قد يتفق الناس أو يختلفون حول مواقف أردوغان الشخصية فيرفعه مؤيدوه ومحبوه إلى مصاف الأبطال التاريخيين العظام بينما يهبط به معارضوه وكارهوه إلى هوة الاستبداد والدكتاتورية والبراجماتية والاندفاعية, لذلك سوف نحاول قراءة جوانب شخصية هذا الرجل بشكل محايد بعيدا عن تحيزات المحبين والكارهين لكي نفهم لماذا وكيف أصبح أردوغان أحد أهم الشخصيات المؤثرة ليس فقط في العالم الإسلامي بل في العالم كله.
تأثير النشأة المبكرة:
ولد أردوغان في 26 فبراير 1954 في حي قاسم باشا في مدينة اسطنبول وهذا الحي له صفتان قد تبدوان متناقضتين في تأثيرهما على ساكني هذا الحي, فهو حي تاريخي مميز يتشبع بالثقافة الإسلامية وبقيم الصدق والأمانة والشجاعة والنخوة والرجولة والتعاون والإيثار والكبرياء والفخر التاريخي وعزة النفس ورفض الضيم, ولكن من ناحية أخرى هو حي شعبي فقير تختل فيه موازين القوى ويتحكم فيه الفتوات والبلطجية والخارجون عن القانون بينما يشعر بقية سكان الحي بالخطر الدائم وبالحاجة لوسائل تكيف ذكية ليتعاملوا مع ما يلاقونه من تهديدات الفقر والقوة الباطشة من حولهم, ولهذا يتميزون بالحذر وبتقدير ظروف الواقع المحيط بهم حتى لا يدخلوا في مواجهات خاسرة, وقد يحتاجون لتعلم فنون المناورة والمواجهة والكر والفر كي يحافظوا على بقائهم.
ويتميز سكان هذه الأحياء بسرعة الغضب والحساسية الزائدة تجاه أي شئ يجرح كبريائهم. وهذا الحي (كما هو الحال في كثير من الأحياء الشعبية في العالم العربي والإسلامي) يعاني أهله الفقر, لذلك يعوضون ذلك بالتمسك ببعض القيم مثل عزة النفس, والحساسية تجاه مسائل الكرامة والشرف, ويعطون أهمية للوفاء بالوعد وأن يكونوا عند كلمتهم, ويعلون من قيمة المروءة والشهامة, ويجمعون ما استطاعوا من عناصر القوة الذاتية ليحموا أنفسهم من العنف والبلطجة التي تتفشى في مثل هذه البيئات, وينزعون إلى التدين ليقربهم من خالق الكون القادر على منحهم القوة والصبر والسكينة والرضا وتحمل مصاعب الحياة ويعطيهم الإحساس بالقيمة والأمان.
وسكان هذه المناطق يبدون طيبون ومسالمون ومتسامحون حين تكون موازين القوة في غير صالحهم بينما تظهر لديهم سمات الغضب والتحدي والمواجهة والكبرياء والعظمة حين يثقون في قدرتهم على المواجهة. والأذكياء منهم يكونوا شديدي الطموح حيث يحركهم الوعي بالفقر والضعف نحو العمل الجاد المستمر ليرتقوا في السلم الاجتماعي ويمتلكوا عناصر القوة التي تنتشلهم من هذا الوضع الاجتماعي المتدني.
يقول أردوغان: "عندما أتأمل سكان حي (قاسم باشا) في تلك الفترة كنت ألاحظ أنهم أصحاب مواقف ورجولة، لم يكونوا من الذين يقولون القول ثم يتراجعون عنه أو يغيرونه فيما بعد، في تلك الفترة كانت ثقافة التعاون والتلاحم بين الجيران هي السائدة، كنا في زقاقنا نعيش وكأننا عائلة واحدة كبيرة".
وفي هذه العبارة يعكس أردوغان الجانب الإيجابي في الحي الشعبي, وهذا صحيح وموجود ولكن هناك أيضا جوانب سلبية ذكرناها آنفا. ويبدو أنه قد حدث تفاعل بين الجوانب الإيجابية والجوانب السلبية لحي تاريخي متميز وهو أيضا حي شعبي فقير داخل نفس أردوغان وهنا يحدث اختيار لدى صاحب الشخصية من بين القيم المتاحة في هذه البيئة الثرية والمتناقضة والمزدحمة في آن. وهذا ما يجعل أردوغان شخصية ثرية ومثيرة للجدل وأحيانا تبدو متناقضة لدى أصحاب الرؤى والمواقف الأحادية, إذ يقولون: كيف يكون إسلاميا وعلمانيا في نفس الوقت, وكيف يكون صاحب مبادئ دينية مطلقة وبراجماتيا في نفس الوقت, كيف يتعاون مع إسرائيل عسكريا واقتصاديا ويعاديها في نفس الوقت, كيف يكون ديموقراطيا ليبراليا ومحافظا ومستبدا برأيه في نفس الوقت.
فقره وعمله المبكر:
كان أبوه بحارا فقيرا على بعض سفن نقل الركاب, لذلك اضطر الطفل أردوغان للعمل مبكرا حيث قام ببيع عصير الليمون والبطيخ في شوارع اسطنبول وهو في المرحلة الابتدائية والإعدادية لكي يساعد أباه على النفقة على أسرته ويوفر احتياجات تعليمه, ثم عمل وهو في المرحلة الثانوية في بيع السميط حيث كان يشتري السميط الجاف بسعر زهيد ثم يقوم بتسخينه على البخار ويبيعه بسعر أعلى, ومن هنا تعلم مبكرا مبادئ التجارة والاقتصاد والاعتماد على النفس وتعلم مبكرا مهارات كسب العيش والجد والاجتهاد, وأعطاه ذلك تجربة الاشتباك والإندماج في الحياة ووسط الناس وفهم نوازعهم والقدرة على التعامل الفعّال معهم, وأعطاه قدرة على مواجهة الصعاب وصلابة في الحياة ستظهر كلها في أسلوب ممارسته للسياسة.
الجانب الديني في التنشئة:
وكعادة الفقراء في المجتمعات الإسلامية وخاصة في الأحياء الشعبية يميلون إلى تعليم أبنائهم تعليما دينيا, فالدين لديهم يحمل قيمة أعلى مقارنة بالطبقات الأرستقراطية التي ربما تجد في حياتها المرفهة ما يشغلها عن الأمور الدينية. وهنا يلتحق أردوغان بمعهد "إمام خطيب" وهو معهد يجمع بين الدراسات الدنيوية والدراسات الشرعية, وينمي في طلابه الجمع بين متطلبات الحياة الدنيوية المعاصرة جنبا إلى جنب مع ترسيخ المعتقدات والقيم والأخلاق الدينية, وبهذا يحدث التكامل بين الدنيا والآخرة. هذ النشأة شكلت قاعدة دينية صلبة في شخصية أردوغان, وحين كبر وأصبح اختيار الجامعة بإرادته اختار كلية الاقتصاد وعلوم الإدارة, وهو اختيار يبدو دنيويا علميا صرفا, ولكن يبدو أن أردوغان كان يضع الروافد المختلفة في بوتقة واحدة لتتفاعل وتنتج تركيبة متوازنة بين اهتمامات الدنيا وقيم الدين.
وهو قد كرر هذه المرحلية (وهذا التحول من الديني إلى الدنيوي-الديني) في التعلم مع أستاذه أربكان في مرحلة لاحقة إذ تتلمذ على يديه في البداية انطلاقا من فلسفة دينية أيديولوجية, ثم في مرحلة أكثر نضجا وجد أن هذا المدخل الأيديولوجي الديني لا يصلح بهذا الشكل الأحادي للدخول في عوالم السياسة وفي المحيط المجتمعي الأوسع فقبل العمل تحت المظلة العلمانية.
وفي المرحلة الابتدائية سأل المدرس الطلاب عن كيفية أداء الصلاة فأجاب أردوغان إجابة صحيحة ووافية, فطلب منه المدرس أن يمارس ذلك عمليا أمام زملائه وبسط له صحيفة يصلي عليها, ولكن الطفل الصغير أردوغان رفض أن يصلي على الصحيفة نظرا لاحتوائها على صور لنساء سافرات, وهذا يعكس القدرة على التفكير النقدي وعلى شجاعة إبداء الرأي واتخاذ المواقف في هذا السن المبكر, ومن هنا أطلق عليه المدرس لقب "الشيخ رجب" وكان هو يعتز بهذا اللقب.
ولم تتوقف التنشئة الدينية عند الأب المتدين والأسرة المتدينة والمعهد الديني "إمام خطيب", ولكن استمرت التغذية الدينية على أيدي أساتذة مثل نجم الدين أربكان وآخرين من المفكرين والعلماء والأدباء والشعراء الإسلاميين, ومنهم استكمل أردوغان وعيا أوفر من ذلك الذي منحه إياه والده البحار الفقير البسيط ومعهده الديني المتواضع. وقد اكتسب أردوغان من هذه التنشئة القدرة على الخطابة والتي سهلت له عمله السياسي بعد ذلك وأيضا القدرة على التواصل العاطفي مع شعب لديه جذور دينية تقمعها قلة علمانية مدعومة بقوة عسكرية وأسطورة تاريخية أتاتوركية.
هذه الشخصية المتشبعة بقيم دينية وتاريخية من جانب وقيم حارة شعبية فقيرة من جانب تلتحم في هويتها مع غالبية المجتمع التركي الساحقة, ولكنها ستواجه سلطوية علمانية محروسة بقوة عسكرية هائلة ومسيطرة ودكتاتورية أتاتوركية ترفض ظهور الهوية الدينية في الفضاء العام فضلا عن كراسي الحكم والإدارة, وهنا سيبدأ الصراع طوال حياة أردوغان وسنرى فيما بعد كيف سيتعامل مع هذا الصراع الديني العلماني العسكري انطلاقا من خلفيته التي ذكرناها آنفا.
وإذا أردنا أن نأخذ مفتاحا لشخصية أردوغان من فترة النشأة المبكرة فهو "المتدين البراجماتي المثابر".
أردوغان لاعب الكرة:
عشق أردوغان لعبة كرة القدم, حيث هي لعبة الفقراء في الأحياء الشعبية, ولكن يبدو أن كرة القدم لم تكن لعبة للتسلية لدى أردوجان فشخصيته الجادة المتطلعة المثابرة الطموحة لا تغرق في التسلية الفارغة, وإنما كانت الكرة هي المجال المتاح له في هذه المرحلة لإثبات تميزه ولتحقيق انتصاراته وللشعور بمتعة الانتصار على الخصم وتسديد الأهداف في مرماه والحصول على متعة التشجيع والإعجاب الجماهيري. وقد اكتسب أردوغان من ملاعب الكرة عقيدة العمل الجماعي, وبذل الجهد الجبار, والإصرار على الإنتصار حتى آخر لحظة في المبارة, وتحمل الهزيمة أو الفشل بروح رياضية في بعض المراحل, ومهارات التكتيك والمناورة والخداع لحين التمكن من الخصم واستغلال ثغراته للوصول إلى المرمى وتحقيق الهدف والاستمتاع بتصفيق وإعجاب الجماهير الغفيرة. وتعلم أيضا الانضباط والتعاون والصبر والرد السريع المفاجئ والاندفاع وقت الضرورة لإرباك الخصم وكسر شوكته.
ولهذا لم يكتف أردوغان باللعب الترفيهي في حواري وأزقة اسطنبول بل انتقل من الهواية إلى الاحتراف ووصل إلى أعلى مستوى في نادي اسطنبول, ولكنه ترك هذا المجال حين أدرك أنه لا يحقق كل طموحاته الشخصية والدينية والسياسية, كما أن والده لم يكن راضيا عن انشغال ابنه بكرة القدم حيث كان الآباء في ذلك الوقت يعتبرون كرة القدم نوع من تضييع الوقت والتسلية الفارغة لا تليق بأصحاب الاهتمامات الكبرى والهمم العالية, وكان يريد أن يتفرغ ابنه لاستكمال تعليمه العالي وهذا ما استجاب له أردوغان, وليس صحيحا كما يدّعي كارهو أردوغان من أنه كان لاعب كرة فاشل, إذ لو كان كذلك ما تدرج في الصعود حتى وصل إلى النادي الأول في اسطنبول وفي تركيا ولما استمر ما يقرب من إحدى عشرة سنة في هذا المجال.
وحول ذلك يقول أردوغان: كنت ألعب كرة القدم بشكل هاوٍ ولحين اختياري في منتخب شباب اسطنبول، ثم انتقلت بعد ذلك إلى فريق بلدية اسطنبول، وبفضل ذلك صرت موظفاً في البلدية واستطعت الزواج وإعالة أسرتي.
ويضيف: "كرة القدم علمتني أشياء كثيرة منها: التفكير الجماعي والتعاون والعمل بروح الفريق"، ويؤكد: "إن استطعتم العمل بروح الفريق؛ عندها بإمكانكم الوصول للنجاح".
ويقول محمد بارلاسا الكاتب في صحيفة الصباح التركية أن لعبة كرة القدم تركت في أردوغان خصالا أفادته كثيرا في حياته السياسية فيما بعد، فلأردوغان: ردود فعله قوية جدا، فلو أن أحد خصومه من الأحزاب نطق بكلمة ما فإنه يجيبه في نفس اللحظة تماما مثل لاعب كرة القدم تكون له ردود فعل سريعة جدا.
وبعض المحللين يرون في شخصية أردوغان درجة من العصبية والانفعالية والاندفاعية والقابلية للاشتباك والدخول في مواجهات حادة مع الخصوم السياسيين ويستشهدون في ذلك بخروجه من اجتماع مؤتمر دافوس احتجاجا على رئيس الجلسة الذي لم يعطه وقتا كافيا للرد على شيمون بيريز تعليقا على أحداث غزة ومواقف أخرى كان يبدو فيها أردوغان حادا وهجوميا أكثر مما يتوقع في التعبيرات الدبلوماسية, وقد يكون بعض ذلك صحيحا, ولكن ذلك لا يخرج عن سيطرته, إذ يوظفه لتحقيق أهدافه في كثير من الأحيان.
تأثره بالزعيم أربكان:
كان أربكان يعرف بـ "الخوجه" وهي تعني في التركية "المعلم" فقد كان أستاذا لجيل كامل في تركيا, وكان هو أقوى زعيم في تيار الإسلام السياسي, وكان لديه خبرة هائلة في العمل السياسي التنظيمي المؤسسي مع خلفية دينية قوية وراسخة. وقد لمس أربكان في أردوغان النبوغ والطموح والابتكار والقدرة على العمل الشاق والجاد فمنحه الثقة، وأعطاه الفرصة ليصل لمنصب رئيس فرع حزب الرفاه وهو في الخامسة والثلاثين، ثم رئيس بلدية اسطنبول أكبر بلدية عامة بتركيا عام 1995. وأحدث أربكان في حياته تغييراً نوعيا في مفهومه عن العمل السياسي، حيث بدأ يعرف طريقه إلى العمل التنظيمي عندما تدرّب على السياسة مع حزب السلامة الوطني، وفي سنة 1975 اضطلع أردوغان بقيادة الجناح الشبابي المحلي للحزب، الذي تأسس في 1972 بعد إغلاق حزب «النظام الوطني».
ولكن علاقة أردوغان بأستاذه أربكان لم تكن علاقة تبعية تسليمية, أو طاعة عمياء أو انبهار بالزعيم, وإنما تعلم منه ماشاء أن يتعلم ثم اكتشف أن طريقة أربكان لن تصلح ولن تنجح في الظروف التي تمر بها تركيا والعالم, فقد كان أربكان يتعامل مع السياسة من منطلقات أيديولوجية دينية دعوية, وكان هذا يعرضه لموجهات خطيرة مع النخبة العلمانية المتحكمة والتمترسة خلف سلطة الجيش, وقد أدى هذا إلى حل الأحزاب الإسلامية وإقالة الحكومة والانقلاب على نتائج الانتخابات أكثر من مرة, لذلك أدرك أردوغان بذكائه أن المدخل الديني الأيديولوجي غير مناسب رغم حسن النوايا, لذلك انشق هو وعبدالله جول ومجموعة من الشباب عن حزب أربكان ليؤسسوا حزب العدالة والتنمية من منطلقات تنموية وتحقيق العدالة الاجتماعية لجميع الأتراك بصرف النظر عن انتماءاتهم.
وكانت إحدى نقاط الضعف لدى أربكان وأتباعه أنهم كانوا غير قادرين على الانفتاح الواسع على المجتمع التركي والتعامل مع مختلف الاتجاهات السياسية والفكرية في حين كان أردوغان قادرا على التعامل مع كل الطبقات والاتجاهات حتى أنه في مرحلة ما قبل الانتخابات كان يزور أماكن تجمعات الفقراء (الذين يعرفهم جيدا) واليساريين والشيوعيين. وقد قام بزيارة الأحياء التي اشتهرت بممارسة الدعارة وحصل على أصواتهم كما حصل على أصوات فئات عديدة من الشعب التركي, ولم يصدر بعد نجاحه أمرا بإغلاق بيوت الدعارة ولكنه وفر لهم بدائل للحياة الكريمة مما أدى إلى تقلص ممارسات الدعارة في المجتمع.
وقد تعلم أردوغان الكثير من أخطاء أربكان ومكنه ذكاؤه ومهاراته وبراجماتيته من تجنب مواجهات كثيرة مع الجيش ومع النخبة العلمانية فقبل بالقالب العلماني للدولة التركية وكيف أوضاعه معه (رغم ميوله ومعتقداته الدينية), وكيّف أوضاعه مع من يمجدون الثوابت والمبادئ الأتاتوركية, ولم يستنزف قواه وقوى المجتمع في صراعات مذهبية أو طائفية أو فكرية أو عقائدية, وإنما اهتم بجانب التنمية الاقتصادية وتحسين أحوال الناس, ومن هنا التف حوله الناس وزادت شعبيته وتواصلت نجاحاته في الانتخابات المتعاقبة.
التدرج والتمكن في العمل السياسي:
لم يقفز أردوغان إلى السلطة فجأة, ولكنه تدرج في العمل السياسي منذ صباه المبكر فقد بدأ يقرأ في السياسة منذ المرحلة الإعدادية, ثم انضم للاتحاد الوطني للطلبة الأتراك, وبعد ذلك التحق بحزب السلامة الوطني ليكون رئيسا للتنظيم الشبابي في الحزب.
وكانت هذه الأحزاب يتم حلها بقرارات سلطوية, إلى أن وصل إلى حزب الرفاه وعين رئيسا لشعبة الحزب في مدينة اسطنبول. ونجح في انتخابات المحليات ليصبح عمدة اسنطبول وهو في الأربعينيات من عمره ويحدث طفرة هائلة في المدينة التي كانت تعاني من تراكم القمامة في كل مكان وتلوث ونقص المياه الحاد والفقر والديون والجريمة, فنقلها في سنوات قليلة إلى واحدة من أجمل مدن العالم وأصبحت ذات جاذبية سياحية وتجارية هائلة لما تتمتع به من جمال ونظافة وعراقة وأصالة. وهنا شعر المعارضون لأردوغان ولحزب الرفاه بالخطر فاقاموا عليه دعوى بأنه يدعو للكراهية والعنصرية الدينية بناءا على أبيات من الشعر ألقاها في أحد لقاءاته الجماهيرية وهي أبيات ًللشاعر التركي المعروف، ضياء كوك ألب، قال فيها::
مساجدنا ثكناتنا *** قبابنا خوذاتنا
مآذننا حرابنا *** والمصلون جنودنا
هذا الجيش المقدس *** يحرس ديننا.
بعد هذه الأبيات الشهيرة، مثًل أردوغان أمام المحكمة؛ بتهمة تحدي النظام العلماني، وحُكم عليه بالسجن 4 أشهر، كما مُنع من ممارسة العمل السياسي لمدة 5 أعوام.
وفي اليوم المحدد لسجنه توافدت الحشود إلى بيته المتواضع، من أجل توديعه وأداء صلاة الجمعة معه في مسجد الفاتح، وبعد الصلاة توجه إلى السجن برفقة 500 سيارة من الأنصار! وفي تلك الأثناء، وهو يهم بدخول السجن التفت إلى الجماهير قائلاً: "وداعاً أيها الأحباب، تهاني القلبية لأهالي اسطنبول وللشعب التركي وللعالم الإسلامي بعيد الأضحى المبارك، سأقضي وقتي خلال هذه الشهور في دراسة المشاريع التي توصل بلدي إلى أعوام الألفية الثالثة، والتي ستكون إن شاء الله أعواماً جميلة، سأعمل بجد داخل السجن وأنتم اعملوا خارج السجن كل ما تستطيعونه، ابذلوا جهودكم لتكونوا معماريين جيدين وأطباء جيدين وحقوقيين متميزين، أنا ذاهب لتأدية واجبي واذهبوا أنتم أيضاً لتؤدوا واجبكم، أستودعكم الله وأرجو أن تسامحوني، وتدعوا لي بالصبر والثبات كما أرجو أن لا يصدر منكم أي احتجاج أمام مراكز الأحزاب الأخرى، وأن تمروا عليها بوقار وهدوء، وبدل أصوات الاحتجاج وصيحات الاستنكار المعبرة عن ألمكم، أظهروا رغبتكم في صناديق الاقتراع القادمة".
وأدرك مدى الاستفادة التي تحققت له خلال فترة تواجده بالسجن، وكيف طرأ تحول كبير على طريقة تفكيره. ويقول عن ذلك: "حياة السجن تعطيكم الفرصة لمحاسبة أنفسكم، تجعلكم تتفكرون: ماذا كنتم قبل هذه الفترة؟ ماذا حل بكم وقتها؟ ماذا ستصبحون؟. بعدها تأتيكم لحظة تدركون فيها جيدا أنكم لا شيء، وأن القوة لله وحده. عندما تكون عائلتكم وأطفالكم في الخارج؛ عندها تصبح مشاعركم أقوى، لذلك كان علماؤنا يصفون حياة السجن بـ (المدرسة اليوسوفية) نسبة إلى سيدنا يوسف - عليه السلام -. للأسف هذا المفهوم لا يعيه الجميع".
ويضيف: "ما حدث في تلك الفترة.. جعلني أدرك جيدا بأن علينا أن نصلح الفكر السياسي الموجود. أدرك بأن علينا إن أردنا أن نخطو في الاتجاه الصحيح أن نغير من أفكارنا، وأن نضع الإصلاحات قيد التنفيذ، فكرت هناك بما يقوله الشعب، إذا كان الشعب يريد حلا ومخرجا، فعلينا أن نخطو مثل هذه الخطوات".
كان سجن أردوغان وهو في قمة نجاحه وتألقه فرصة للكثير من المراجعات والنضج في العمل السياسي, وربما كانت هذه الفترة هي التي تمخض عنها تغيير استراتيجيات العمل لديه وانشقاقه تنظيميا عن أربكان وتأسيس حزب العدالة والتنمية بمفاهيم وآليات مختلفة.
مهارات التواصل:
يتمتع أردوغان بمهارات تواصل عالية فلغته سليمة وغنية بالمفردات, وربما يرجع ذلك لتنشئته في معهد "إمام وخطيب" الديني كما يرجع إلى تدرجه في العمل السياسي منذ صباه, أما لغة الجسد لديه فتتلخص في كونه فارع الطول معتدل القامة رياضي التكوين (ربما بسبب خلفيته الرياضية كلاعب كرة قدم), يحرص على الوقوف منتصبا ولا ينحني عند السلام على أحد, يرفع رأسه ليعطي إحساسا بالعزة والشموخ والكبرياء وحركات يديه ونظرات عينيه تعكس سلطوية واضحة.
يحرص على توكيد كلماته وعباراته ولديه النزعة الأبوية التقريرية التوجيهية. تكون لغته الكلامية والجسدية في بعض الأحيان هجومية وحادة ومتجاوزة التوقعات الدبلوماسية.
يبدو واثقا في نفسه إلى حد الغرور أحيانا, وقليلا ما تبدو عليه علامات القلق أو الخوف, بينما تظهر علامات الغضب في مواقف المواجهة.
على الرغم من نشأته الشعبية المتواضعة والفقيرة إلا أن هيئته وملبسه يعكسان مظهرا أرستقراطيا راقيا فهو حريص على رشاقته وأناقته وشياكته ونبرات صوته واختيار كلماته, ولكن حين يستغضب تفلت منه عبارات قاسية ولاذعة.
براجماتيته:
على الرغم من تدينه الواضح وانتماءاته العقائدية طوال تاريخه, إلا أن أردوغان يتمتع ببراجماتية عالية, وربما كانت هذه البراجماتية سببا في نجاحه وتفوقه على أستاذه أربكان الذي لم تكن لديه هذه الصفة بهذا القدر, فبهذه البراجماتية استطاع أن يتعاطى مع تناقضات كثيرة في العمل السياسي, فقد تقبل العلمانية كأمر واقع لقالب الدولة ومجريات الحياة اليومية على الرغم من تعارضها مع مبادئه العميقة ولم يشتبك معها ولكنه هادنها وواصل تقوية حزبه وحكومته وشعبه, وتقبل تسلطية الجيش رغم معاناته منها طوال حياته وإحساسه الدائم بجاهزية الجيش (أو بعضه) للانقضاض على السلطة وإجهاض التجربة الديموقراطية, ولكنه حرص بالتدريج على تقليص تحكم الجيش في الحياة السياسية والمدنية ونجح في ذلك كثيرا, وتقبل التعاون مع أمريكا رغم أنه يرى سياساتها المعادية لمصالح شعوب المنطقة ولكنه استفاد من طمأنتها تجاه وجود حكومة ونظام تركي ذات توجهات إسلامية, وتواصل مع الإتحاد الأوروبي وسعى للانضمام إليه على الرغم من اختلافه مع كثير من المنطلقات الغربية, وتواصل مع الدول والمجتمعات العربية على الرغم من الحساسيات التاريخية المعروفة, وتواصل مع إسرائيل سياسيا وعسكريا واقتصاديا على الرغم من المواقف الحادة تجاه عدوانها على الفلسطينيين.
قد يرى البعض هذا تناقضا في المواقف السياسية وقد يراه البعض الآخر ذكاءا سياسيا مكن أردوغان من التعايش وتحقيق أهدافه وأهداف شعبه في التنمية حتى أصبحت تركيا واحدة من الدول العشر الكبرى اقتصاديا وسياسيا وعسكريا.
التقدير العالمي:
نجح أردوغان على مدار السنوات العشر السابقة في إثارة إعجاب شعوب العالم بكامله على اختلاف أعراقهم وأديانهم وتوجهاتهم الفكرية، بل ومستوياتهم الاجتماعية والثقافية.
ففي عام 2006م حصل أردوغان على "وسام التتار" من رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين، وفي فبراير 2007م حاز جائزة "رعاية الحوار بين الثقافات" من الرئيس التتري منتيمير شايمييف. وفي أكتوبر 2009م حصل أردوغان على وسام "الشرف الرفيع" من دولة باكستان، كما حاز في مارس 2010م على جائزة "الحريري" من جمعية رفيق الحريري اللبنانية.
كذلك فقد منحته المملكة العربية السعودية "جائزة الملك فيصل" العالمية لخدمة الإسلام لعام 2010م ..
أمَّا على الصعيد الإعلامي فقد تم اختياره ليكونَ رجلَ عام 2010م بغالبية ساحقة؛ وذلك في نتيجة تصويت أجراه موقع وكالة "سي إن إن" الإخبارية الأمريكية، وقالت الشبكة في تعقيبها على نتيجة الاستبيان: إن اختيار أردوغان يعكس المزاج العام للشارع العربي، الذي يشهد صعود نجم أردوغان والدبلوماسية التركية عمومًا، لا سيما منذ أحداث الهجوم على "أسطول الحرية".
كما اختارته مجلة "تايم" الأمريكية في عام 2010م – للمرة الثانية- من بين أكثر 100 شخصية نفوذًا في العالم.
أردوغان وأمراض السلطة:
حين يعيش أي شخص سنوات طويلة عل مقاعد السلطة تصيبه حتما بعض أمراضها, وهذا ما يلحظه المحللون من تغير في شخصية أردوغان في السنوات الأخيرة حيث أصبح أكثر حدة وعصبية وغضبا في التعامل مع معارضيه وخصومه سواء في الداخل أو الخارج, وزادت صفة الثقة والكبرياء لديه لتتحول إلى غرور واضح في بعض المواقف, وأصبح أكثر ضيقا بالمعارضة وحدة في التعامل مع المعارضين بعد أن كان يتغنى بالديموقراطية وقبول الآخر, وأصبح أكثر ميلا للسيطرة والتحكم, وأكثر صراحة في التعبير عن قناعاته ومعتقداته الدينية في المجال السياسي.
والاختبار الأصعب يمر به أردوغان في هذه الأيام حيث فشل الانقلاب العسكري ضده في 15 يوليو 2016م, وأحاطه الشعب (أو غالبيته) بالخروج إلى الشوارع لرفض الانقلاب, وبدا أردوغان غاضبا حادا حازما ومتوعدا بالقصاص من الانقلابيين, وكانت مشاهد القبض عليهم قاسية ومهينة في عقيدة العسكريين, وتم القبض على أعداد كبيرة من الجيش والقضاء ووزارة التعليم واتسعت دائرة الاشتباه بقوة, وصرحت حكومته برغبتها في استصدار قانون يحكم بالإعدام على الانقلابيين. هذه كلها إشارات إلى تغلب صفات السلطوية وربما الدكتاتورية على أردوغان, فهل هذه مجرد استجابة غاضبة في ظروف استثنائية أم تغيرات ثابتة ستشكل شخصية أردوغان في المرحلة القادمة فتستنفر ضده دوائر تتسع لتعارضه وربما لتعاديه؟....
هذا ما ستكشف عنه الأيام القادمة. وقد يغضب محبوه من الحديث عن هذه التغيرات في شخصيته ولكننا نذكرهم بقصة عزل خالد بن الوليد رضي الله عنه بواسطة الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو في قمة انتصاراته العسكرية, وقد كان ذلك مخافة الافتتان بخالد بن الوليد وبسبب ملاحظة بعض التصرفات انتقدها فيه عمر بن الخطاب, وهذه ليست مقارنة بين خالد بن الوليد وأردوغان ولكنها دليل على أن البشر هم البشر معرضون للتأثر والتغير بما يحيط بهم من أحداث, وأن تقديس الزعماء والقادة أو الافتتان بهم هو أخطر ما يصيب الشعوب.
واقرأ أيضاً:
مصر تطلق لحيتها !....مصر تحلق لحيتها!2/ الحالة النفسية للإسلاميين/ رسالة إلى العقلاء في الإخوان: لا تحملوا السلاح ولا تحرقوا مراكبكم/ صناعة الدكتاتور/ الكلمة تقتل.. والكلمة تحيي/ إسلامية بالشطة، أو علمانية بالسم الهاري!!/ العضّاضون والعضّاضات/ مستقبل تيار الإسلام السياسي/ استراتيجيات حل الصراع/ انتهاك حقوق الموتى/ عودة المتدين الطيب/ إرهاب المعتدلين/ أرجوك لا تترشح للرئاسة/ هشاشة النظام/ لماذا يقتل المصريون رؤساءهم ؟/ الزعيم الملهم/ الأثر النفسي للقفص الزجاجي/ قوة التسامح/ لولا دي سيلفا.. ماسح الأحذية صانع نهضة البرازيل
التعليق: أنا من أشد المعجبين بشخصية "رجب طيب إردوغان"
ولِما يتمتع به من كاريزما عالية، ورغم أني لا أحبذ أن يسيء إليه أحد،
إلا أنني أوافقك فيما وصفته بأمراض السلطة, فقد لاحظت عليه في الآونة الأخيرة تغيرات في شخصيته "كالكبرياء والغضب "
راجية أن تزول عنه, تحية له ولشعب تركيا الجميل..