الإصرار على المبدأ
تابع: الإصرار على المبدأ في شخص الشيخ(العز بن عبدالسلام):
وعندما ضاق الشيخ بالإقامة الجبرية قرر الهجرة إلى القدس، وحاول الوصول إلى مصر ولكنه لم يستطع، وقام الصالح إسماعيل بتجميع جيش من جنده بالشام، بعد أن انضمت إليه جيوش الصليبيين لحرب نجم الدين أيوب بمصر، وأرسل رسله للعز، وطلب منهم ملاطفته وإغراءه بعودة جميع مناصبه إليه وزيادة، وقال لهم إن استجاب لكم فأدخلوه علي، وإلا فاعتقلوه في خيمة بجوار خيمتي، ولما اجتمع رسول الملك بالشيخ أخذ يلاينه ويتودد إليه، ويمنيه بالأماني، ثم قال له أدخل على الملك وسلم عليه وقبل يده فقط لا غير، فرد عليه الشيخ المعتز بنفسه، المؤكد لذاته قائلا: "والله يا مسكين، ما أرضاه أن يقبل هو يدي (اشمئزازا من تصرفات الملك)، لا أن أقبل أنا يده!!، يا قوم أنا في واد وأنتم في واد آخر، و الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به".
فقام رسل الملك بالقبض عليه واعتقاله في الخيمة المجاورة لخيمة الملك، وكان الشيخ يقضي معظم وقته في قراءة القرآن، وفي إحدى الليالي والشيخ يرتل بصوت عذب، والملك الصالح يشرب الخمر مع حلفائه من الأمراء الصليبيين، قال لهم الملك إن هذا القسوس (ولم يقل الشيخ) الذي يقرأ القرآن في الخيمة المجاورة، أنكر علي تحالفي معكم، وحرم بيع السلاح لجنودكم، فماذا كنتم فاعلون به لو كنتم في مكاني؟ فردوا عليه وكؤوس الخمر تدور برؤوسهم: "كنا نغسل بأيدينا قدماه بالماء، ثم نشربه"!!.
وقد التقى الجيشان قرب غزة، وانتصر جيش نجم الدين أيوب رغم أنه أقل عددا وعدة، وبعد هذه المعركة توجه الشيخ العز إلى القاهرة، وخرج لاستقباله السلطان نجم الدين أيوب مع قواد جيشه وعلماء الدين في مصر، وبعد أن استقر به المقام، ولاه السلطان الخطابة بمسجد عمرو بن العاص، ثم جعله قاضيا للقضاة، وذلك على كره ومضض من الشيخ، لأنه كان يعلم أن هذا المنصب سوف يجر عليه المتاعب!، وقد وجد قاضي القضاة أن السلطان يشتري المماليك بأموال بيت مال المسلمين، وبعد ذلك يصبح هؤلاء المماليك هم القادة والوزراء، حتى أن نائب السلطان كان منهم، فأعلن الشيخ على الناس أن هؤلاء الماليك ملك لبيت مال المسلمين!، ولكي يكونوا أحرارا، فيجب على السلطان أن يدفع أثمانهم لبيت مال المسلمين من ماله الخاص، ثم يقوم بتحريرهم إن أراد ذلك، ولما علم قادة المماليك ما يقوله الشيخ قاضي القضاة استشاطوا غضبا وشكوه للسلطان، فغضب السلطان أيضا واستدعى الشيخ، وقال له بغضب:" لما تخوض في أمر لا يعنيك"، فغضب الشيخ العز، وخلع نفسه من منصب قاضي القضاة، وقرر الرحيل عن تلك القرية الظالم أهلها، وجمع أهله، ووضع متاع بيته على حمار، وزوجته على حمار آخر!.
وهذا هو كل ما للشيخ العز بن عبد السلام من الدنيا، وبدأ ركب الشيخ العز في التحرك إلى خارج القاهرة، وجماهير الناس من خلفه، فذهب أحد الصالحين الناصحين ممن يستمع لرأيهم السلطان، وقال للسلطان ناصحا: يا مولانا أدرك الشيخ واسترضه، فقد خرج والناس من خلفه، فبلدك قد فرغت من سكانها، وما فائدة أرض بلا شعب!!.
فأدرك ملكك قبل أن يذهب بذهاب الشيخ، فركب السلطان من فوره ولحق بالشيخ واسترضاه، ووعده أن ينفذ كل طلباته، وعاد الجميع إلى بيوتهم، وكانت تلك هي المحنة الثالثة للشيخ، والتي لم تنته عند هذا الحد، فقد حاول نائب السلطنة وهو من المماليك أن يثني الشيخ عن عزمه فأبى، فنوى هو ومن معه من قادة المماليك الذهاب للشيخ العز في بيته وقتله، فذهبوا إلى بيته ليلا ودقوا الباب، فخرج إليهم ابن الشيخ، والذي توجس منهم شرا، فدخل وأخبر أباه بالأمر، محاولا أن يمنعه من الخروج إليهم حتى لا يقتلوه، فقال له والده: "يا بني ليس أبوك بأقل من أن يُقتل في سبيل الله".
وخرج الشيخ العز إليهم، وعندما رآه نائب السلطنة، خارت قواه، وسقط السيف من يده، وبكى، فطمأنه الشيخ، وأعاد إليه سيفه، فسأله نائب السلطنة أن يسامحه ويدعو له، وقال للشيخ: إيش تعمل فينا؟
فقال الشيخ: أنادي عليكم وأبيعكم.
قال: ففيم تصرف ثمننا؟
قال الشيخ: في مصالح المسلمين.
قال نائب السلطنة: ومن يقبض ثمننا؟
قال الشيخ: أنا (المسئول عن بيت مال المسلمين).
وكانت تلك هي رابع محن الشيخ، والتي نصره الله فيها نصرا مؤزرا، وتم عرض المماليك للبيع في مزاد علني، وباعهم الشيخ بأعلى ثمن تم عرضه ممن شاركوا في المزاد، وقد اشتراهم السلطان نجم الدين أيوب من حر ماله، ثم أعتقهم وحررهم، وقبض قاضي القضاة الثمن وأودعه بيت مال المسلمين لينفق منه على حاجة اليتامى والفقراء والمساكين وفي سبيل الله.
فبحق السماء أي قوة نفسية تلك، وأي درجة من توكيد الذات هذه، يقول السبكي في طبقات الشافعية الكبرى:" وهذا العمل من العز لم يُسمع بمثله عن أحد، فرضي الله عنه وأرضاه"، ويقول عنه اليافعي في مرآة الجنان "إنه كان جبل إيمان، لا يخشى سلطانا، ولا يهاب ملكا، بل يعمل بما أمر الله ورسوله به، وما يقتضيه الشرع المطهر".
أما خامس محن الشيخ فكانت عند علمه بأن "معين الدين" وهو كبير وزراء السلطان، وقائد جنده، وصاحب الحظوة والكلمة التي لا ترد عند السلطان، قد اتخذ مكانا للهو والرقص والشراب والغناء ليلا بجوار أحد مساجد القاهرة!، ووقتها قد أوكل السلطان إلى قاضي القضاة الشيخ ابن عبد السلام، إعادة عمارة مساجد مصر والقاهرة، بالإضافة إلى ولاية القضاء، وكان كبير الوزراء هذا سيء الخلق، ماجنا، عابثا، وظن بسبب علو منزلته عند السلطان، أن أحدا لن يقدر عليه!
ويتبع >>>>>>>>>>>>>>>>>>>>> تابع الإصرار على المبدأ (2)