وعندما علم الشيخ العز بهذا الملهى بجوار أحد بيوت الله، أصدر أمره بهدم هذا البناء فورا بوصفه قاضي القضاة ومسئولا عن عمارة المساجد في مصر، ولحرصه على هدم هذا المنكر، ولخشيته من خوف العمال من نائب السلطنة، قام هو بنفسه ومع بعض تلامذته المخلصين بهدم هذا البناء من فوق المسجد، ولم يكتف الشيخ بهدم البناء، ولكنه أسقط شهادة نائب السلطنة، أي لا يؤخذ بشهادته، وعزل الشيخ العز نفسه من منصب قاضي القضاة، وعلم نائب السلطنة بالخبر فاغتم وغضب، ولكن ماذا يفعل لهذا الشيخ الذي يطيعه ويحبه الناس أكثر من السلطان نجم الدين أيوب!، وعلم السلطان بالأمر وكان غضوبا، عنيدا، لا يسامح على أقل خطأ ممن يعملون معه، فأقر الشيخ على استقالته من منصبه، وولاه التدريس بالمدرسة الصالحية فقط.
ولا ينسى التاريخ للشيخ أنه دخل على السلطان في يوم عيد، والسلطان في قمة أبهته وبهرجته بالقلعة، وقد دخل العُجب في نفس السلطان، فقال له العز غير هيابا: يا أيوب، ما حجتك عند الله تعالى إذا قال لك: ألم أبويء لك ملك مصر ثم تبيح الخمور؟ فبهت السلطان وقال: أو حدث ذلك؟! قال الشيخ نعم الحانة الفلانية يُباع فيها الخمر، وغيرها من المنكرات!، وأنت تتقلب في نعمة هذه المملكة، قال السلطان: إن هذه الحانة مفتوحة من عهد أبي، الملك الكامل، وما أمرت بها، فرد الشيخ المؤكد لذاته المدافع والمنافح عن شريعة ربه: هل أنت من الذين يقولون: [إنا وجدنا آباءنا على أمة و إنا على آثارهم مقتدون]، فانزعج السلطان و أمر بإبطال تلك الحانة.
وكان لابد أن يظهر لمثل هذا الرجل الأمة، المؤكد لذاته، المحترم لعلمه، الشجاع بلا سلاح مادي، بعض الكرامات، فعندما جاء لويس التاسع، ملك فرنسا، بحملته الصليبية على دمياط، في عام 624 ه، كانت سفن الصليبيين المهاجمة وسفن المصريين المدافعة تعمل بالشراع وتعتمد في حركتها على اتجاه الرياح، وكانت الرياح في بداية المعركة مع الصليبيين، و لذا كانت كفتهم هي الأرجح في بداية المعركة، والشيخ يتابع المعركة من على الشاطئ، وهو يومئذ ابن سبعين ربيعا، فتوسل الشيخ إلى الله قائلا: ياريح خذيهم، ياريح خذيهم، فانقلبت الريح على الصليبيين، بقدرة الله عز وجل.
وكانت الهزيمة الكاملة لجيش الصليبيين في المنصورة، والتي انتهت بأسر الملك لويس التاسع في دار ابن لقمان، وجعلت الصليبيين يتوقفون عن الإغارة على المشرق لأكثر من خمسة قرون، مع فقدان الأمل حتى في الدفاع عن إماراتهم الصليبية بالشام! وهنا فوائد كثيرة:
أولى تلك الفوائد أن الله قد ينصر أمة بعمل وإخلاص رجل فيهم، واتباع العوام والحكام لما ينصحهم به.
والفائدة الثانية: ألا وهي أن الثقة بالله ثم تأكيد الذات (وهما مرتبطتان)، هما اعتقاد عقلي في البداية يتبعهما سلوك تطبيقي وعملي فيما بعد، وكلما ازداد الاعتقاد ازداد السلوك العملي روعة وإبهارا، وهذا الذي نجده جليا واضحا في سيرة ذلك الشيخ العظيم، العز بن عبد السلام، والذي توج الله أعماله بموقفه الخالد من محاولة غزو المغول لمصر، فوقتها حاول المماليك –حكام مصر عندئذ- فرض الضرائب، وجمع الأموال والعتاد من المصريين، فتصدى لهم الشيخ قائلا: "يمكنكم أن تأخذوا من أموال العوام لتستعينوا على جهاد العدو، ولكن بشرط ألا يبقى في بيت المال شيء من الذهب والجواهر، وأن تتنازلوا عما عندكم من كنوز وأموال، وأن تتساووا مع العامة في العتاد و السلاح".
فانصاع السلطان قطز- وكان محبا للشيخ العز ومن تلامذته ومريديه- لأمر الشيخ وبدأ بنفسه، وتنازل عن ثروته، وتنازلت زوجته عن حليها جهادا في سبيل الله، وتبعهما باقي المماليك، والناس على دين ملوكهم، وصدقت النيات في جهاد المغول، مع التجرد لله تعالى، وتحرك جيش المسلمين بقيادة قطز، ومُشيعا بدعوات الشيخ العز، وقد منع الشيخ من مصاحبة الجيش تقدم سنه، فحينها كان قد بلغ من العمر أكثر من ثمانين عاما، وصدق القائل" وكان حقا علينا نصر المؤمنين".
لقد انهزم المغول لأول مرة منذ توحيد إمبراطوريتهم على يد جنكيز خان!، وهم الذين اجتاحوا المشرق كله في سنوات قليلة، فلقد ذاقوا وتجرعوا كأس الهزيمة، في معركة عين جالوت، والتي بحق غيرت مسار التاريخ، وأوقفت الزحف المغولي المدمر نحو الغرب، لذا فهي تعد من المواقع الحربية الفاصلة في التاريخ الإنساني. وأستطيع أن أجزم أن النصر في هذه المعركة يرجع الفضل فيه بعد الله تعالى، إلى تأثير شخصية الشيخ العز بن عبد السلام، تلك الشخصية المؤكدة لذاتها، والمؤثرة وبصورة فريدة في أبناء عصرها، ليس فقط في قادة المماليك وعلى رأسهم السلطان قطز، ولكن في خاصة الناس وعوامهم في القاهرة، وفي أنحاء مصر والشام.
والفائدة الثالثة: الهامة هي أن الجيوش لا تنتصر فقط بقوة السلاح وبراعة القادة العسكريين، ولكن أيضا بالدعم المعنوي والروحي الذي يبثه المخلصون الأوفياء من علماء الأمة العاملين بعلمهم.
والفائدة الرابعة: التي نتعلمها من حياة العز بن عبد السلام أن الشر والخراب والدمار الذي جاء به المغول إلى دول المشرق الإسلامي من حدود الهند والصين شرقا، مرورا بأفغانستان وإيران والعراق وحتى بلاد الشام تبعه الخير على يد هؤلاء المغول أنفسهم حيث أسلم الكثير منهم، و ذلك بعد أن أفاقوا من غيهم و ظلمهم إثر هزيمتهم في ملحمة عين جالوت، ليس هذا فحسب بل أصبح أحفاد جنكيز خان أباطرة وحكام بلاد الهند، ممن يعتنقون الإسلام، يعملون على نشره في تلك البلاد البعيدة.
أما الفائدة الخامسة: فهي أن تأكيد الذات ضرورة لاستبقاء القوة في الأمة، على الأقل لدى البعض من صفوة الأمة، كعلماء الدين، والمثقفين والقادة والرؤساء والحكام، والذين يتميزون باعتزازهم بكرامتهم مع التواضع وجلاء البصيرة، هذه الدرجة من تأكيد الذات التي تجعلهم يواجهون المنكر محتسبين عند الله أجورهم، بلا خوف ولا جبن، وهؤلاء هم ذخيرة الأمة في الأوقات العصيبة، كالأوقات التي نمر بها الآن، وهؤلاء هم من يغيرون المنكر بالمعروف، ويدفعون الباطل بالحق، والحق يقال أن هؤلاء الناس هم أقوى خطوط الدفاع عن الأمة والذي لو انهار وانعدم، لسقطت الأمة وانهارت، وعلى يد من؟ على يد الطامعين من الغزاة والمعتدين!، وهذا من أسوأ أنواع سقوط الأمم، وما حدث في بغداد على يد هولاكو منذ أكثر من سبعة قرون، ثم ما حدث في بغداد من سبعة أشهر فقط لهو أدل دليل على ما أقول!!
ويتبع >>>>>>>>>>>>>>>>>>>>> مَنْ يَحتاج لتأكيد الذات؟