ثمة جدل كبير حول هذه القضية بعد إعلان "راشد الغنوشي" رئيس حزب النهضة التونسي (ذات المرجعية الإسلامية) عن تطبيق هذا المبدأ في حزبه بتونس, فهناك من أيده وهناك من اتهمه بالتراجع عن ثوابت الإسلام في كونه يشمل كل جوانب الحياة وأنه دين ودولة وأن السياسة جزء منه, وهناك من اتهمه بالنزوع للعلمانية ومن اتهمه بالبراجماتية السياسية أو حتى الخيانة.... فما هي حقيقة هذه الدعوة وأثرها؟؟.
لابد وأن نفرق في البداية بين فصل الدين عن السياسة, وفصل النشاط الدعوي عن السياسي, فالدين يدخل في تفاصيل حياتنا المتعددة, في الزواج والطلاق والميراث, والعلاقات بين الناس, والكثير من أنشطة الحياة خاصة التكافل الاجتماعي والأعمال الخيرية, وهو يشكل المصدر الأساسي للقيم السوية في المجتمع, وكثير من القوانين المنظمة لحياة الناس في المجتمعات العربية وإن كانت تختلف نسبة هذه القوانين من دولة لأخرى. إذن ففصل الدين عن السياسة غير وارد من الناحية العملية في المجتمعات العربية حتى لو تنادى به العلمانيون في تلك المجتمعات.
أما فصل النشاط الدعوي عن السياسي فقد ظهرت الحاجة إليه مع تجربة حركات الإسلام السياسي في المجتمعات العربية, حيث أثبتت هذه التجربة أن هذا الخلط أفسد العمل الدعوي وأفسد العمل السياسي, وخلق صراعات دامية على مدى سنوات طويلة بين النظم السياسية والجماعاتالدعوية التي دخلت معترك العمل السياسي حاملة معها الراية الدينية, وبدا أن الصراع بين الدين والسياسة في حين أن الصراع في حقيقته بين اجتهادات سياسية تلون بعضها باللون الديني وليس بالضرورة منطبقا مع أصول الدين وإنما هو اجتهاد أصحابه والذين تعددت توجهاتهم وتباينت تفسيراتهم للنصوص الدينية وتأثرت تلك التفسيرات بالظروف التي عاشوها, وأسقطوا ذلك على الواقع على أنه رؤية الدين ورأي الدين, في حين أن العمل الدعوي نشاط بشري قد يصيب وقد يخطئ وليس له قداسة الدين نفسه المنزل من عند الله.
وحين تفشل التجربة السياسية لجماعة دعوية ما فكأنما ينسحب ذلك في وعي الناس على الدين نفسه فيعتقد بعض الناس وخاصة الشباب أن ثمة إشكاليات في الدين نفسه وليس في سلوكيات الجماعة الدعوية فيتم تحميل الدين أخطاء اجتهادات الجماعات الدعوية.
والمفترض أن المبادئ الدينية مبادئ مطلقة صالحة لكل زمان ومكان وصالحة لكل الناس حين يؤمنون بها, والسياسة ليست كذلك, فمبادئها نسبية وتوجهاتها براجماتية ومتغيرة حسب الظروف والأحوال, وهنا لا يصح خلط المطلق بالنسبي والتعامل معهما بنفس المنهجية.
وابتعاد النشاط الدعوي عن العمل السياسي المباشر يحمي هذا النشاط من التورط في الصراعات السياسية ويجعله متاحا لكل الناس على اختلاف توجهاتهم السياسية, ويحمي أصحاب النشاط الدعوي من بطش السلطات حين تستشعر أن النشاط الدعوي له مصالح سياسية وينافسها على كرسي الحكم, فمن مصلحة النشاط الدعوي أن يكون مجردا من المكاسب والأهواء وأن يكون محايدا ومطلقا ومتاحا لكل الناس, وأن يكون مسالما ومتصالحا على الأقل مع غالبية الناس, وأن لا تجرفه أو تلوثه براجماتية السياسة.
ولو تخيلنا أن النشاط الدعوي نشط بين الناس بعيدا عن التورط المباشر في الصراعات السياسية فهو سينعكس في النهاية صلاحا في السياسة والسياسيين, إذ سيشكل هذا النشاط الدعوي قاعدة مجتمعية واسعة من الصلاح الإنساني والرشادة السلوكية تجعل الناس تنتخب الأصلح والأرشد والأقرب للمبادئ الدينية الصحيحة, وهنا يصلح الدين السياسة والسياسيين دون أن يدخل في صراع على كراسي الحكم, إذ لا يهم من يحكم بقدر ما يهم كيف يحكم.
والمشكلة تحدث حين يطمع أصحاب النشاط الدعوي في الوصول إلى السلطة بأشخاصهم أو بجماعتهم, وحجتهم في ذلك أنهم يريدون إصلاح المجتمع بما يحملونه من مبادئ دينية, وهنا تنشط قوى المقاومة لأصحاب النشاط الدعوي وتحيط بهم الهواجس والشبهات وتستنفر السلطة القائمة لمحاربتهم, ويتشكل بالتبعية نوع من التدين الصراعي والتركيبة البارانوية لدى أصحاب النشاط الدعوي الغارقين في المعترك السياسي وتترسخ لديهم معتقدات أنهم مظلومين ومضطهدين ومطاردين ومنبوذين, وهذا يزيد من حدة الأزمة بينهم وبين السلطة السياسية أو العسكرية, وربما بينهم وبين جموع الناس على اعتبارهم كتلة سياسية تريد أن توظف الدين للوصول إلى السلطة, وليسوا دعاة متجردين للمبادئ الدينية المطلقة.
وقد رأينا بأنفسنا التجارب المأساوية لتيارات الإسلام السياسي (المعتدل منها والمتطرف), وكيف دخلت في صراعات استنزفت قواها وأخرجتها عن مسارها, ووضعتها في حالة من الرفض والنبذ العنصري, وعرضتها للقهر السلطوي, في حين نجحت تجارب فصل النشاط الدعوي عن السياسي في تركيا, حين تبين أن تبني الحزب السياسي للمنهج الدعوي يعرضه لمشكلات جمة تصل إلى حل الحزب وسجن قادته عدة مرات (آخرهم نجم الدين أربكان)؛
هنا انتبه المنتمون للتيار الإسلامي لخطورة هذه الإشكالية, وطوروا مفاهيمهم عن متطلبات العمل الدعوي ومتطلبات العمل السياسي, وتحولوا من المدخل العقائدي والأيديولوجي في ممارسة العمل العام إلى المدخل التنموي, ولم يتخلوا عن معتقداتهم ومبادئهم الدينية, ولكنهم أعطوا الدعوة لأهلها يتصرفون فيها بمنهج الدعوة المطلق, وأعطوا السياسة لأهلها يتصرفون فيها بمنهج السياسة النسبي والمتغير والمتصل مباشرة بمصالح الناس (سواء كانوا مؤمنين أو غير مؤمنين)؛
وهنا نجحت التجربة التنموية التركية وتصاعد النشاط الاقتصادي, وكان النشاط الدعوي ظهيرا للنشاط السياسي مع استقلال كل منهما عن الآخر ليعطي هذا الإستقلال الفرصة للناس أن تختار الأصلح الذي يحقق لها التنمية الاقتصادية والاجتماعية دون أن يدّعي قداسة انتمائه للدين. وقريب من هذه التجربة حدث في المغرب والأردن ويحدث في تونس مما سهل عملية استيعاب تيار الإسلام السياسي في المجتمع دون صراعات مدمرة ودون استقطابات حادة يدفع الجميع ثمنها تدهورا في السياسة وتراجعا في الاقتصاد وتفككا في المجتمع.
واقرأ أيضاً:
مصر تطلق لحيتها !....مصر تحلق لحيتها!2/ الحالة النفسية للإسلاميين/ رسالة إلى العقلاء في الإخوان: لا تحملوا السلاح ولا تحرقوا مراكبكم/ صناعة الدكتاتور/ الكلمة تقتل.. والكلمة تحيي/ إسلامية بالشطة، أو علمانية بالسم الهاري!!/ العضّاضون والعضّاضات/ مستقبل تيار الإسلام السياسي/ استراتيجيات حل الصراع/ انتهاك حقوق الموتى/ عودة المتدين الطيب/ إرهاب المعتدلين/ أرجوك لا تترشح للرئاسة/ هشاشة النظام/ لماذا يقتل المصريون رؤساءهم ؟/ الزعيم الملهم/ الأثر النفسي للقفص الزجاجي/ قوة التسامح/ لولا دي سيلفا.. ماسح الأحذية صانع نهضة البرازيل