ضرورة الشورى
إن من طبائع الأمور، ومن منطق الأشياء أن تتطلع الأمة المكلومة إلى بطل ينقذها، وتنتظر قدومه بلهفة وشوق. ذلك أمر طبيعي ومنطقي. أما غير الطبيعي فهو أن لا تُربي الأمة أبطالا من بنيها يظهرون يوم النداء ويبرزون عند الحاجة ليقودوا مسيرتها ويتقدموا صفوفها للذود عن حياضها والدفاع عن كرامتها.
إن الأمة الخنوع لا تصنع أبطالا.
إن الأمة الذليلة لا تُخرِج أعزة.
إن الأمة الضعيفة لا تنتج أقوياء.
وفي ظل الظروف الصعبة التي تعيشها أمتنا مازال الملايين من أبنائها، وبالذات في المنطقة العربية، ينتظرون البطل الذي يملأ فراغها السياسي منذ أن غاب عنها صلاح الدين، وما تزال جماهير الأمة تمنح قلوبها ودعمها كلما خالت مخايل البطولة فيمن يدعيها، حتى إذا اكتشفت بذكائها "زيف" البطل الممثل تخلت عنه بين خيبات الآمال وفجائع النكسات والنكبات، ثم يتجدد الأمل في بطل بديل، ومازالت الجماهير تنتظر متلهفة للغائب المُنتظَر.
إن البطل المنقذ لا يأتي بالصدفة ولا بالتهيؤات، فهو لا يأتي إلى الواقع إلا بجهد وإعداد وتضحية من قبل الأمة كلها، فالبطل المنقذ صناعة محلية مائة في المائة، يتم صنعه بالتربية المتفاعلة والمنزل المتماسك والمسجد الفعال ورجال الكنيسة الواعين لمصلحة أوطانهم.
البطل المُنقِذ يصنعه المجتمع ويضع مواصفاته حسب احتياجاته ليتجاوب مع واقع المجتمع ويتعامل مع تركيباته ويستوعب سلوكياته. إن أي أمة لا تستطيع أن تستورد أبطالا من غير جلدتها ومن خارج حدودها، وإن استطاعت فلن يكون البطل المستورد قادر على تفهم الواقع ولا مدركا لنفسية أبناء أمته، وبالتالي لن يكون متمكنا من تحقيق التطلعات والوصول إلى الطموحات.
وآه من دور العلماء العاملين بما يعلمون؛ فهم القدوة الصالحة ليس فقط للأبطال المُنتظَرين ولكن هم قدوة لكل أبناء الأمة، هم الذين يبنون العقول الشابة بطريقة وسطية، لا تعرف الغلو والتطرف ولا تعرف الميوعة والانفلات في كل شيء: في الدين وفي الدنيا، في دور العبادة وفي المُختبرات والمصانع؛ ومن طريف شعرنا العربي هذا الحوار الجميل بين فضل العقل وفضل العلم على الشخص، فلقد تنازعا الفضل؛ فقال العقل أنا الأفضل لأنه بي يعرف الشخص حقيقة الله عز وجل فيهتدي إليه فرد عليه العلم قائلاً: بأي منا وصف الله نفسه في كتابه العزيز، وعندئذ أفاق العقل للحقيقة وقبَّل رأس العلم وانصرف:
عِلمُ العليمِ وعقلُ العاقلِ اختلفا أيُ الذي منهُما قد أحرزَ الشرفَ، فالعلمُ قالَ أنا أحرزتُ غايتَهُ والعقلُ قالَ أنا الرحمنُ بي عُرِفا، فأفصحَ العلمُ إفصاحاً وقال لهُ بأيِّنا اللهُ في فُرقانِه اتصفا، فبانَ للعقلِ أنَ العلمَ سيدُهُ فَقَبَّلَ العقلُ رأسَ العلمِ وانصرفا وهل هناك أشرف من العلم الذي يوثق علاقة الشخص الذي يتعلمه بالله تعالى؟!، ويزيد العالم إيماناً وتواضعاً لخالق الكون؟!، سواء كان هذا العلم شرعياً دينياً أو تخصصياً دنيوياً، المهم أن يؤدي العلم إلى خشية الله تعالى، وزيادة الإيمان به سبحانه، ويفيد الآخرين من البشر.
لذلك لابد أن يجمع هذا البطل الهُمام بين فضيلتي العقل والعلم، وأن يشجع الأخيار، ويُعاقب الأشرار، وأن يسهر على مصالح رعيته، باذلاً في ذلك جل طاقته، مُحكِمأً لخططه، عارفاً وملماً بأعداء أمته، لا يفرح بالثناء ولا يستاء من النقد، لا يهتز سروراً من تصفيق المعجبين، ولا يضطرب غضباً من ضجيج المُعارضين، ليس متهالكاً على الشهرة ومتاع الدنيا (مات السلطان صلاح الدين ولا يملك من المال في خزينته إلا سبعة دنانير)، وهو شجاع عند القول والفعل، يُؤثر الشهادة في سبيل الله على أن يعيش أبناء أمته في ذل وهوان، هو لا يحقد ولا يحسد أحداً منّ الله عليه بنعمة من رعيته.
نموذج لإعداد البطل المنتظر: محمد الفاتح وشيخه
لابد من الاعتراف أن هناك فضلا لبعض علماء الأمة العاملين على الملوك والأمراء، وذلك بخصوص إعداد الأبطال بصورة عامة وإعداد البطل المنتظر بصورة خاصة، بل ولهم فضل القدوة الحسنة بأعمالهم الصالحة على أبناء الأمة كافة؛ والنموذج التالي يوضح هذه المسألة بجلاء:
رُوي أن الشيخ آق شمس الدين الذي تولى تربية السلطان محمد الفاتح العثماني رحمه الله، كان يأخذ بيده ويمر به على الساحل ويشير إلى أسوار القسطنطينية التي تلوح من بعيد شاهقة حصينة، ثم يقول له: "أترى هذه المدينة التي تلوح في الأفق؟ إنها القسطنطينية، وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلا من أمته سيفتحها بجيشه ويضمها إلى أمة التوحيد، فقال عليه الصلاة والسلام فيما روي عنه" لتُفتحٌنً القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش"
ومازال يكرر هذه الإشارة على مسمع الأمير الصبي –ولي العهد في ذلك الحين- إلى أن نمت شجرة الهمة في نفسه العبقرية، وترعرعت في قلبه؛ فعقد العزم على أن يجتهد ليكون هو ذلك الفاتح الذي بشر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، وقد كان.
فقد كان والده السلطان مراد الثاني منذ صغره، يصطحبه معه بين حين وآخر إلى بعض المعارك ليعتاد مشاهدة الحرب والطعان ومناظر الجنود في تحركاتهم واستعداداتهم ونزالهم، وليتعلم قيادة الجيش وفنون القتال عمليا، حتى إذا ما وٌلي السلطنة وخاض غمار المعارك خاضها عن دراية وخبرة.
ولما جاء اليوم الموعود شرع السلطان محمد الفاتح في مفاوضة الإمبراطور قسطنطين ليسلمه القسطنطينية، فلما بلغه رفض الإمبراطور تسليم المدينة قال رحمه الله: "حسنا، عن قريب بإذن الله سيكون لي في القسطنطينية قصراً أو يكون لي فيها قبراً".
وحاصر السلطان القسطنطينية نيفاً وخمسين يوما، وبعدها سقطت المدينة الحصينة التي استعصت على الفاتحين قبله -حوالي سبعة من أمهر قواد الجيوش الإسلامية- على يد بطل شاب له من العمر ثلاثة وعشرين ربيعاً.
ويتبع >>>>>>>>>>> أهمية تقدير الذات