مرحلة سن الرشد
الفصل الرابع(4)
السلوك العصابي في منطقةِ واحدة لَهُ نتائج في المناطقِ الأخرى مِنْ منظومتِك النفسية، فقد يَجْلبُ تخوّفات إضافيةَ، وتَوَتّرات، أَو حالات كآبة، أو تردد، كما قد يُؤثّرُ على شعوركَ بنقص الثقةِ في ذاتك. وهذا التأثيرِ الذي يشبه الدوّامة، يُدْعى اللولبَ العصابيَ. على سبيل المثال: الخوفِ من خسران عملِكَ يُكسبك مجموعة جديدة مِن الشكوك: "ما هو الخطأ في تصرفي هذا؟ "... "لَستُ جيداًَ"... "أنا لا أَنْجحُ أبدا.!!"، هذه الأفكار تباعاً تُؤدّي إلى السلوكِ الخاطئ، والذي يُقوّي المخاوفَ والشكوكَ؛ مما يؤدّيِ إلى سلوكٍ أكثر خطأ، ولذا أنت لا تَستطيعُ الخُرُوج من ذلك اللولبِ.
بعض الأعراض التي تظهر بوضوح وتَتقدّمُ وتشير إلى العصابيين، مثل:
- يَسترضي الآخرين بشكل ثابت حتى ولو كانوا مسيئينَ إليه.
- يَسْمحُ للآخرين بمُنَاوَرَته، ودفعه إلى أوضاع لا يرغب فيها.
- هو لا يَستطيعُ التَعْبير عن رغباته المشروعةُ.
- يَهتم بحقوق الآخرين أكثر من اهتمامه بحقوقه.
- هو خجول من قبل رموزِ السلطة والرئيس.
السلوك الخطأ
عدم الثقة بالذات
المشاعر القَلِقة
لذا فهذا الشخص يُؤْذي بسهولة مِن قِبل الآخرين، والذين يَقُولونَ أن هذا الشخص لا يُطالِب بحقوقه. وهو قد يَشْعرُ بالبؤس في أغلب الأحيان، لَكنه لا يَعْرفُ لِماذا؟!. وقد يَبْدو متضايقاً لمن هم حوله لأنه أبداً مَا تَعلّم الدِفَاع عن نفسه، وعن حقوقه. كما يَبْدو وحيداً لأنه لَيْسَ لَه علاقات وثيقةُ في حياتهِ. وهو يَشْعرُ بالنّقص لإحساسه المريض بأنه دون المستوى، كما أن تجاربه محدودةَ، ولا يَستعملُ إمكانياته.
وبتَغير سلوكه للأسوأ، والذي سَيُغيّرُ تباعاً أفكاره ومشاعره، فهو يمثل اللولبَ العصابي. بينما أنت تَعمَلُ أشياءً بشكل مختلف، تَبْدو أكثرَ كفاءة؛ فيَنْقصُ استياؤَكَ، وغضبك، ومخاوفك، وأنت تَكْسبُ مشاعرَ جيدةَ حول نفسك. وهذا الذي حَدثَ مَع الشابة والشاب اللذين ذكرت قصتيهما سابقا، وذلك عندما أصبحا شخصين مؤكدين لذاتيهما، ومحُبين لنفسيهما.
يَتعلّقُ المستوى الأول في إصلاح مثل هذا السلوك العصابيِ بتوجيه نَظر المعالج السلوكي لعين ذلك الشخص، فيتصرف هذا الشخص بنفس الطريقة عندما يتحدث مع الآخرين، ويتَكلِّم بصوت مسموع بما فيه الكفاية، وذلك حتى يُسْمعَ مِن قِبل الآخرين. فالنقص في هذه المنطقةِ يُمكنُ أَنْ يَأخُذَ نتائجَ بعيدة المدى؛ فعلى سبيل المثال: إذا أنت لم تَنْظرُ إلى الشخصِ الآخرِ بينما تَتكلّمُ معه، فسَتَجِد هناك صعوبة في التواصلَ معه بسرعة. وسيصبح صوتكَ أكثرَ رتابة، واتصالكَ به مشتّت وغير مباشر، وقد يسأم الشخص الآخر، والذي يتحدث إليه الشخص العصابي وينزعج. وفي الحقيقة، فإن المرضى بهذه الصعوبةِ لَديهم العديد مِنْ مشاكلِ تأكيد الذات الأخرى، وذلك في أغلب الأحيان، وقد يصبح هذا الفعل البسيط من جانب الشخص العصابي، وهو تدريب نفسه على النَظْر في أعين الآخرين عند حديثه معهم كفيلا بجْلبِ تغييراتَ رئيسيةَ في سلوك مثل هذا الشخص.
لذا نستطيع أن نقول: "من حق الحياة علينا أن نؤمن بالاستقامة قبل أن نبدأ العمل، فما أثمر كفاح زاملته الخطايا"، فالاستقامة تؤدي إلى تأكيد الذات؛ وإذا استطعنا كأبناء أمة أن يكون أغلبنا من الصالحين الذين يبنون أنفسهم بالاستقامة في الحياة، فبالتأكيد سيكون هناك عدداً من المصلحين في مجتمعاتنا يبنون الجماعات الصالحة على الاستقامة وعلى تأكيد الذات. ولا ننسى في هذا المقام أن: "هناك صنفان بالذات إذا صلحا صلح الناس كلهم وهما: الأمراء والفقهاء"، ولكن هذا لا يمنع أبداً أن نكون نحن كأشخاص عاديين من الباحثين عن الاستقامة والصلاح؛ وكما قيل: "أحسن المصلحين هم الذين يبدأون بأنفسهم"، ومن أراد إصلاح غيره، فليصلح نفسه أولا. فإصلاح الذات كبداية لإصلاح الأمة قانون قديم جديد ولكنه قائم لا يتبدل ولا يتغير، فلا تستقل بإصلاح ذاتك ونفسك كبداية لإصلاح مجتمعك، وما أجمل هذا البيت من الشعر الذي يجعل من صلاح أبناء المجتمع صلاح للدهر ولحياة الناس، أما فساد الحياة فهو من حصاد أيدي الناس وبما كسبت أيديهم:
يقولون الزمان به فساد وهم فسدوا وما فسد الزمان
ويحضرني هنا عبارة شهيرة قصفت أذني واستوقفت بصري لمراتِ عديدة وهي: "في سن الثامنة عشر يفكر المرء في إصلاح العالم، وفي سن الثلاثين يفكر في إصلاح وطنه، وفي الأربعين يفكر في إصلاح منطقته، وفي الخمسين يفكر في إصلاح بلده، أما في الستين فيفكر في إصلاح نفسه فقط"؛ لذا فالحصيف هو من يبدأ بالعمل على إصلاح نفسه، وتحقيق الاستقامة في حياته.
يَتضمّنُ المستوى الثاني من المهارات الأساسية لتوكيد الذاتِ: القدرة على قَول "لا" عندما تُريدُ قَول "لا"، و"نعم" عندما تُريدُ قَول "نعم"، وذلك عند تقديّم الطلبات، وعند إبْلاغ المشاعرِ والأفكارِ، وكذلك عندما يطالبنا الآخرون بآداء بعض الخدمات لهم، فعندئذ يجب أن تكون طريقة الرد مباشرة ِ وواضحةِ. ولكن من المهم أن يكون رفضك منهجياً وفقاً لأسس وأصول، وليس رفض لمجرد أن يعرفك الناس - من باب: "خالِف تُعرَف"- وهنا مقولة شهيرة أرددها: "إذا أردت أن تخضع غيرك لإرادتك ، فاخضع أنت أولا لإرادتك"، "وإذا أردت أن تُطاع فأمر بما يُستطاع".
يَختْص المستوى الثالثُ بسلوكِكَ مع الناس، وذلكِ في التفاعلات الأكثر تعقيدا، مثل السلوك التكيفي في العملِ، مما يزيد من قدرتكَ على أداء العمل والحفاظ على تواصلك مع شبكتك الاجتماعية، مع تحقيقك للعِلاقاتِ الشخصيةِ القَريبةِ.
هناكّ العديد مِنْ الناسِ يَجِدونَ صعوبة في تَعديل سلوكهم العصابي، وذلك عند بداية ممارستهم لبرامج توكيد الذات. وقد يَسْألونَ أسئلةَ وثيقة الصلة بهذا النوع من العلاج السلوكي المعرفي، وتلك الأسئلة بالطبع تَستحقُّ أجوبة شافية وافية، وهنا يأتي دور الإرادة والإصرار على تأكيد الذات، هذه الإرادة التي متى تمكنت من النفوس وأصبحت ميراثا يتوارثه الأبناء عبر الآباء، ذللت كل صعب ومحت كل عقبة وقهرت كل مانع مهما كان قويا، ووصلت عاجلا أو آجلا إلى الغاية المطلوبة.
السؤال الأول: ماذا عن التَوَصُّل إلى جذورِ المشكلةِ التي تُسبّبُ الصعوبةَ النفسية َ؟ وبمعنى آخر هَلْ يمكن معالجة المريض بدون مناقشته في تجاربِ طفولته المبكرة ِ؟
الإجابة: تظهر نتائج الأبحاثَ العلمية، أنّ طرقِ التحليل النفسي، والتي يتم فيها البحث عن جذور المشكلةِ سواء عن طريق التداعي الحر (وهو ببساطة يعني: أن يتحدث المريض وهو مسترخي ومستلقي على ظهره فوق أريكة مريحة عن أدق تفاصيل حياته بحرية تامة، والأحداث التي أثرت فيه، دون تدخل ملموس من المحلل النفسي في السؤال عن هذه الأحداث)، أو غيره من تقنيات التحليل النفسي، حيث لوحظ أن بَعْض المرضى يَتحسّنونَ، بينما يَبْقى البعضُ بدون تغير، كما قد تَسُوءُ الحالة النفسية للبعض منهم!. وهذا لا يَعْني أن التحليل نفسي غير مفيد، فالتحليل النفسي يفيدنا في فهم الأسلوب الذي يمكننا أن نستخدمه في مواجهة الاضطرابات العصابية، كما يَمْس التحليل النفسي منطقةِ تطوير العلاج السلوكي والمعرفي.
السؤال الثاني: هل إذا كان لدى الشخص العصابي عرض واحد، فهل يكون علاجه وتطوره أسهل وأسرع
الإجابة: التحليل النفسي يَقُولُ نعم. ولكن على أي حال، فالنتائج التجريبية الحذرة، والتي تَجمّعتْ مِن قِبل معالجي السلوكِ تُوضح أنّ الشخص إذا َتخلّص مِنْ عرض محزن، فالاحتمالات تشير إلى شخص أصح وأسعد. وهذا لا يَعْني أنّك لَنْ يَكونَ عِنْدَكَ مشاكل أكثر فيما بعد. فمشكلة التعبير عن عرض واحد قَدْ نتج عنه سلسة من الصعوباتِ الأخرى، وذلك لأنه لديك القدرةُ الآن على مُوَاجَهَة تحديات أكثرِ قد تكون مختلفةِ. خُذْ مثالا الشخصَ الذي عِنْدَهُ بعض الخوفِ من الجنس الآخر، حيث لا يَستطيعُ مثلا التحدث مع فتاة في مثل عمره. فإذا تم إزالة مثل هذا الخوفِ من عنده؛ فقد يقيم علاقة وثيقة مَع امرأة ما، بعد أن يُعجب بها ويَتزوّجُها.
ولكنه الآن يُواجهُ مجموعة جديدة مِنْ المشاكلِ نتجت عن الواجبات الاجتماعية الجديدة الملقاة على عاتقه، وهذا الشخص كَانَ من الممكن ألا يُصادفُ مثل تلك المشاكل إذا ما بقي أعزبا. وهذا ليس معناه بالطبع أن لا نعالج عرضا نفسيا موجودا لدى المريض بحجة أنه سيجر إلى المريض أعراضا أخرى بعد علاجه، فمن حق أي شخص يعاني من عرض نفسي ما أن يسعى لعلاجه.
ويتبع >>>>>>>>>>> اللولب العصابي(2)