الفصل السابع
يعتبر التمسك بالغضب لوقت طويل سلوكاً غير صحي؛ لأن ذلك يزيد من الضغط الداخلي والضغط المتزايد باستمرار، إلا أن التعبير عن الغضب بشكل بناء (تفريجه وتفريغه) يعتبر أكثر صحة. يقول صلى الله عليه وسلم: "لا تغربنَّ الشمسُ على غضبكم."، ويقول أيضا: "لا تَغْضَبْ."، ويصف عليه السلام نفسه: "إنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي".
عبر عنه بشكل مباشر أو غير مباشر
يتم التفريج المباشر حين تعبر عن غضبك إلى الشخص المتورط معك وجها لوجه بالهاتف أو خطيا. يمكنك أن تعبر عنه مباشرة أو بعد مرور بعض الوقت عليه، كما يمكنك التعبير عنه بطريقة هادئة وحازمة أو بطريقة غاضبة وعدائية، وأقترح التعبير عن الغضب بالطريقة الأولى لأن العدائية يمكن أن تجرح المشاعر وتُصعِّد الصراع.
وأنصحك بتذكر الأقوال التالية عن الغضب قبل أن تتخذ قرارك في وقت الغضب:
غَضَبُهُ على طرفِ أَنفه.
الحصاةُ المقذوفةُ بغضبٍ لا تقتلُ العصفور.
ابتعدْ عن غضبِ الرجُلِ الهادئ وعنِ انقضاضِ الحيوانِ المُروض.
ينبغي أن تُرقِدَ غضبَكَ على عتبةِ بيتك.
عندما تغضبُ الضفدعةُ لا يعبأُ المستنقعُ بها.
عندما تغضبُ النّعاجُ تُصبحُ أسوأَ منَ الذّئاب.
مَنْ يَدَّعي الحِلْمَ أَغْضِبْهُ لِتَعْرِفَهُ
لا يُعْرَفُ الحَلْمُ إلاّ ساعَةَ الغَضَب
أن تغضب فهو رد فعل، ولكن أن تبقى غاضباً فهذا هو خيارك.
التغلُّبُ على الغضبِ انتصارٌ على أكبرِ عدوّ لنا.
الغضبُ جنونٌ قصير.
لم يكنِ الغضبُ أبداً نصوحاً جيّداً.
عندما نغضبُ يجب ألاّ نقول شيئاً، ويستحسن أن نبدأ في التسبيح والاستغفار.
مَن أَطاعَ غضَبَهُ، أَضاعَ أَدبَهُ.
مَن غَضِبَ مِن لا شيء رضِيَ بِلا شيء.
التصرُّفُ في حالةِ الغضبِ كالإبحارِ خلالَ العاصفة.
حقاً إنها أقوالٌ من ذهب لمن يعتبرها قبل أن يقوم بأي رد فعل مبني على الغضب.
والآن هل ما زلت تشعر بالرغبة في الانتقام؟! وفي التنفيس عن غضبك؟!؛ إذاً يمكن أن يكون التعبير الخطي عن الغضب أمراً علاجياً؛ وذلك بالتدوين في صحيفة أو في يوميات أو على الإنترنت، أو في رسالة غضب خطية موجهة إلى الشخص الذي يدور حوله الأمر؟!.
إذا كنت ستكتب رسالة غضب أفعل الآتي:
• أكتبها وأنت غاضب فعليا (حتى تصب جام غضبك على من أنت غاضب عليه)، وليس عند شعورك بأنك هادئ (لأن ذلك يعكر من صفاء ذهنك).
• أكتب كل الأشياء التي أغضبتك، ثم أكتب ما تريد أن تفعله نحو ذلك الشخص الذي أغضبك.
• أكتب بسرعة، ولا تقلق من اطلاع أي شخص آخر على تفاصيل تلك الرسالة.
• لا تبعث الرسالة فهي تهدف إلى التعبير عن أفكارك وليس هدفها هو تقاسمها مع غيرك.
• لا تعُدْ لقراءة الرسالة من جديد.
• دمر الرسالة حيث أن كتابة الرسالة كانت تمرينا أدى غرضه، أما الآن فتخلص منها لسلامتك ولراحة بالك.
لا تحاول استفزاز الآخرين، وإن كان ذلك الاستفزاز ممتعا لبعض الناس أحياناً، وخصوصاً إذا كان ذلك الاستفزاز من أشخاص قد أثاروا حنقنا وغيظنا في مناسبات سابقة. وتذكر دائما أن من خدم الناس وأحسن إليهم وبذل لهم بعضاً من الفائض عن حاجته وتسامح وعفا عن زلاتهم أحبوه واحترموه ووقروه، وفي المقابل من أساء إلى الناس لم يسلم من شرورهم وأذاهم. وصدق المثل القائل: "اتق شر من أحسنت إليه بدوام الإحسان إليه"؛ ولكننا دائماً لا نذكر الجزء الأخير من هذا المثل وهو في غاية الأهمية!!.
من أحسن للناس حسُنَ حاله ومن أساء إليهم لم ينجُ من أذاهم
قالت الذبابة للنحلة: صحيح أن جناحك جميل وحجمك كبير ولونك زاه إلا أنك لا تفوقينني في شيء، فأنا أملك جناحا مثلك ولوني يا نحلة أزهى من لونك، ثم إن حجمي الصغير لا يضيرني، بل يعينني على الطيران السريع، ويمكنني من الانقضاض حين أريد والانطلاق متى أشاء.
لم تجب النحلة حيث أنها كانت مشغولة بامتصاص الرحيق، وعندها تضايقت الذبابة فعادت إلى المباهاة ثانية حيث قالت: لا أنكر أن لديك إبرة دقيقة تلسعين بها، لكنني أذكرك بخرطومي الدقيق أيضا، والذي أرتشف به القاذورات.
أصرت النحلة على التزام الصمت واستمرت في امتصاص الرحيق حيث أنها تحب إذا عملت عملا أن تتقنه. لم تيأس الذبابة واستمرت في محاولة استفزاز النحلة ولفت انتباهها بأية وسيلة، حيث بدأت بالطيران والدوران حول النحلة وهي تطن طنينا مزعجا لعلها تحقق النجاح فيما تصبُ إليه.
وأخيرا التفت النحلة إليها ولكن كانت ترمقها باحتقار، وقالت بلهجة قاسية: "لا أحب أن أضيع وقتي مع اللاهين، ولكن غرورك لا يطاق، هل تظنين يا ثرثارة أن ما ترددينه يرفع من منزلتك؟".
قالت الذبابة: "وماذا يهمني من الحب والاحترام ما دمت سعيدة وأحقق ما أريد وأعيش كما أرغب؟".
قالت النحلة: عجبا لك وهل هذه سعادة، إن سعادتك الحقيقية هي في خدمة الآخرين وليس في إيذائهم.
قالت الذبابة (وهي تلعق بقايا نتنة): وماذا تقدمين أنت للآخرين؟!، إني أراك تلعبين بين الزهور؟!.
قالت لها النحلة: ألا أقدم للناس عسلا فيه شفاء للناس؟
قالت لها الذبابة: نعم لقد تذوقت طعم هذا العسل، ولكنك يا مسكينة تتعبين كي يقطف الآخرون ثمار تعبك.
قالت لها النحلة: إذن فأنت ترين أني أخدم الآخرين، أما أنت فتنقلين المرض من الجراثيم التي تحملينها.
قالت الذبابة: هكذا أنا أعشق القاذورات ولا يهمني أن يمرض الناس أو لا يمرضوا.
قالت لها النحلة: ولكن الناس لن يتركونك حرة طليقة!.
قالت الذبابة متهكمة: الناس المساكين حاولوا مرارا قتلي بوسائل عديدة ولكن لم يفلحوا معي.
احتدم النقاش بينهما، وبينما هما على هذه الحالة اقترب طفل من مكانهما؛ وبدأ يلعب بين الأزهار، فخطر على بال الذبابة خاطرا شريرا بأن تزعجه وطلبت من النحلة مساعدتها لكن النحلة رفضت ذلك، وقالت لا أحب أن أزعج الآخرين. طارت الذبابة صوب الطفل وحطت على وجه وبدأ الطفل في هش الذبابة دون جدوى ثم حطت على يده، فكتم الطفل أنفاسه وحرك يده الأخرى بحذر حتى ضرب الذبابة بيده الأخرى فتحولت إلى أشلاء متناثرة.
نظرت النحلة طويلا إلى أشلاء الذبابة المتناثرة وقالت: ليتها اتعظت من كلامي ثم طارت النحلة إلى زهرة قريبة متفتحة.
فاحذر أخي العزيز أن تكون مُستفِزا كالذبابة التي تحط بوزنها وثقلها على وجوه البشر، وكلما أزاحها البشر بأيديهم آبت إليهم في لجاجة وإلحاح، ولكن كن كالنحلة التي لا تحط إلا على الزهور لتفيد وتستفيد، فالنحلة تساعد على نقل حبوب اللقاح من زهرة إلى أخرى، وفي نفس الوقت تمتص رحيق الزهور لتصنع منه العسل.
والآن هلم بنا نناقش قضية هامة، ألا وهي ارتكاب المعصية من ابن آدم في حق الخالق العظيم... سبحانه وتعالى رب كل شيء ومليكه.... والذي نهانا عن معصيته وفرض علينا طاعته... ولأن ضبط النفس جانب من جوانب تأكيد الذات؛ فإن المعصية هي على النقيض من تأكيد الذات، بل هي تحقير للذات الجميلة التي خلقها الله عز وجل في أحسن تقويم... أليس كذلك؟!!
في الحقيقة وجدت هذه المناقشة العقلانية الجميلة في أحد كتب الشيخ محمد الغزالي القيمة؛ فنهلت منها مع إضافتي لما وجدته مفيداً لبعض مرضانا وذويهم من تصحيح لبعض المفاهيم الخاطئة عن الاضطرابات النفسية.
هل المعصية اضطراب نفسي؟
في أحيان كثيرة يتجه البحث العلمي إلى اعتبار عوج السلوك وارتكاب المحظورات ظواهر لأمراض نفسية كامنة. ويفسر وقع الجرائم على أنها أعراض تستوجب العلاج الحكيم للإضرابات النفسية التي تختفي وراءها. ولو عُد العصيان مرضا فيجب التفكير في مداواته قبل اعتباره جريمة تستوجب القصاص من صاحبها، إنه أمر يستحق النظر العميق على ضوء التعاليم التي جاء الإسلام بها. لذا يتبادر إلى الذهن هذا السؤال: هل المعصية مرض؟
يوضح القرآن الكريم في أكثر من موقع للإجابة:
"فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ" (البقرة:10)
"يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً" (الأحزاب:32).
"وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً" (الأحزاب:12).
في الآية الأولى مرض القلب هنا ليس سرعة نبض ولا بطء خفقانه. وفي الآية الأخرى يقصد بالمرض هنا ما يتخلف في نفوس الناس من اضطراب الغريزة الجنسية اضطرابا يجعلها تطمع في غير مطمع، ويشرد زمامها حيث يجب أن تقف وتستكين. والله عز وجل يرد لنساء نبيه صلى الله عليه وسلم منزلة تعلو على هواجس النفوس. وفي الآية الثالثة سبق وصف النفاق بأنه مرض، وجرثومة هذا المرض تنمو مع ضعف الشخصية وانحلالها. وهذه الآية قد يكون معناها: وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض. فهي صفات متعاطفة يكشف بعضها خفاء بعض.
وقد جمعت سورة الأحزاب هذه الأصناف كلها في قوله تعالى:
"لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً"(الأحزاب:60). وقد جاء هذا التهديد بعد أمر عام لنساء المؤمنين بالاحتشام التام في ملابسهن، مما يدل على أن المقصود بالذين في قلوبهم مرض هم الشبان والكهول على السواء المتسكعون في الطرق المتتبعون للعورات.
والأمراض النفسية تتفاوت خفة وحدة، ويتفاوت معها ما ينشأ عنها من مخالفة للشرع والقانون وشذوذ عن الأعراف والتقاليد الفاضلة. على أن المجرم مهما كان مريض النفس فلا يمكن إخلاؤه من المسئولية الجنائية وتركه طليقا دون أية مؤاخذة. والإسلام ينظر إلى هذه الأحوال المرضية نظرتين مختلفتين:
فهو يضع الحدود والعقوبات التي لا بد منها لصيانة المجتمع وتدعيم أركانه والمحافظة على مثله العليا؛ ومن ثم فهو يجلد ويرجم ويقطع ويقتل.
والأخرى يرسل نظرة عطف إلى المجرم نفسه على حساب أنه مريض. فهو يحتاط في الحكم عليه ويجعل القاضي أن يخطئ في العفو خيرا من أن يخطئ في العقوبة، ويأمر بالدعاء له لا الدعاء عليه.
وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالنظرة الرحيمة وقال: لا تلعنوه، فو الله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله، وهذه الرواية هي التي أوصت بالستر على المخطئ وإعطائه الفرصة التي يصلح بها نفسه والتشفع له قبل أن يصل الأمر إلى القضاء، عساه يرجع عن غيه ويبرأ من علته ومعصيته.
وفي ذلك الموضع الدقيق من علاج النفس تساق أحاديث الرجاء وآيات الرحمة. والنصوص الكثيرة التي تفتح عيني الإنسان على آفاق بعيدة المدى من غفران الله ورضوانه، والتي لا تسد منافذ الأمل أمام نفسه أبدا. مثل قوله تعالى للمسرفين على أنفسهم بالخطايا والذنوب: "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ"(الزمر:53).
ومما قصد بهذا النص هو تشجيع المجاهد لهواه على المضي في طريقه، لا تقفه عثرة ولا تلويه عقبه ولا تنكسر عزيمته في الخير لكثرة ما اقترف من الشر ولا يقنط من رحمة الله مهما صنع مادام يريد استئناف حياة أنقى وأفضل.
وللإسلام تعاليم إيجابية لكي يكتسب المؤمن منها صحته النفسية وعافيته الروحية، ويخطئ من يحسب العبادات التي شرعها الإسلام ضربا من الطقوس التي تؤدى في جو من الغفلة السائدة والفناء في مجهول غير مفهوم. ولكن العبادات التي تم تكليف المسلم بها هي أساس مكين لصحته النفسية. والحكمة المذكورة في تشريعها أنها وقاية من المضار والأوزار وأنها نظافة تغسل الروح مما لحق به من فتن وذنوب، وذلك إذا وقع المرء في خطيئة أو ذنب.
وكلا الأمرين –الوقاية والنظافة– هما سبيل العافية والبعد عن الأمراض النفسية (المعاصي والسيئات). إن التعبد بتلاوة القرآن مثلا ليست الغاية منه ترديد الألفاظ المقدسة، بل المقصود أن تتصل الروح بالوحي لينتعش الإنسان ويتطهر ويرقى حين يناجي الله عز وجل بدلاً من الإخلاد إلى الأرض واتباع الهوى: "وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً "(الإسراء:82).
ولو اشتغل المجتمع المسلم بما طلب منه من جهاد دائم وما كلف به من صلوات جامعة لما وجد متسعا من الوقت لجرائم الفراغ والبطالة، ولا نحلت عقد كثيرة من تلقاء نفسها في ميادين العمل السامي إلى الأهداف المرسومة. غير أن هناك فارقا بين أن يوصم المرء بالجنون مثلا وبين أن تصدر عنه أفعال تعد كشعبة من شعب الجنون، ويقال للإنسان – إذا صدرت عنه: أما بك عقل؟، وقد قال الله تعالى لأحبار اليهود:"أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ" (البقرة:44).
وأكثر الأمراض النفسية شيوعا ما ينشأ –كما ذكر القرآن في غير موضع– عن اضطراب الغريزة الجنسية أو عن الشعور الإيجابي أو السلبي بالذات – كما يعبر علم النفس. ومن مرض الغريزة الجنسية تتولد الجراثيم المسببة للزنى واللواط والسحاق والعشق الخيالي والتذلل للمحبوب............. إلخ.
ومن مرض الشعور الإيجابي الزائد بالذات ينشأ الفخر والخيلاء والتكبر و الهوس وجنون العظمة. ومن مرض الشعور السلبي بالذات تتولد مركبات النقص والتلون والنفاق والمقت والقلق والمخاوف المرضية والهلع والوسواس والاكتئاب وتوهم المرض، وقد يكون الإحساس بالضعة باعثا على الكبر والفخر بشكل حاد ومثير.
والإسلام يتعهد النفس بالعبادات فيحصنها ضد هذه الأمراض ويخفف من آثارها إذا أصيبت بها. والقول بتخليد العصاة في جهنم أو العفو عن بعضهم والتنكيل بالبعض الآخر إلى حين، يقترن بهذه الملابسات التي أطلنا سردها ورفضنا إخضاع الحكم فيها للجدل والسفسطة وألاعيب المنطق القديم. فالعدل كمبدأ والعقاب كجزء منه لا مناقشة فيهما. ولكن أي المجرمين ينبغي أن يتجرد له العدل؟ وأيهم يعامل بالعدل مع الرحمة؟ وأيهم هو المريض الذي تتجرد له الرحمة التامة؟ إنهم مختلفون بلا ريب.
فصور النفوس أشد تنوعا من صور الوجوه، والإرادة والوعي ها هنا أساس التنوع والاختلاف. لا حاجة بنا إلى بيان ما يستحقه كل نوع، فهذا واضح كل الوضوح، وإذا كان قضاء البشر لا يأبى الرحمة على من يستحقها كاملة، ولا العدل على من يستحقه مجردا، ولا هما معا على من يستحقهما معا، لأن واضعي القوانين والقضاة بين الناس لا يضعونها ولا يحكمون وهم آلات صماء.
ونجد أن طب النفس الجنائي (الشرعي) يتفق مع تلك الآراء، فإذا ارتكب المريض النفسي -بأحد اضطرابات الشخصية أو الاضطرابات العصابية– جُرماً قانونياً فللقاضي الحق في توقيع العقوبة القانونية عليه، وقد يخفف المحلفون والقاضي الحكم باختيار أقل عقوبة مشروعة أحياناً رفقاً بحالته النفسية المضطربة، ولا يُرفع قلم العقاب وتنفيذ أحكام القانون إلا عن من ذهب عقله "المجنون" وقت ارتكابه لجريمته فهو غير مستبصر ولا مدرك ولا واعي ولا مميز لما ارتكبه من جرم يُعاقِب عليه القانون، وليس لديه القدرة على تمييز الحكم الصحيح على الأمور؛ فعندئذ يكون الحكم عليه بإيداعه وتوقيفه بإحدى المصحات النفسية (حتى يُشفَى من عنفه أو يتوفاه الله) العامة الخاضعة لإشراف من يطبقون أحكام القانون بالدولة؛ وذلك كي يكفوا أذاه عن الناس.
والقرآن يتحدث بحديثه الفياض عن صفات لله هي المثل الأعلى، من علمه المحيط بمن خلق وعدله الناصع الذي آثره لنفسه وأمر به الناس ورحمته الواسعة وإحسانه الجميل وعفوه السمح. وهي صفات من الأدب أن نقول إنها غير عقيمة أو غير سلبية أو غير موقوتة بهذه الحياة الدنيا.
ومعاملة الله للناس فيما يشرع لهم وفيما يقضي بينهم لا بد أن تكون مظهرا تظهر فيه هذه الصفات ومجالات تبدو فيه آثارها الجميلة. والله أمن وأفضل وله المثل الأعلى في السماوات والأرض. إن الإيمان يستلزم العمل كما يستلزم النهار الضوء.. وقد يثور في رائعة النهار غبار يحجب الأفق أو تتكاثف غيوم تملأ الأرض بالظلام، بيد أن ذلك لن يرد النهار ليلا. إذ هو عرض زائل، طال أمده أم قصر، فلن تلبث أشعة الشمس أن تغمر الأرجاء بالدفء والضياء. كذلك نور الإيمان قد تحجبه إلى حين غيمة من شهوة عارضة، فتغيم جوانب النفس حتى لا يكاد المؤمن يرى النهج ثم يعمل الإيمان عمله، فإذا الأمر كما قال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ "(الأعراف:201).
أما الظلام المطبق للمعاصي الدائمة، فذلك حيث يخيم ليل الكفر وتغيب شمس الإيمان ويفقد المرء حاسة البصر تماما، فهو لا يعرف لله طريقا:"وَمَن كَانَ فِي هَـذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً" (الإسراء:72).
إن قصة المخلوق الناجي كما مثلها أبونا آدم "خطأ ومتاب". وقصة المخلوق الهالك كما مثلها إبليس "جريمة وإصرار". فاختر لنفسك ما يحلو، وليس الحساب من مغالطات المنطق والتلاعب بالنصوص ولكنه إلى الله، وكفى بالله حسيبا. ولكن لابد لنا من وقفة هنا ألا وهي أن البعض يتصور أن كل الأمراض النفسية تنشأ عن نقص في إيمان الشخص المريض، وهذا الكلام لا يُطلق على عواهله فبعض الناس من أهل الصلاة والصيام والقيام والزكاة والحج -ولا نزكي على الله منهم أحداً– قد يُصابون ببعض الاضطرابات النفسية، وقد يعوقهم المرض النفسي عن أداء بعض العبادات في أثناء ثورة مرضهم النفسي، وكم من مريض نفسي جاء يشكو لي ويبكي وينتحب قائلا: "هل مرضي النفسي ناتج عن نقص إيماني بالله؟ هل أنا ضعيف الإيمان يا دكتور؟
وردي على هؤلاء هو: "لا"، لأن من بكى وخاف على ضياع إيمانه هو من السبعة الذين سيظلهم الله عز وجل بظله يوم لا ظل إلا ظله؛ فهو صاحب عين بكت من خشية الله، وهو ممن قال عنهم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه. فلا يستطيع ولا يجرؤ أي شخص أن يتهم شخصا آخر بضعف الإيمان لأنه مريض نفسي، ولقد أثبت العلم الحديث أنه يوجد تغيرات عضوية في المخ لدى المرضى المصابين بمختلف الاضطرابات النفسية، وهذا معناه أن المريض النفسي يشبه أي مريض عضوي آخر، كمريض ضغط الدم أو السكري أو مرضى الغدد الصماء أو مرضى القلب.
ودليل آخر على كلامي هذا هو أن المرض العضوي نفسه قد يتسبب في كثير من المرضى المصابين به في حدوث اضطرابات نفسية مختلفة يكون منشأها ذلك المرض العضوي، بل أن بعض العقاقير الطبية مثل حبوب منع الحمل مثلا قد تتسبب في حدوث الاكتئاب أو القلق لدى بعض السيدات، والعلاج الكيماوي لمرضى السرطان، والذي قد يتسبب أحياناً في حدوث ضلالات وهلاوس "أي ذهان عضوي"، وبعض العقاقير قد تدفع إلى الاكتئاب المفضي للانتحار إذا لم تكن تحت إشراف طبي دقيق مثل بعض الأدوية الخافضة للدهون، وبعض الأدوية الخافضة لارتفاع ضغط الدم، وهلم جرا من الأدوية التي يمكن أن تسبب اضطرابات نفسية، والتي لن أكثر من ذكرها في هذا المقام حتى لا يهجرها الناس من أصحاب الأمراض العضوية المزمنة والذين يلزمهم استخدامها تحت إشراف طبيبهم المختص!!.
وكم رأيت من صالحين –ولا أُزكّي على الله أحدا، أحسبهم كذلك– يُعالجون من اضطرابات نفسية لعقود من الزمن، ولم يزدهم الابتلاء بالمرض النفسي إلا قربا من الله وتوددا إليه سبحانه وتعالى، لدرجة أنني أصبحت صديقا لبعضهم بعد أن كنت معالجا متخصصاً فقط مهنته أن يسترزق من هؤلاء المرضى المبتلين بمرضهم النفسي؛ متأسيا في ذلك قول سيدي الإمام الشافعي:
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارته المعاصي وإن كنا سواءً في البضاعة
أما إذا أردتم أن أذكر لكم بعض أهل العلم والخير والصلاح من أسلافنا والذين أصيبوا ببعض الاضطرابات النفسية، وقد تم ذكر ذلك في بعض كتب العلماء السلف، ولم يمنعهم ذلك من الوصول إلى أعلى المناصب!!، فهذا هو ابن دقيق العيد الذي كان تلميذا للشيخ العز بن عبد السلام، وكان متقناً لفقه المذهبين الشافعي والمالكي، وقد تولى منصب قاضي القضاة بعد وفاة أستاذه الشيخ العز بن عبد السلام، وذلك بتوصية من الشيخ العز نفسه قبل وفاته، وقد ذُكِر أن الشيخ ابن دقيق العيد قد أصيب باضطراب الوسواس القهري والذي ازداد في شيخوخته، وكان أهم أعراضه تكرار الوضوء والاغتسال لدرجة أن الله توفاه وهو يُكثر من الاغتسال في حمامه الخاص.
وقد ذكر الإمام الشعراني في كتابه "لطائف المنن والأخلاق في وجوب التحدث بنعمة الله على الإطلاق المعروف بالمنن الكبرى" عدداً من الشيوخ والقضاة والصالحين الذين أُصيبوا باضطراب الوسواس القهري، ووصف أعراض هذا الاضطراب لديهم.
ويتبع >>>>>>>>>>> تأكيد الذات في التراث الإسلامي