الفصل السادس
من خلال الجهلِ أَو الخوفِ، فإن العديد مِن الناسِ لا يعدون أيّ خطط عمل لحياتِهم الخاصة كإبراهام ماسلو، رئيس قسمِ عِلْم النفس السابق في جامعة "برانديز"، فقد كَتب: "دعنا نَعتبرُ حياتك سلسلة من الاختيارات، الواحد بعد الآخر، وفي كل نقطة، هناك اختيار إقدام أو اختيار إحجام، فقَدْ يَكُون هناك حركة نحو الدفاع، أو نحو الأمان ِ، أو نحو الخوف؛ لكن تجد على الجانبِ الآخرِ اختيارا للنمو والتقدم؛ وللقيَام باختيار التقدم بدلاً مِن اختيارِ الخوف، والذي قد يتكرر عشر مرات يوميا، فإن هذا التحرك نحو النمو يدفعك بقوة عشر مرات نحو تحقيقِ الذات "ولا تنسى الحكمة القائلة: "لأن يكرهك الناس وأنت تثق بنفسك وتحترمها، أهون كثيراً من أن يُحبك الناس وأنت تكره نفسك ولا تثق بها".
عندما لا تُخطّطُ لاتّجاه حياتك فإنك تَقُومُ باختيار "لا اختيار"َ. وبالطبع فإن هذا التوجه في الحياة لَهُ نتائج عصيبة، بل و محزنة أحيانا ً. يقول نيتشه: "هناك شخص واحد لم يذق طعم الفشل في حياته؛ إنه الرجل الذي يعيش بلا هدف". ومن المهم أيضاً أن يكون تخطيطك لحياتك بصورة جيدة متفقة مع المتاح بالنسبة لك، وبصورة متفقة أيضا مع إمكانياتك وقدراتك؛ وكما قيل: "الفشل في التخطيط يقود إلى التخطيط للفشل".
ولِكي تَكُونَ مؤكداً لذاتك، يَجِبُ عليك أَن تُطوّرَ أهدافك في الحياة. أما من يُوجَّهون إلى أهداف معينة في حياتهم فإنهم يَفتقرون إلى تفهم الهدف من الحياةِ.
الأهداف تُحفِّزنا كي نعيش الحياة، وهذه حقيقة قائمة حتى في حياة الحيوان؛ فعند إجراء اختبار المتاهة على عدد من الحيوانات كان الأقرب منهم يَصِل إلى الهدف بصورة أسرع حيث يتعجّلونَ في الذهاب نحوه. وعندما تشرع في سفر بعيد تُصبحُ أقل صبراً كلما اقتربت من محطة الوصول النهائية في رحلة سفرك. وكذلك إذا وَضعتَ هدفا ما في حياتك، تجد نفسك كلما اَقتربت مِنه تَكتسب حافزاَ أعظمَ للنَجاح. على كل حال، فكونك تُعزز أهدافك فإن هذا من احترامك لذاتك. كما يُقوّي إنجازك لبعض أهدافك منِ رغبتِكَ لنَيْل وتحقيق أهداف أخرى.
كَيفيةَ وَضع الأهداف
- وَضعَ أهدافَكَ طويلة المدى: إسألْ نفسك "أَيّ نوع من الحياةِ أُريد؟" كيف تَحْبّ حياتَكَ أن تَكُونَ بعد عشْر سَنَواتِ مِنْ الآن؟"، ضع في اعتبارك حياتكَ العائليةً والاجتماعية وأهدافك واهتماماتك غير المهنية، ولا تُهملْ تخيلاتَكَ. واعلم أن هناك قرارات مهمة يجب أن يتخذها الإنسان مهما كانت صعبة، ومهما أغضبت أناساً من حوله؛ كي يحقق أهدافاً خيرة. وفي أغلب الأحيان، تجد أن تلك الأهداف يُمْكِنُ أَنْ تَضعك على اتصال مَع الذي تُريدُ تحقيقه؛ واعلم أن الذي يكسب في النهاية هو من لديه القدرة على التحمل والصبر.
تبَدأَ سلسلة الأهدافِ الثانويةِ: إذا اَخترت هدفا بعيدا جداً بدون أهداف ثانوية، فإنك غالبا ما تُخفقُ في رُؤية التقدّمِ وتُصبحُ مثبّط العزيمة. لذا فمن المهم مع وضع أهدافا بعيدة المدى؛ أن يكون لك بعض الأهداف الثانوية؛ لَيس فقط كي تَرى تقدّماً، لكن لأن إنجازَ كل هدف ثانوي يُزوّدُ إحساس الإنجاز لديك؛ ولا يتم إنجاز أي شيء عظيم في هذه الحياة بدون حماس. ولكن من المهم ألا تكون أهدافك متناقضة بل متسقة و متوافقة يقول سعد الخلف: "التناقض في الأهداف يؤدي إلى تذبذب في القرارات".
ديكنز والقصر:
كان والده فقيرا، وكان يصحبُ ولده من خلفه إلى عمله اليومي الشاق ويمران على قصر فخم لأحد الأثرياء وينظر الطفل منبهرا لما يراه ويقول لوالده لماذا نسكن بيتنا المظلم ولا نسكن هذا القصر، ويبتسم الأب في مرارة ويقول ستسكنه حين تكبر يا بني.
ازدادت حالة الطفل سوءا لأن أباه قد تم سجنه لديون لم يستطع الوفاء بها. وانضم الطفل إلى مسكن امرأة عجوز تحملته على مضض، ومن سن العاشرة بدأ يعول نفسه ولم يكن يكفيه إلا القوت الضروري جدا فقط وأحيانا كان لا يجد إلا الخبز.
ثم يخرج الوالد من السجن فيلتحق الغلام بالمدرسة ويتعلم بضع سنوات، ولكنه يشتغل ليلا في إحدى الصحف، فجعل يقرأ ما يقوم بطبعه ويستشعر تقدما ثقافياً مطردا ثم ظهر نبوغه، فألف القصص الجميلة ونشرها تباعا مسلسلة فحازت قبول القراء، لقد تقبل ديكنز النجاح التدريجي؛ ففي ذلك الحين، لم تقبل أي دار للنشر بإنجلترا أن تنشر له رواية كاملة في بدايات كتاباته، فاتجه إلى الصحف وبدأ بنشر رواياته على هيئة قصص مسلسلة في الصحف اليومية والأسبوعية، وكان تصوير الطبقات الكادحة وما تعانيه من إرهاق الجوع والبرد والتشرد بالطرق من أسرار براعته ونجاحه، مع فكاهة مريرة يغتصبها اغتصابا لترفه عن القارئ، وبعد أعوام صار من أعلام الأدب الإنجليزي في عصره.
وحين تدفق المال في يده جعل كل همه أن يشتري القصر الذي وعده والده أن يكون صاحبه، وبالفعل استطاع شراءه ولكنه كان يعض على شفتيه متألما، ولكنها الحياة بقسوتها ومرارتها، يقول له أحد أصدقائه لقد تحقق الحلم فلماذا تتأسف؟! فيرد ديكنز، كنت أود أن أجد أبي معي اليوم ليكون هو صاحبه الأول.
نلاحظ هنا أن ديكنز أحترم النجاح التدريجي في حياته العملية من دون تذمر، وقد يقول البعض "لا" إنه أُجبِر على ذلك النجاح التدريجي والرد عليهم هو: أن ديكنز تحمل الفقر المدقع، وتقبل أن يعيش في ظروف قاسية أثناء طفولته، وهذه الظروف كان من الممكن أن تدفعه إلى عالم الجريمة والفشل والضياع في مجاهل الحياة، ولكنه بدأ يقرأ ويكتب ويثقف نفسه حتى أصبح واحدا من أعظم الكتاب ليس في إنجلترا وحدها بل في العالم بأسره، وأحب أن أشير هنا إلى حيلة دفاعية ناضجة استخدمها ديكنز في مشوار حياته ألا وهي "التسامي"، والتسامي كحيلة دفاعية ناضجة يستخدمها الناس على مستوى اللا وعي تعني أن الشخص يحول نزعات وميول سيئة وكريهة بداخله إلى سلوكيات وأعمال إبداعية جميلة يصفق لها المجتمع ويعجب بها، وذلك مثل الجراح المبدع الذي يحول العنف الموجود بداخله إلى جراحات نافعة بمبضعه تشفي المرضى وتخفف آلامهم، وتجعل من الجراحين طبقة كريمة وقشطة في أي مجتمع، ومثل الفنان الذي لديه ميول جنسية منحرفة ومكبوتة، وهي في نفس الوقت مرفوضة من المجتمع ومكروهة؛ فيُحوِّل كل ذلك إلى لوحات فنية غاية في الفن والإبداع يعتبرها نقاد الفن من تحف التراث الفني الإنساني!. وكما قيل: "الإنسان المبدع هو الذي يصنع المجسمات الجميلة من أكوام القمامة" .
أما ديكنز فقد حول العنف وعالم الجريمة والفقر المدقع الذي شاهد بعضه بعينيه وعايش بعضه بلندن في مقتبل حياته إلى قصص وروايات عالمية تدرس في مدارس ومعاهد وجامعات العالم بأسره لدارسي اللغة الإنجليزية وآدابها منذ القرن التاسع عشر وحتى اليوم.
كما استخدم ديكنز بعضا من "روح المرح و الدعابة" في كتاباته، وهي حيلة دفاعية ناضجة أخرى يُقصَد بها تغلب الشخص على عيوبه بالفكاهة والتهكم والسخرية من تلك العيوب؛ فمثلا شخص ضعيف البصر يطلق على نفسه "مفتّح أبو فانوس" ، أو شخص قصير لدرجة ملحوظة يسمي نفسه "خليل نخلة"، وبالنسبة لديكنز، نجده يحاول انتزاع البسمة من قرائه وهو يكتب قصص البؤس والمرار للطبقات الفقيرة الكادحة بانجلترا في عصره.
- إستحضرُ صورةَ ذاتيةَ تحبها لنفسك:
ثم إسألْ نفسك، "عن نوع الشخص الذيِ تَحب أَن تَكُونَ" إن الأهداف في حياتنا هم بمثابة خَلْق هوية أكثر إيجابية بالنسبة لنا، وهي التي تدفعنا بالتالي إلى زيادة ثقتنا بأنفسنا".
أغلق عيونكَ وتخيّل نفسَك الشخص الذي رسمته في خيالك بكل مميزاتك وبكل الخصائص التي توَدُ أَنْ تَمتلك. إجلس واكتبْ وصف الشخص الذيِ تُريدُ أن تَكُونَ. قد تتمنى أن تَكُون متصلبا أو مرنا، قد تكون كلاسيكيا في مَلاْبسك، قد تحب التحدث مع الآخرين في السياسة أو الاقتصاد أو الدين أو غيرهم، وقد تُفضّلُ أن تَكُونَ إنطوائياً أَو منفتحا على الآخرين. المهم أن تبدأ في محاولة تنفيذ ما ترغب فيه لتحقق التغيير بإذن الله، وعليك بالبدء في التغيير حسب أولويات رغباتك ومصالحك الخيرة المفيدة -الأهم فالمهم- وتذكر أن العزيمة والجد هما سلاحاك في تحقيق التغيير المطلوب؛ وتذكر قول الشاعر:
الجد في الجد والحرمان في الكسل فانصب تُصِب عن قريب غاية الأمل
توسّعْ في عمل قائمة المميزاتِ والخصائص التي تود أن تكون كشخص مثالي في نظرك، أنت توَد أَنْ تَكُونَ كذا وكذا من حيث الصفات والخصائص. أدرجْهم في قائمة وفقا لأهميتِهم بالنسبة إليك، وأظهر فيما تكتبه الخصائصَ البارزةَ في الصورة الخيالية لنفسِك، والمِثالية كما تحب أن تكون حتى يصبح عِنْدكَ ثمانية إلى عشر أنوع من الخصائص والصفات والمميزات. واعلم أن: النجاح يجر النجاح كما يجر المال المال، ولكن المهم أن تبدأ بالخطوة الأولى، أو على الأقل العزيمة والإصرار على تحقيق التغيير إلى الأفضل، وهذا في حد ذاته إنجاز ونجاح، ولنتذكر معاً المقولة الشهيرة: علينا أن نسعى وليس علينا إدراك النجاح.
إعملْ على تكوين صوة مثالية لذاتك. فكر في قائمةِ المميزات والخصائص. في أي المميزات والخصائص تفكّر الآن؟ أنا أحب أن أكون "شجاعاً، ولكنني في الواقع أخاف من المجتمعات"؟ إذا كان هناك تناقضاً كبيراَ بينكما الآن، فيمكنك أَنْ تَطور تلك الميزة المطلوبة في المستقبل القريب؟
ولكن بعض تلك المميزات قَد تكون مستحيلةَ التَحقيق. فقَدْ تَحْلمُ بنفسك كزعيم مشهور، لكن لَيْسَ لديك المؤهلات لذلك على الإطلاق؛ فإذا حلمت بالنجوم فيجب ألا تنسى رجليك على الأرض، ولكن على كل حال، إذا كنت ترى في صورتكَ الذاتيةِ المِثالية أنك شخص مدرك ومطّلع وشجاع فيمكِنُك عندئذ أَنْ تحقق ذلك.
حالة من العيادة النفسية:
أفصح الخطباء هو النجاح:
أتذكرها جيداً، إمرأة هادئة عليها مسحة من الحزن، عمرها خمسة وثلاثون عاما، جاءتَ لاستشارتي بالعيادة، قالت: "أَنا إمرأة بائسة، أم لأربعةُ، وزوجي عضو هيئة تدريس بكلية مرموقة، وأنا مُجرَّد زوجة حاصلة على ثانوية عامة؛ ولم أكمل دراستي الجامعية. كل أصدقاؤنا خريجي جامعات وأعضاء هيئات تدريس. أنا لا أَستطيعُ التَحَدُّث معهم عن الأشياءَ التي يَتحدّثونَ عنها، وأصبح زوجي يشعر بالحرج الشديد عندما يذهب لحضور إحدى المناسبات الاجتماعية المتعلقة بعمله دون أن يصطحبني معه، لذا أَشْعرُ بالنّقص دائماً، وعندما أجلس بين هؤلاء السيدات أشعر بالدونية، ولذا أصبحت أكره الذهاب لزيارتهن، نتيجة لهذا الوضع المتمثل في عدم تكافؤ المستوى التعليمي بيني وبين زوجات أصدقاء زوجي؛ لقد حوّلتَ بيتي إلى بيت زوجة غير مؤكدة لذاتها، وفاقدة للثقة في نفسها وغيورة على زوجها بشكل غير طبيعي وعصبية وقلقة على أبنائها الشباب الأربعة.
ولذا بَدأت معها برنامجا يهدف إلى رفع روحها المعنوية: فعليها أن تزيد من حصيلتها الثقافية بالقراءة والاطلاع، وأن تَستفيد مِنْ ملكة حب الأزياء لديها وقدرتها على التفصيل، فاتفقنا على أنها ستصقل هذه الموهبة بالذهاب إلى إحدى مدارس التفصيل الراقية لتتعلم تفصيل ملابس المحجبات، وكانت تلك أمنية قديمة لديها، ولكن التردد والقلق ونقص الثقة في النفس كانوا كحجر العثرة في حياتها؛ مما جعلها تحجم عن مناقشة حتى زوجها في هذا المشروع.
بالنسبة للقراءة اقترحت عليها بعض المواقع على الإنترنت لقراءة بعض الصحف اليومية التي تمكنها من زيادة حصيلتها الثقافية، نصحتها أيضا بسرعة القراءة وليس القراءة البطيئة المُدقِقة. بالإضافة إلى قراءة بعض قصص الأدب العالمي باللغة العربية.
في خلال ستّة أشهر مِنْ العلاجِ بهدفِ التعليمِ الذاتي، أصبحت هذه السيدة شخصية قانعة أكثر بكثير، لقد بدأت تتفهم العديد مِن الموضوعات الثقافية المختلفة. وخلال إحدى الجلسات وبعد عام كامل من مواصلة القراءة في مختلف الاتجاهات الثقافية والسياسية والفنية والرياضية والصحية قالت: "خلال عطلة نهاية الأسبوع الماضي، كان هناك مُناقشةُ سياسيةَ مَع بَعْض أصدقاءِ العائلة، وكَانَ عِنْدهُم بعض الحقائق غير الصحيحةُ عن موضوع المناقشة. لذا أوضحت لهم بشكل رصين أنهم مخطئون، وكان أربعة منهم أعضاء هيئة تدريس في كليات مختلفة، لقد أحسست حينئذ بنشوة المعرفة، والتي كنت أفتقدها في جلساتي السابقة مع زوجات أصدقاء زوجي. تخيلني وأنا أَتكلّمُ بصوت عالي إلى كل هؤلاء من خريجي الجامعات، بل والحاصلين على أرقى الشهادات العلمية في تخصصاتهم المختلفة؟!!!".
لقد بدأت هذه السيدة بتثقيف نفسها في عمرٍ متقدمة؛ و ذلك لأن لديها الرغبة في تغيير نفسها، إن من شروط النجاح لمثل هذه السيدة هو أن لا يحوي قاموسها المعرفي على كلمتي "إذا" و "لكن".
- أعرف عيوبك:
من المهم أن تدرك هدفكَ، وللوصول إلى هدفك لابد من معرفة قدراتك، ولمعرفة قدراتِكَ الحقيقية عليك أن تعرف عيوبك أو دعنا نقول معوقاتك، وهذا كي لا تَضع لنفسك أهدافا مستحيلة أو دعنا نقول عسيرة الإنجاز. العديد مِن الناسِ يَقعون في مثل هذا الخطأ؛ وينتهون إلى سراب بعد بذل الغالي والنفيس، ويُفسِّر بعض علماء النفس مقدار مَعرفتك لحدودك وقدراتك الحقيقية: "بأنه القدر من كافة إمكانياتك الذي يؤهلك لإنجاز أهدافك التي تريد، تلك الإمكانيات التي تحقق لك الموازنة بين متطلباتك وإمكانياتك كشخص".
لفَهْم عيوبكَ، يَجِب عليك أَنْ:
تدرك أنه لا يُمكنك أَن تقوم بعمل كل شيء في وقت واحد. بل يَجِبُ أَنْ يكونَ عِنْدَكَ أولويات تقوم بتنفيذها أولا؛ وهذا سيجعلك تُسقطُ بَعْض الأهدافِ بالكامل من دائرة تفكيرك.
عليك أن تتقبل بعض المعوقات لأهدافك من حيث ما تمتلكه من مواهب وملكات ومن حيث المرحلة العُمرية التي تعيشها. ففي الخمسين من عمرك مثلا يمكِنك أَن تَتعلمَ بعض الأساسيات في الكومبيوتر حتى يمكنك التواصل مع أبنائك وأحفادك في بلد آخر عن طريق الإنترنت، مع العلم أن دراستك الثانوية والجامعية كانت في الأقسام الأدبية، لكن مهما كان عظيم مهارتك، فمن الصعب عليك جدا وأنت قد تخطيت الخمسين بكثير أن تطلب تعلم لغة البرمجة في الكومبيوتر أو أن تتقن صيانته كهواية!!، عليك أن تدرك أنك قد بَدأتَ متأخرا جداً لمعرفة التفاصيل العلمية الكثيرة في هذا الموضوع. فإذا كان عِنْدَكَ تنسيق سليم لأهدافك فستعلم أنه لن يُمكنك أَنْ تَكُونَ بطلا دوليا في التنس، حيث أنك قد بدأت تلعبه في عمر الأربعين، لَكن يُمْكِنك أَنْ تَتعلمَ لِعْب التنس في هذا العمر للحفاظ على لياقتك البدنية؛ فأنت لو أمضيت وقتاً ممتعاً و أنت تلعب أي رياضة، فأنت الفائز حتى لو خسرت النتيجة مع اللاعب المنافس. وعلى أي حال، فعلى الناس الأكبر عُمراً أَن يُقدّموا تنازلات أكبر، وأن يتَقْبلوا تقييدات أكثر، لَكن هذا لا يمنعهم من وضع الأهداف المناسبة لعمرهم.
حالة من العيادة النفسية:
أذكر أرملة كرّست نفسها لأنْ تَكُونَ زوجة مُحامي جاءت إلى مكتبِي واشتكت: "أَنا لا شيء بعد أن بلغ عمري ستين عاما، زوجي ميت، أبني الوحيد هاجر إلى أمريكا، ولا أجد ما أفعله غير الوحدة والفراغ، مللت مشاهدة التلفاز، كرهت الخروج للتسوق، أبيت ليلي أفكر في وحدتي، أنا لا أطيق الذهاب والعيش مع ولدي وزوجته في أمريكا، حيث يزداد شعوري بالوحدة معهما هناك؛ يُضاف إلى ذلك إحساسي العميق بالغربة، فماذا أفعل فيم أشعر به؟!"، وهنا بدأت أسأل عن بعض إمكانياتها وخلفياتها، وعرفت أنها تعيش في شقة كبيرة بجوار إحدى الكليات، وعرضت عليها أن تؤجر إحدى الغرف في شقتها بأجر رمزي لإحدى الطالبات المغتربات بهذه الكلية، على أن يكون اختيار هذه الطالبة عن طريق زميلة فاضلة من أعضاء هيئة التدريس العاملات بهذه الكلية.
بعد شهرين من هذه الجلسة، جاءت هذه السيدة إلي ولكن بشعور مختلف من الإحساس بالرغبة في الحياة، لقد كان في مشاركة هذه الطالبة المعيشة مع هذه السيدة انقلابا بمعنى الكلمة، لقد بدأت السيدة المكتئبة تشعر بمسئولية نحو الفتاة الجامعية، وبدأت تحفظ مواعيد عودتها من كليتها، ومواعيد استيقاظها، ومواعيد المحاضرات الهامة لدى هذه الطالبة، وأصبح هم هذه السيدة هو نجاح الطالبة بتقدير مرتفع حتى يتم تعيينها كعضو هيئة تدريس بالكلية التي تدرسُ فيها. وبالتالي تظل هذه الطالبة بجوارها لأطول فترة ممكنة...
تقول هذه السيدة لي في لقاء لي معها بالصدفة عند عائلة أحد الأقارب –الذي أشار عليها باستشارتي في المرة الأولى- و ذلك بعد أكثر من عام من زيارتها الأولى لعيادتي: "لقد وهبتني هذه الفتاة مشاعر جديدة للأمومة، قد يكون ذلك بسبب أنني رزقت أبنا ولم أرزق أبنة، وقد يكون ذلك لأنها جاءت لتعيش معي في ظروف كنت في مسيس الحاجة إلى وجودها بجانبي، المهم يادكتور لقد تعلمت منك أن مشاعر الحب والأمومة لدينا نحن البشر يمكن أن تمتد وتتسع لغير أبنائنا وأحفادنا وأقاربنا، بشرط أن نحب بصدق، حب ليس فيه أنانية ولا رغبة في تملك الآخرين، حب يدعم ويبني النفس والآخر، وعندما يشعر الآخر بصدق حبك له سينمو لديه نفس الإحساس، وبصورة متبادلة"، وثق من هذه القاعدة القلبية الشهيرة ألا وهي: "مثلما تشعر نحو من يُحادِثك، فلديه نفس المشاعر نحوك، وإن حاولت إظهار أي مشاعر أخرى غير صادقة نحوه". لقد ذكرتني هذه القصة بقول جميل هو: "اعتمد على عقلك في القضايا التي تهمك......... وعلى قلبك في القضايا التي تهم غيرك".
- يجب أن تعود نفسك من خلال الدراسة والعملِ والحياة أن هدفكَ طويل المدى قَدْ يَتغيّرُ:
فالحياة متغيرة، والإنسان متغير، والثوابت من الحقائق قليل في حياتنا، مثل حقيقة الموت مثلا؛ لذا فإن وضعك لهدف بعيد المدى قد يتغير مع تغير الظروف والأحداث الحياتية التي تمر بها، وقد يَحْدثُ هذا بشكل تدريجي بدون أن يُدرك ذلك صاحب الهدف إلا متأخراً، وقد يصبح قرار تغيير الهدف متعمدا ومثيرا للقلق. ولكن حتى حين تضطر لتغيير هدفك؛ لمشكلة أو أزمة ما قد ألّمت بك؛ فلابد وأن تُظهِر ثباتك، وأن تكون سيدَ نفسك، ألا ترى مدرب الوحوش الضارية في السيرك.... إنه ليس أقوى منها جسدياً؛ ولكنه مسيطرٌ عليها بثباته!.
الحالة
سأعيش في جلباب أبي:
على الرغم مِن مهنتِه كمحامي ناجحِ، ويعيش عيشة مترفة، فإن إسماعيل كان يشَعر دائماَ بعدم الرضى بالحياةِ. فلقد أخبرَني بأنه عاش حياته كلها يأمل في كِتابَة رواية عظيمة!!. وكان دائما يردد: "لقد أصبحتُ مضطراً إلى الالتحاق بكلية الحقوق؛ ثم ممارسة المحاماة بعد ذلك بسبب أبي الذي كان محاميا ذائع الصيت، وكان مكتبه بأرقى الشوارع التجارية في العاصمة مقصداً للأغنياء من أصحاب القضايا المدنية، لقد ورثت عن أبي –رحمه الله- مهنته ومكتبه، بل ورثت عنه حتى بعض قضاياه، ولم أكن أرغب في أن أكون نسخة مكررة من أبي".
لقد بدأ إسماعيل في محاولاته لكتابة قصص قصيرة أثناء عطلاته من المكتب، ولكن الموهبة في الكتابة كانت تنقصه، بالإضافة إلى حاجته لسعة اطلاع على الأدب المحلي والعالمي في فنون القصة والرواية، وهو مرفه طوال حياته، ولا يجد الهواية في أن يقرأ بصبر لساعات طويلة، لذا بعد نهايةِ سَنَة ونِصْف من المحاولات المتعددة في مجال كتابة القصة تَخلّى إسماعيل عن مشروعه بعيد المدى بالكامل وبدون أسفٍ عليه، لقد استنتج بأنه في أحسن الأحوال قد يستطيع كتابة حيثيات الدفاع عن حقوق موكليه في قضاياهم المدنية؛ كما تعلم وتدرب على ذلك في مكتب والده رحمه الله، لقد تعلم أن الرغبة فقط -في تحقيق هدف بعيد المدى- لا تكفي لتحقيق ذلك الهدف، فلابد أن يكون لدى الشخص بعض المؤهلات في فكره وفي شخصيته أو في ثقافته أو في إمكانياته الجسدية والمادية والنفسية.....إلخ.
لقد قنع إسماعيل في النهاية بمهنته كمحامي متخصص في القضايا المدنية كما تمناه والده أن يكون، لقد بدأ -بعد هذه التجربة- يشعر بأنه يستمتع بما يتقنه من مهارات مهنية، مثل التواصل مع الموكلين، والمؤتمرات القانونية، والمفاوضات مَع الزملاء المحاميين، والتنقل بين قاعات المحاكم، والمرافعات والتواصل مع العاملين بالنيابة، وأصحاب السلطة في تنفيذ الأحكام.
لقد أصبح إسماعيل سعيدا الآن؛ لأنه من خلال العملِ المؤكد لذاته تَعرّف على نفسه بصورة واقعية، و قد أدرك إمكانياته بصورة أفضل، كما تعرف على معوقاته، وبدا لي أن تفاعله مَع الحياة قد أصبح أكثر إقناعاً.
التواصل مع الآخرين:
ميز بين المضمون والعملية
أعلم أن لكل مناقشة وجهين؛ المضمون أو الموضوع والعملية أو قوى المواد المحركة، قد يتضمن المضمون مواضيع أصلية، أو مشاكل مادية، أو خطط اجتماعية، أو ترميم للمنزل أو تحدث عن سلوك الآخرين، وقد تتضمن العملية شخصا يسيطر على الحوار (وعلى الآخر الذي يريد أن يعبر عن رأيه، ومن يريد التحدث فعليه أن يحجز مسبقا -إن استطاع الحجز- ليستطيع التحدث، والإمساك بالميكرفون لأطول فترة ممكنة!!!) ومن دون انتباه، وفي حين أن الآخر يتكلم، ينتقل الأول من موضوع إلى آخر ثم يعود إلى الموضوع الأول، يطرح سؤالا ولا ينتظر سماع الجواب أو يرفض سماعه؛ و قد يكون ذلك بمجرد أن يتم الآخر قوله!!؛ ولذا نطلق على هذا النوع من الحوار إسم: "حوار الطرشان"-جمع أطرش- أي أن كل واحد من المتكلمين لا يسمع إلا نفسه، ولا يسمع أحدا من الآخرين على الإطلاق!!.
عندما يتناقش الناس أو يتضايقون قد يظنون أن الصراع هو حول المضمون في حين يكون في الواقع حول الشكل أو العملية. ويطور الناس أشكال الاتصال، ومهما كان موضوع الحوار، تتشابه القوى المحركة فيه بشـــكل لافت. لاحظ أسلوب الناس في الاتصال فتجد أنهم يشعرونك بالضغط النفسي حين يتحدثون عن شيء ما؛ حيث يلفت نظرك بعد ذلك اهتمامهم بالشكل وليس المضمون؛ وهذا الاهتمام بالشكل أكثر من المضمون هو ما يؤدي إلى انزعاجك، وهذا بالتأكيد يعوق التواصل مع الآخرين. يقول سرفانتس: "التكلم بغير تفكير كالرماية بلا تصويب". إن الثرثرة كثيراً ما تؤدي إلى الندم؛ فهي ليست حواراً بناءاً؛ و عن ذلك يقول تولستوي: "ليست الثرثرة عيبا، إنها مرض"!. وصدق لقمان في نصيحته لابنه: "يا بني، من لا يكف لسانه يندم". وقال الأعرابي في مجلس سليمان بن عبد الملك:
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
أصغ إلى واقع الشخص الآخر فقد يكون لديه فكر وذهن متفتح:
أيضا يمكنك تعلم الكثير إذا استمعت فقط من دون أن تحكم أو تتكلم. كن مهتما بالصدق في السماع، كيف يبدو العالم في عيني الشخص الآخر؟. إذا لم يحب مثلا الحشود أو الحفلات الكبيرة، لا تقل: أنت تمزح فأنا أحبها، بل إسأله لماذا يصعب عليك الأمر؟ ساعدني لكي أفهم كيف يبدو هذا الأمر بالنسبة لك، ثم اسمع الجواب. ولا تنس الحكمة العربية: "قلوب الحمقى في أفواههم، وأفواه الحكماء في قلوبهم".
إن مفتاح العلاقة الإنسانية هو أن تفهم الآخرين.. وأن يفهمك الآخرون؛ لذا ينبغي أن تنمى مهاراتك على السماع بحيث تحقق الفهم المشترك بينك وبين كل من حولك.. وينبغي استغلال هذه المقدرة وخلق الظروف الملائمة لتنميتها بالتجول بين العاملين وبتهيئة المناخ الذي يشجع الآخرين على الكلام فالاستماع الجيد هو أداة جيدة لتوفير الوقت والتكاليف سواء بتقليل وقت إعادة الشرح واختصار وقت التنفيذ والأخطاء الناجمة عن سوء الفهم.
على أن الإنصات لا يعنى الاستماع، فالاستماع يعنى فقط الجانب العضوي من عملية الإنصات ممثلة في صورة الإحساس بالموجات الصوتية وترجمتها؛ وحتى تكتمل عملية الاتصال فإن هناك ثلاث مراحل أخرى لابد أن تتم وهى (التفسير والتصميم والاستجابة)، كما أن الإنصات يتعلق بمدى انتباه الفرد إلى المعاني المتضمنة فيما يقوله المرسل.
والإنصات هو عملية اتصال في المرتبة الأولى، حيث أوضحت الدراسات أننا نقضى80% من ساعات العمل في عملية الاتصالات (حديث – إنصات) منها ما لا يقل عن 45 % يقضيها المرء في عملية الإنصات وحدها.
ويقال أن الإنسان يستمع إلى ما يقرب من 50% من وقته والباقي ينفقه في الكتابة والقراءة والتحدث، كما يستطيع العقل البشرى التفكير في 60 كلمة في الدقيقة، وأن يسمع إلى 300 كلمة في الدقيقة، أو ينطق 125 كلمة في الدقيقة، وفى هذا دليل واضح على أن القدرة على السماع تفوق قدرات الكتابة والتحدث والقراءة.
أي أن سرعتنا في الحديث أبطأ بكثير من قدرة العقل البشرى، لذلك تجدنا أثناء الاستماع نقوم بعمليات ذهنية أخرى... وكيفية توظيفنا للوقت الإضافي المتاح هي التي تحدد استيعابنا وتفاعلنا مع المعلومات في نهاية المطاف أو مدى إنصاتنا للطرف الآخر, وبالرغم من أن عملية الاستماع تتم بشكل تلقائي إلا أن عملية الإنصات تتم بمراحل متعددة.
مراحل عملية الإنصات:
يمكن تقسيم المراحل المختلفة لعملية الإنصات إلى ما يلي:-
الاستماع:
وهى عملية استقبال الكلمات أو الأصوات في صورة موجات صوتية عن طريق حاسة السمع، وتحويل هذه الموجات إلى ذبذبات تنتقل إلى المخ من خلال العصب السمعي الثامن.
التفسير:
وهو عملية تحويل الذبذبات إلى معانٍ وأفكار وهى تتم في المخ.
الاستيعاب:
وهى عملية فهم المعاني والأفكار وتتأثر هذه المرحلة بالخبرات والمستوى الثقافي والحالة النفسية للمستقبل وكذلك المعلومات الأخرى المساعدة والتي تصل للمخ من حاسة البصر، والتي تنقل الإشارات غير اللفظية المصاحبة للرسالة. والتي تنقل الإشارات غير اللفظية المصاحبة للرسالة, أي أنه إذا كنت أقوم بشرح موضوع معين لإنسان وأمثل له هذا الشرح في صورة مشاهدة يراها فلا شك أن يكون استيعابه أفضل ممن أتحدث إليه فقط.
التذكر:
وهى مرحلة مقارنة المعاني والإشارات بالمعلومات المختزنة لتحليلها والوصول إلى المعنى والمضمون ثم إضافة هذا المعنى إلى الذاكرة.
التقييم:
وهى مرحلة تحديد المعنى الحقيقي (من وجهة نظر المستقبل) للرسالة والتي يتم على أساسها اتخاذ القرار برد الفعل المناسب.
الاستجابة:
وهى المرحلة الأخيرة التي تظهر في صورة رد لفظي أو غير لفظي يوجه للمرسل، وهى الناتج النهائي لعمليات الاستيعاب والتذكر والتقييم ولذلك يمكن القول إن الإنصات الفعال هو محصلة تفاعل المعلومات الواردة للشخص المستقبل من خلال العديد من الحواس (السمع والبصر والتذوق و الشم واللمس).
ومراحل عملية الإنصات كلها تتم ولكنها تتم في صورة واحدة لا يستطع أحد أن يقول أنا الآن أستمع، أو أفسر، أو أتذكر، أو أستوعب، أو أقوم، أو أستجيب.
ولعل مرحلة الاستجابة فقط هي المرحلة التي يستطيع أن يقول فيها الإنسان أنه استطاع أن يتحرك من فكره الداخلي إلى إطار آخر يستطيع فيه تحديد مدى استجابته لكلام الآخرين.
تفادى قول "صح / خطأ":
جيد / سيئ، خسرت / كسبت، في الحوار "إن المناقشة ليست جدلا يستلم فيه الرابح جائزة، يجب أن تتضمن تبادلا صادقا للأفكار والمعلومات، وتقاسما للأحاسيس أو محاولة لحل مشكلة ما.
وأنت إذا توقفت عن محاولة إحراز نقاط، أو بمعنى آخر محاولتك الإمساك بدفة الحوار "الميكروفون" شكلا دون الاهتمام بالمضمون، عندئذ يمكنك أن تتعلم أكثر عن الآخرين وتقوم عندئذ بحوار أفضل مما يؤدي إلى انخفاض الضغط النفسي الواقع عليك و على الآخرين، بالإضافة إلى اكتسابك لعلاقات حسنة، والتي من المحتمل أن تكون أكثر حميمية وقربا، وعليك بالحكمة القائلة: "يجب أن يكون الكلام دالا على المراد لا أكثر ولا أقل" ؛ فحافظ على حوار بسيط ومختصر، فخير الكلام ما قلّ ودلَ. تجنب العودة إلى الموضوع أو إعطاء محاضرة خاصة في التحدث مع الأولاد، فإذا لم يكن الحوار قصيرا وجميلا فلن يستمعوا إليك. يقول أبو العتاهية الشاعر:
ولا ترمِ بالأخبارِ مِنْ غيرِ خِبرةٍ ولا تحمِلِ الأخبارَ عنْ كلِ خابِرِ
إصغ لتتفهم المتحدث:
الإصغاء مهم كالتكلم، ومن المحتمل أنه أكثر أهمية من التكلم، لذا استمع حقا ولا تفكر في الجواب أو في التفتيش عن مخرج، وإذا استغرق الناس لحظة للرد كن صبورا ولا تبدأ بالتكلم في وقت تفكيرهم. وكما قيل: "أنصف أذنيك من فيك، فإن الله قد خلق لك أذنين، وفماً واحدا!!".
عليك أن تصغي إلى ذلك المتحدث كي تتعاطف معه وليس لتحل المشكلة، لقد كان هناك طبيب لعائلة لفترة وكان المرضى يحكون له مشاكلهم ويتوقعون منه حل تلك المشاكل، فاعتاد على دور المصلح، ولكن زوجته لم تكن تريده هكذا، فالناس أحيانا يحتاجون إلى مجرد سماعهم ولا يبحثون عن الأجوبة أو الحلول بل يريدون منك أن تستمع إليهم، وتعيرهم اهتمامك وحسب.
وبالطبع على من يريد حسن الإصغاء تجنب الثرثرة وفضول الكلام فهو من أمراض القلوب كما ذكر الكثير من علماء الأمة؛ يقول سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "من كثر كلامه كثر خطأه"، ويقول أيضا رضي لله عنه: "المرء مخبوء تحت لسانه"، ومن أقواله الجميلة: "إذا تم العقل نقص الكلام".
إنصات النبي صلى الله عليه و سلم بوعي للآخرين:
ذُكر أن عتبة بن ربيعة وكان سيدا ذا بصيرة ورأى في قومه، قال في نادي قريش: يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورًا لعله يقبض بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا، فقالوا: بلى يا أبا الوليد: قم إليه فكلمه، فجاء عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا ابن أخي.. إنك منا حيث قد علمت من الشرف والعشيرة والمكانة في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم مزقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، فاسمع منى أعرض عليك أمورًا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها، فقال له رسول الله صـلى الله عليه وسلم: "قل يا أبا الوليد –أسمع"، قال: يا ابن أخي: إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد به شرفًا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرًا دونك، وإن كنت تريد مُلكًا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفرغت يا أبا الوليد؟" قال: نعم، قال: "فاسمع منى"، ثم قال: "حم, تَنزِيلٌ مِنْ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ, كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ, بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ" ( سورة فصلت ، الآيات 1-4 ).
أرأيت إلى هذا الموقف وكيف يتضح من خلاله قدرة الرسول صلى الله عليه وسلم على الإنصات الفعال؟!.
حيث أحسن النبي صلى الله عليه وسلم الاستماع الجيد لمن يحاوره "فلم يبادر بقطع حديثه" ولم يبدأ كلامه إلا حين تأكد من فراغ وانتهاء حديث من يحاوره.. حين قال: "أفرغت يا أبا الوليد!" قال نعم.
وقدم النبي صلى الله عليه وسلم بين حديثه ما يغرى محاوره على أن يفتح قلبه وعقله للاستماع إليه فناداه بكنيته.. حتى يرقق قلبه.. ويقبل على الاستماع إليه..
كما لم ينشغل الرسول –صلى الله عليه وسلم – أثناء الاستماع بالاتهامات الموجهة لشخصه.. ولم يقاطع المتحدث أثناء هذه التهم بالرد عليها. كما أن مرونة النبي صلى الله عليه وسلم في تركه أبا الوليد ليكمل حديثه دون مقاطعة جعلت أبا الوليد يخجل من أن يقاطع النبي صلى الله عليه وسلم.
وانظر أيضا أخي إلى اختياره صلى الله عليه وسلم للآيات التي رد بها على عتبة بن ربيعة، وهي آيات قاطعة ودامغة برفض المشركين لسماع آيات القرآن العربي، والتي يوقنون بمصداقيتها ولكنهم يجحدون الحق و يعاندون من أجل تخوفهم من ضياع مكاسبهم الدنيوية. وهذا الموقف يخط لنا منهجًا متكاملاً وبناءً في الإنصات الفعال و الجدال بالتي هي أحسن مع من يخالفوننا في الرأي.
اختر زمان ومكان المحادثة:
إن اختيار التوقيت المناسب مهم في التواصل مع الآخرين. لا تحاول الدخول في حوار حين يكون الآخر متعبا أو مشغولا، ولكن يريد بعض الناس الدخول في أحاديث ومناقشات مكثفة وقت النوم، أو يبادرون الآخر بموضوع مثير للجدال وقت مغادرة العمل.
كن حساسا فيما يتعلق بأولويات الشخص الآخر إذا كنت تريد أن تكون مستمعا جيدا. وقد يساعد ترتيب موعد معه أو سؤاله عن "ما هو أفضل وقت بالنسبة لك؟، وذلك للتحدث معك؟". وصدق سيدنا علي بن أبي طالب في قوله: تَكلموا تُعرفوا؛ فإن المرء مخبوء تحت لسانه".
تشكل الرسائل المفقودة أو المختلطة، وكذلك التحكم في الحوار والثرثرة ضغوطا على كثير من الأشخاص، ولكن المشكلة الأكبر تنجم عن نقص التواصل حيث لا يتكلم الناس مع بعضهم البعض على الإطلاق.
لا تضع نفسك في الكفة الناقصة "دائما"
كان هناك محاضرا يقدم حلقة دراسية صباحية في مؤتمر، وهي واحدة من جلسات عديدة متزامنة قبل الذهاب إلى مأدبة الطعام. كان عدد الأشخاص في المجموعة حوالي المائة وبدت الأمور أنها تتجه بشكل حسن في العشرين دقيقة الأولى، ثم جمعت امرأة تجلس في آخر الغرفة أغراضها وخرجت بهدوء، فظن المحاضر أنه أزعجها، ومرت لحظات حتى استعاد ثقته بنفسه وتابع الجلسة، وبعد ساعة ظهرت المرأة من جديد، جلست في آخر الغرفة فتحت دفترها وتفاعلت مع جو الغرفة ودخلت جو الجلسة، وبعد ربع ساعة جمعت أغراضها وغادرت من جديد، فظن أنها أعطته الفرصة مرة أخرى، ولكنه قال في نفسه: لا بد أنه أخطأ.
وفي قاعة الطعام كان كل المشاركين يجلسون على طاولة واحدة، وجاءت المرأة تجاه المحاضر وقالت كانت جلستك رائعة، أنا آسفة أنني لم أستطع البقاء، فأنا واحدة من منظمي المؤتمر ويتوجب علي التسلل إلى الجلسات الأخرى لأرى إذا ما كانت الأمور تسير على ما يرام أم لا، لقد رأيت أن المشاركين كانوا مستمتعين بالجلسة، في الحقيقة لقد تمنيت سماع المزيد. فوجئ المحاضر بذلك فشعر بكثير من الارتياح.
من هنا نستنبط أن معظم الضغوط التي نتعرض لها لا تأتي من الأحداث والمواقف، بل من كيفية تفسيرنا لها؛ لأن الأمور لا تكون دائما كما تبدو في ظاهرها.
ولأن الضغط النفسي ينتج عادة من طريقتنا الخاطئة في التفكير بالأمور؛ لذا فإن تقليص الضغط النفسي الواقع علينا يكون من خلال قيامنا بإجراء تغييرات في طريقة تفكيرنا، ويسمى ذلك بإعادة التقييم، إنها واحدة من أكثر المهارات قوة في ذخيرة قدرتنا على تقليل كمية الضغط النفسي الواقع علينا، وللعلم فنحن جميعا نعيد تقييم الأمور بشكل عفوي وغرائزي في بعض الأوقات.
إحذر من الشعارات الجوفاء:
كان أحد المرضى الذين يشعرون بضغط عال يشتكي الكثير من الضغوط النفسية والجسدية؛ وذلك من جراء جدوله المكتظ، ومن نشاطاته الكثيرة حيث كان يعمل متطوعا في منظمة اجتماعية، وكان مركزه في المكتب الاستشاري الهندسي، والذي يترأسه، يتطلب عملا أكثر مما توقع؛ وليخفف من هذا الحمل اقترح عليه أحدهم أن يفكر في الاستقالة من مركزه كمدير للمكتب الاستشاري أو يترك مركزه التطوعي في العمل الاجتماعي، فقال إنه لا يستطيع؛ لأنه بذلك سيشعر أنه استسلم وتخلى عن شيء بدأه في حياته.
اقترح عليه صديقه ألا يعلق على كلمة استسلام بل عليه أن يفكر فيها على أنها خيار ضروري للعيش في الحياة بصورة أفضل، ولتقليص الضغط النفسي والجسماني الواقعين عليه، وقال له أيضا: "قل في نفسك إنني أستقيل ولا تقل إنني استسلم".
بعد هذه المناقشة اتخذ هذا المهندس قرارا بأنه سيترك مركزه التطوعي في العمل الاجتماعي؛ ليتفرغ لعمله الإداري والمهني، وهو قرار شعر الآن بأنه مريح.
وتصور هذه القصة الرابطة بين اللغة والأحاسيس، حيث أننا نستعمل اللغة، كما أن اللغة تستعملنا أيضا، وتشكل بعض الكلمات والتعبيرات والشعارات مولدات لإثارة الضغط أو نقاط ساخنة له، حيث أن بعض الكلمات تثير ردود فعل أقل من الضغط، كما يساعد التمييز في اختيار التعبيرات والشعارات اللغوية الأقل حدة على التقليص والحد من الضغوط الواقعة علينا، ففي حالة هذا المهندس الاستشاري نلاحظ أن صديقه استخدم دقة اختيار ألفاظ اللغة وإعادة استخدام ألفاظ أقل حدة على نفسية صديقه المهندس الاستشاري مثل لفظة "استقالة" وما تحمله من مشاعر اعتيادية، وذلك بدلا من لفظة "استسلام" وما تحمله من مشاعر الخور والضعف والجبن أحيانا، وتلك الدقة في استخدام اللغة والتعبيرات البسيطة غير المعقدة، والتي لا تحمل المشاعر السلبية في مفهومها بالنسبة لأبناء المجتمع الواحد؛ هذا كله جعل من هذا المهندس الاستشاري يستقيل من عمله التطوعي بتلك المنظمة الاجتماعية مع إحساسه بارتياح.
ويتبع >>>>>>>>>>> تأكيد الذات في مواجهة العدائية