ووقتها هو المفتي الرسمي لدمشق، واعتزال الإمامة والخطابة بالمسجد الأموي، ووقتها هو إمام وخطيب المسجد الأموي، وأن يلزم داره، ولا يلتقي بالناس!!
وهذا يعني فرض الإقامة الجبرية عليه، فبدى على الشيخ السرور، وأعطى لرسول الملك سجادة صلاة يصلي عليها، وذلك ابتهاجا منه برفع الأعباء الشرعية عنه من فتيا وإمامة وخطابة، والتي كانت تثقل كاهله، فسيتفرغ لذكر الله في بيته، فأخذ رسول الملك سجادة الصلاة مبتهجا وقبَّلها، وكان يحب الشيخ العز، ثم ذهب للملك وحكى له ماحدث، فاندهش الملك، وقال لجلسائه: قولوا لي ماذا أفعل له؟! هذا رجل يرى العقوبة نعمة، اتركوه بيننا وبينه الله.
وبقى الشيخ قيد الإقامة الجبرية ثلاثة أيام، حتى انتصر له شيخ الحنفية بدمشق، الشيخ العلامة جمال الدين الحصيري، وكان له مكانة عالية عند الملك، فذهب مع جماعة من أصحابه إلى الملك، فوثب الملك قائما ومرحبا به، وعرض عليه الإفطار معه وكان الشيخ الحصيري صائما، فاعتذر الشيخ، وابتدر الملك قائلا: إيش بينك وبين ابن عبدالسلام؟ هذا الرجل لوكان في الهند، لكان من الواجب على الملك أن يسعى لحلوله في بلاده، لتتم بركته على البلاد، ويفتخر به الملك على سائر الملوك!!، فأطلعه الملك على فتيا الشيخ ابن عبدالسلام في موضوع قدم كتابة القرآن وقدم صوت قارئه، وقد كتب العز هذه الفتيا الطويلة، وسُميت "بالعقيدة المشهورة".
وكان الشيخ العز موقنا من أن هذه الفتيا ستجر عليه البلاء والابتلاء، ولكنه أصر على كتابتها، للرد على شيوخ المبتدعة من الفرقة الحشوية، الذين نشأوا وترعرعوا مع الملك الأشرف!، فقرأ الشيخ الحصيري الفتيا على من معه من العلماء، ثم قال: ما كتبه العز بن عبدالسلام هو اعتقاد المسلمين، وشعار الصالحين، ويقين المؤمنين، وكل ما فيهما صحيح، ومن خالف ما فيهما وذهب إلى ما قاله الخصم من إثبات الحرف و الصوت فهو حمار.
فقال الملك الأشرف: أستغفر الله تعالى مما جرى، والله لأجعلنه أغنى العلماء، وأرسل إلى الشيخ واسترضاه، وطلب من الجميع الإمساك عن الكلام في مسائل الكلام، وذلك سدا لباب الخصام، وصار يترضى الشيخ العز ويعمل بما يفتي به.
وكانت محنة الشيخ العز بن عبدالسلام الثانية مع الخائن الصالح إسماعيل، ملك دمشق، بعد وفاة أخيه الأشرف موسى سنة 635ه، حيث تولى ملك مصر، بعد وفاة الملك الكامل، ابنه الصالح نجم الدين أيوب الذي بدأ يقوي جيشه باستجلاب المماليك المحاربين من كل مكان، كما سار في الناس بسيرة حسنة، فأصبح لديه جيشا قويا، وذلك أخاف الصالح إسماعيل، ودفعه إلى الاستعانة بالتحالف مع الصليبيين في بعض الإمارات الصليبية المجاورة، واتفق معهم على أن يساعدوه في حربه ضد ابن أخيه نجم الدين في مصر، ويعطيهم في مقابل ذلك بعض المدن والقلاع التي تقع في حدود ملكه، كما يسمح للصليبيين بدخول دمشق لشراء السلاح منها!!.
وعندما علم الشيخ العز بذلك الاتفاق، وهو يومها خطيب المسجد الأموي بدمشق، المفتي العام للديار الشامية، وبمعنى آخر هو وزير الإعلام والأوقاف والشئون الدينية ورئيس أكبر جامعة دينية بالشام، وفضيلة مفتي الديار الشامية في ذلك الوقت!!، فهل منعته كل أولئك المناصب الرسمية الهامة من المجاهرة بكلمة الحق والإصرار عليها؟ أومنعه الخوف من إثارة الفتنة بين العامة كما يدِّعي كثير ممن يتولون بعض تلك المناصب الحساسة التي كان يتولاها جميعا الشيخ العز بن عبد السلام حينذاك؟!!، هل قال أن الضرورة السياسية والاستراتيجية تسمح لولي الأمر بالتحالف مع أعداء الأمة القادمين من الغرب؟
كلا، بل قام خطيبا في الناس، فذم موالاة الأعداء، وقبح الخيانة، وشنع على السلطان، وقطع الدعاء له في الخطبة، ثم استفتى الناس الشيخ في أمر بيع السلاح للفرنجة، فكان رده صريحا وواضحا، بأنه لايجوز لمسلم أن يبيع السلاح لهم، لأنهم سيستخدمونه في قتل المسلمين وحربهم.
أما رد الفعل من الحاكم الخائن الظالم فهو معروف فقد أمر بعزل الشيخ من جميع مناصبه، وأمر باعتقاله، هو والشيخ ابن الحاجب المالكي لاشتراكه مع العز بن عبدالسلام في الإنكار على فعل الملك، وأشار أنصار الشيخ عليه بمغادرة الشام فرفض، وعرضوا عليه الاختباء في مكان ما فرفض أيضا، وسجن هو وابن الحاجب، وعندما عاد الملك إلى دمشق أطلق سراحهما، ولكنه ألزم الشيخ بملازمة داره، وألا يفتي.
ويتبع >>>>>>>>>>>>>>>> تابع الإصرار على المبدأ(1)