الخلفية النظرية لبرامج تأكيد الذات
الفصل الرابع
سلوك تأكيد الذات لا تجده في العزلةِ، لكن بَتفاعلُ الناس مَع بعضهم البعض، ومثل هذه التشكيلات من التفاعلات الاجتماعية تمثل ِ في حياتِنا النمط السلوكي والذي له مراحل مختلفةُ:
مرحلة الطفولة:
حيث يعتبر الطفل والداه كقاعدة آمنِه و راسخة. وعند اعتماد الطفل على تلك القاعدة الأبوية ِ فإنه يُثبتُ نجاحا، فلدى الطفلُ القوّةُ والأمنُ لإعادة هيكلة منظومتِه النفسية، فيَنتقل الطفلِ إلى المراهقةِ وهو سليم ومعافى من الناحية النفسية، كما يبقى بَعْض الناسِ غير قادرين على العمل والإنجاز، وبعض الآباء أحياناً يَقُومون بطلب دور الطفل. وهذه الأرواحِ الحزينةِ تَبْحثُ عن "والد جيد" على شكل زوجِ أَو صديق، والذين يستطيعون تُزويّدهم ُ بالحبَّ الأبوي الذي فقدوه في طفولتهم؛ فهم يُريدونَ أَنْ يُغمروا بالحب لما هم عليه (بغض النظر عما هم عليه) بدلاً مِن: غمرهم بالحب لما يَعملونه من خير وما يقدمونه من خدمات للآخرين. وفي الحقيقة فإن هذا المطلبِ لا يُمْكن الحصول عليه إلا نادرا، ولذا فمثل هؤلاء الناسِ يَمْرّونَ بالحياةِ مع شعورهم بالأذى وخيبة الأمل.
العلاقة بين الانغماس في الخطيئة والفكر الطفولي:
رغم أننا ننظر إلى البشر الذين نحن منهم ونعيش بينهم، غير أننا نذعن لمشيئة الله عندما يأتي حكم القدر، وهو الحكم الذي لا يتوفر بصورة مباشرة عن طريق الوعي الذاتي والتزام الصدق لدى اتهام الذات ولدى إثبات الذات.
تحت مظلة الخطيئة، ثمة إرشادات شاملة لهذا النوع من الحكم على الذات، فالخطيئة تعتبر تجاوزا للقانون الإلهي وخرقا متعمدا لمبادئه، يشترك البشر من حيث العرف في صيغة واحدة تحدد ما يمكن اعتباره خطيئة: الغرور والحسد والجشع والكسل والغضب والشره والشهوة.
نرى البعض يقول إن العافية الأخلاقية الكاملة للفرد، إذ أن العدالة هي النتيجة الطبيعية لهذه العاقبة، تماما مثل القول إن الإنسان لا يحصد إلا ما زرعته يداه، فإذا رميت حجرا لتؤذي شخصا آخر، فإن هذا الحجر سيرتد ليسقط على رأسك. ومن حفر حفرة لأخيه وقع فيها. إذا كانت هذه الديناميكية في مثل هذا الوضوح والجلاء، فلماذا يمضي بعضهم في ارتكاب الخطايا؟ لا يختزل الأمر في أن بعض الناس أخيار وبعضهم الآخر أشرار. بل إنهم لم يصلوا لمرحلة النضوج الكامل.
تفكير الخاطئ هو أشبه بتفكير الطفل الصغير، أي أنه تفكير مزدوج يريد أن ينفذ رغباته دون تحمل العواقب، فالطفل إنسان مسؤول وغير مسؤول، عقلاني وغير عقلاني، يمكن التكهن بتصرفاته ولا يمكن التكهن بها في الوقت نفسه، لكنه لا يعي هذه الازدواجية. والاتزان الذي يتميز به سن الرشد يتطلب من الفرد تجاوز ازدواجية التفكير الطفولي، بل إن كلمة تجاوز بحد ذاتها تعني تخطي هذه الازدواجية.
إن جميع الملل تحض الفرد –بانسجام فريد– على التخلي عن مركزيته وعن مفهوم حدوده القائم على الأنا، وعلى سلوك السبيل المؤدي لتجاوز ذاته. تظل هذه النصائح والعظات مثلا أعلى عند الناس لا يمكن تحقيقه على الإطلاق، هدفا ساميا وفكرة مجردة، لا تفيد سوى في زيادة إحساسهم بالعجز واليأس، ويرجع ذلك إلى أن تجاوز الذات يتطلب قبل كل شيء بلوغ الإنسان سن الرشد. إن بعض المشكلات التي يعانيها هؤلاء لا تعود في واقع الأمر لإخفاقهم في تجاوز ذواتهم قدر ما تعود لإخفاقهم في بلوغ سن الرشد. يقول سكوت بك: السبيل نحو تجاوز الذات يمر عبر سن الرشد. لا وجود لطرق مختصرة سريعة وسهلة. حدود الأنا يجب أن تقوًى قبل أن يصبح بالإمكان تليينها، والهوية يجب أن ترسخ قبل أن يصبح بالإمكان تجاوزها. وعلى المرء أن يجد ذاته قبل أن يتمكن من فقدانها.
مرحلة المراهقة:
المُراهق يُشكّلُ منظومة سلوكية جديدة، والتي فيها يصبح هدفه واحداً من كَسْب الأمنِ مِن خلال زملائهِ بدلاً مِنْ أبويه. فأمانه يَنْجمُ عن أنْ يَكُونَ جزءا من َمجموعة، مع ضمان تقبل وموافقةَ الأشخاص الآخرين في هذه المجموعة لهِ. وبَعْض الناسِ أبداً لا يَنْمونَ أكثر مِنْ هذا. فتَبْقى عَودته إلى المجموعةِ التي ينتمي إليها هي المنظومة الأمنية التي يلجأ إليها عندما يخاف. مثل هذا الشخصِ أبداً لا يَنْمو أكثر مِنْ المراهقة. ويَبْقى شخصاً غير ناضج؛ لأنه أبداً لا يُنجزُ هويتَه الخاصةَ به، فيما عَدا نحو المجموعةِ التي ينتمي إليها، وهو دائم القلق حول نظرة الآخرين نحوهَ، بل ويُقرّر سلوكه الخاص من خلال أفكارِ الآخرين، وقد تؤدي أفكار الآخرين السلبيةِ إلى حتى رفضِ المجموعةِ التي ينتمي إليها له.
حالة من العيادة النفسية:
أتذكره جيدا هذا الشخص القسيم الوسيم الذي دخل علي في العيادة النفسية، وذلك في عصر يوم لم تكن فيه العيادة مزدحمة، ولذا كان لدي الوقت الكافي للتحاور معه، هو طالب في السنة قبل النهائية من أحدى الكليات المرموقة، لاحظت قلقه وتوتره، مع مسحة من الحزن والألم في عينيه، وقد بدأ شكواه بأن لديه نقصا في ثقته بنفسه، وهذا الإحساس يجعله لا يستطيع قول كلمة "لا"، لأي واحد من أصدقائه، أو حتى من معارفه، وإن كان هذا الطلب غير منطقي أو طلب سيء، فأردت أن أستوضح منه لأي درجة هو لا يستطيع أن يؤكد ذاته ويقول لا للخطأ فكان رده : تصور يا دكتور إن الحلاق الذي أحلق عنده عندما أتصل به قبل الذهاب للحلاقة، يطلب مني أن أحضر معي 2 كيلو كباب وأوصال.
وبالفعل أقوم بإحضار ما يطلبه مني؟ فقلت له هذا حلاق محظوظ بزبون مثلك! و الله هذه أجرة كبيرة! يا شيخ هذه أكبر من أجرة حلاقة عريس في يوم زفافه! فقاطعني قائلا: لا يا دكتور، هذه المشويات زيادة، أما أجرة الحلاقة فهي حوالي مائة جنيها مصريا!!! ولا أكذبكم القول أنني شعرت بالإشفاق على هذا الشاب الجامعي مع إحساسي بالاستفزاز من جراء تصرفاته، وكأنه أحس بما أشعر به، فاستطرد قائلا: إنني غير سعيد يا دكتور من تصرفي هذا، ولكنني لا أستطيع أن أرفض طلبا لأصدقائي ومعارفي، وأزيدك يا دكتور: فإن لي زميل بالجامعة لا يمتلك سيارة، ويطلب مني يا دكتور أن أحضره من بيته والذي هو بعيد عن منزلي وعن جامعتنا، وليس هذا فحسب، فعلي أن أقوم بعمل مقاضي أهل بيته معه بعد أن تنتهي المحاضرات بالجامعة، ولو هناك أي طلب آخر بعد الظهر يحتاج السيارة فلا مانع من أن يطلبه مني ومهما كانت ظروفي وانشغالي فلا أستطيع أن أقول له لا، والأكثر من ذلك أن هذا الصديق يغار إذا قمت بالتعرف على صديق جديد، ولي ثلاثة زملاء آخرين عندما يطلبون مني عمل أي شيء لهم، بينما إذا طلبت من أحدهم كراسة محاضرات مثلا فقد يرفض متعللا بأي سبب.
عندئذ سألته عن علاقته بوالديه، فوجدته ازداد توترا عندما بدأ يتحدث عن اضطراب علاقته بوالده، حيث أن والده رجل أعمال ميسور الحال؛ ولكن ليس بينه و بين أبنه هذا حوار بناء، فهما دائما مختلفان في الرأي، والوالد يفضل أبنه الأصغر سنا عن مريضي هذا، وهو الذي ترك دراسته الثانوية؛ ليساعد أباه في أعماله التجارية، وهو رهن إشارة أبيه في أي طلب أو عمل أي شيء يطلبه أبوه منه، وقد زاد من اهتزاز ثقة هذا المريض بنفسه محاولات أبيه المستمرة في التقليل من شأنه، وتسفيه رأيه، وكان آخر خلاف مع والده هو بشأن أخ ثالث مراهق حضر متأخرا ليلا للبيت بدون سبب منطقي، وعندما اشتد مريضي عليه في الحوار لتأخره في الحضور للمنزل ليلا ووبخه الأخ الأكبر على ذلك، ولكن بعد عودة الوالد للمنزل قام بتوبيخ الأخ الأكبر، بدلا من أن يوجه هذا التوبيخ لابنه المراهق والذي يأتي إلى البيت ليلا متأخرا!!.
وإلى هذا الحد وجدت نفسي بحاجة إلى إعادة ثقة هذا المريض بنفسه، وتدريبه على تأكيد ذاته، فطلبت منه أن يكف عن الذهاب لهذا الحلاق المستغل، فالمدينة التي نعيش فيها بها أكثر من ألف صالون حلاقة أو أكثر، وبدون مبالغة، ولو سأل عن حلاق جيد فبالتأكيد سوف يجد في هذه المدينة الكبيرة، أما مجموعة الأصدقاء المستغلين، والذين يأخذون على طول الخط من صديقهم، ولا يعطونه حتى عندما يكون بحاجة، بل قل في مسيس الحاجة لمساعدتهم وعونهم، فلا بد أن يقف مع نفسه وقفة؛ فيسأل نفسه: لماذا يقبل استغلال الآخرين له؟ وهل إذا أردنا أن نحتفظ بصداقاتنا فعلينا أن نقبل استغلال أصدقائنا لنا؟! بالطبع لا، فإن لم تقم الصداقة على الأخذ والعطاء، وتقديم المساعدة لصديقي والوقوف بجانبه عند الشدة، فهي صداقة مريضة كسيرة مختلة الأركان، وكما يُقال: "يُعرف الصديق وقت الضيق"، وهؤلاء الأصدقاء إما أن تكون لك وقفة معهم وتنبههم أنك تحب أن تأخذ منهم كما يأخذون منك، وبالذات عندما تكون بحاجة إلى مساعدة ما منهم يمكنهم أن يقدموها لك، وإما أن تبحث لك عن أصدقاء آخرين يعرفون معنى الصداقة الحقة، وإن قل عددهم.
وفي جلسة ثانية بعد أسبوعين من الجلسة الأولى، بدأت أتحدث معه عن كيفية تعديل العلاقة مع والده، فابتدرت حديثي معه بطبيعة اختلاف المفاهيم عن الحياة بين الآباء والأبناء؛ نتيجة لاختلاف الوقت والظروف والمفاهيم والتطور البشري بتعاقب الأجيال، ولقد عبر عن هذه الحقيقة الكثير من الأدباء، مثل الأديب الروسي العالمي ديستوفسكي في روايته "آباء و أبناء"، والروائي العربي المبدع إحسان عبد القدوس في رائعته "لن أعيش في جلباب أبي"، والآباء بشر قد يصيبون وقد يُخطئون، ولكن هم في الغالب الأعم يحبون أبناءهم، ويتمنون لهم النجاح والتوفيق في حياتهم، ولكن قد تختلف وجهات نظر بعض الآباء عن أبنائهم؛ وهنا إذا تعنت كل من الآباء والأبناء لآرائهم، فقد يدب الخلاف بينهما، والخلاف في حد ذاته يمكن احتوائه، فإذا أدرك الطرفان أن الحياة كلها قامت على اختلاف الآراء بين البشر، فليس هناك خطأ مطلق، وليس هناك صواب مطلق، أما التعصب لرأي أو موقف ما فهو دليل على الأفق الضيق، والنظرة السطحية للأمور، والمفترض في الأبناء أنهم أكثر مرونة من آبائهم، وأكثر قدرة على تقديم التنازلات؛ ولذا أوصت الكتب السماوية بإحسان الأبناء للآباء، ولم توص بالعكس؛ لأن الفطرة البشرية السليمة تجعل الآباء شديدي الإحسان لأبنائهم دون أن يطلب أحد من الأبناء ذلك، ولكن المشكلة أن طريقة إحسان بعض الآباء لأبنائهم قد تكون غير مرغوب فيها من جانب بعض الأبناء، وهنا لابد من توافر المرونة وتقديم بعض التنازلات من جانب هؤلاء الأبناء، وكثيرا مارأينا بعض الآباء يقدمون هم التنازلات عندما يبدأ الأبناء في إظهار بعض المرونة والتواضع وخفض الجناح لوالديهم.
وفي الجلسة الثالثة، والتي كانت بعد ثلاثة أسابيع من الجلسة الثانية، استهلها هذا المريض قائلاً: الحمد لله لقد غيرت صالون الحلاقة، ولم أعد أذهب لهذا الحلاق المستغل، أما صديقي الذي كان يستغلني وسيارتي كأنني سائق خصوصي له، فأصبحت أقول له لا أستطيع أن أذهب معك لشراء طلبات منزلك لأن أخواتي في حاجة لمن يحضرهن من مدارسهن وجامعاتهن. ولقد انزعج هذا الصديق في البداية من كلامي معه، ولكن بعد أيام قليلة وجدته أكثر احتراما لي وبالذات عندما يطلب مني أحد الخدمات، ولم تعد طلباته كثيرة ومزعجة لي كما كانت من قبل، أما الزملاء الآخرون فقد أصبحت معاملتي معهم بالمثل؛ فإذا طلبت من أحدهم تصوير أحدى المحاضرات التي لم أحضرها، وأخذ يسوف في طلبي، ثم جاء يطلب مني الاطلاع على كتاب جديد اشتريته مثلا، فيكون ردي عليه وببساطة من فضلك أحضر لي المحاضرة التي طلبتها منك أولا!!.
وبعد حوالي أربعة أسابيع من الجلسة الثالثة، سألته عن علاقته بوالده، فأخبرني أنها في تحسن، فلقد بدأ يتقبل نصائح أبيه، ويحاول مساعدته في عمل بعض حساباته خلال عطلات نهاية الأسبوع، كما ازداد اقترابه من إخوانه وأخواته الأصغر سنا، ولكنه بدأ يشكو من التردد في اتخاذ بعض القرارات، وبصورة قهرية، والتي يبدو البت فيها سهل للكثير من الأصحاء، ولذلك قمت بوصف علاج دوائي مناسب جدا في مثل تلك الحالات، وبعد حوالي شهر من ذلك حضر المريض وهو متفائل وسعيد لإحساسه بالتغير الذي حدث في ثقته بنفسه وقدرته على اتخاذ القرارات التي يجدها مناسبة لو ضعه وذاته، ولقد تكررت زياراته لي بعد ذلك، وكنت ألحظ التطورات التي تحدث له بمرور الوقت إلى الأفضل، فلقد أنهى دراسته بنجاح، وقد عرض عليه والده ابنة أخيه كعروس وزوجة لابنه الذي أصبح أكثر تفاهما وودا معه، فأعجب الابن بها، وتم زواجه منها، وبعد ذلك لم يعد هذا المريض بحاجة إلى مراجعة العيادة النفسية.
ويتبع >>>>>>>>>>> مرحلة سن الرشد