امرأة تؤكد ذاتها بقوة
الفصل الثامن
هو أبو عبد الرحمن عبد الله بن محمد الأذرمي، وهو شيخ النسائي وأبي داود من أصحاب كتب الصحاح في الحديث. ولقد كان له موقف مشرف من بدعة المعتزلة في القول بخلق القرآن الكريم، هؤلاء المعتزلة الذين كانوا يسمون كل من خالفهم هذا الرأي من أهل العلم بأنه زنديق يُستحل دمه، أو تعذيبه أو سجنه على الأقل، وكان أول من نادى بهذه البدعة على عهد الخليفة المأمون هو أحمد بن أبي دؤاد وكان من المقربين للخليفة المأمون الذي -اعتنق فكر المعتزلة- رغم كونه من أكثر خلفاء المسلمين قاطبة مطالعة ومدارسة للعلم بفروعه المختلفة.
ففي عهده تم ترجمة معظم الكتب اليونانية القديمة في المنطق والفلسفة والرياضيات والفلك والطب وغيرهم من فروع العلم، لدرجة أن الكتاب المترجم كان يُعطى مثل وزنه ذهبا لمن ترجمه، وهو الذي أنشأ دار الحكمة في بغداد، والتي كانت تعد أكبر مكتبة في العالم في ذلك الوقت من حيث ما حوته من عدد المخطوطات بمختلف لغات العالم، لكن الهدى هدى الله يهدي إليه من يشاء ويضل من يشاء، وظلت هذه الفتنة قائمة بعد وفاة المأمون، في عهد الخليفة المعتصم، ثم انتهت في عهد الخليفة الواثق بالله على يد الشيخ الأذرمي، بعد أن عُذِب فيها الإمام أحمد بن حنبل وسجن لأكثر من عامين، وقتل فيها من التعذيب محمد بن نوح من علماء العراق، وحتى الإمام البخاري أوذي في هذه الفتنة؛ فقد أتى البخاري -صاحب كتاب الصحيح- مدينة نيسابور وكان فيها محمد بن يحيى الذهلي يحدث الناس، فترك الناس مجلسه وأقبلوا على مجلس البخاري ليسمعوا منه.
فحسده محمد بن يحيى ودس عليه رجلا ليسأله على ملأ من الناس: يا أبا عبد الله ما تقول في التلفظ بالقرآن مخلوق هو أم غير مخلوق؟ فأعرض عنه البخاري، فأعاد الرجل السؤال ثلاث مرات. والبخاري يعرض عنه في كل مرة، وأخيرا قال له: القرآن كلام الله غير مخلوق، وأفعال العباد مخلوقة، والامتحان بدعة، فتعالت الأصوات في المجلس بين مؤيد ومعارض, وأذاع محمد بن يحيى الذهلي بين الناس أن البخاري رجل مبتدع لا ينبغي أن يٌجالس، وكل من يأتي مجلسه فهو متهم أيضا، فانفض عنه الناس واضطر أن يغادر نيسابور إلى بلده بخارى، فلم يشيعه عند مغادرته أحد إلا أحمد بن سلمه!.
ولذا أخذ "بالتقية" معظم العلماء مخافة التعذيب أو السجن أو القتل، ثم توجه ابن أبي دؤاد لامتحان العلماء في خارج العراق، ومنهم الشيخ الأذرمي من "أذنة"، وهي مدينة "أضنة" بالأناضول في تركيا الآن.
إمتُحِن الشيخ الأذرمي فلم يقل بخلق القرآن، فأٌشخص إلى الخليفة الواثق بالله، فأمر أحمد بن أبي دؤاد أن يناظره، فقال له ما تقول في القرآن، هل هو مخلوق أم غير مخلوق؟ فقال الأذرمي: لم تنصفني يا ابن أبي دؤاد، قبل أن أجيبك أريد أن أسألك خبرني عن مقالتك هذه أهي واجبة داخلة في عقيدة الدين فلا يكون الدين كاملا حتى يقال فيه ما قلت؟!
قال: نعم.
فقال الأذرمي أخبرني عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم حيث بعثه الله تعالى، هل ستر شيئا مما أمر به؟
فلم يرد ابن أبي دؤاد.
قال الأذرمي يا أمير المؤمنين، هذه واحدة.
فقال الواثق نعم هذه واحدة.
وكان الأذرمي قد طلب من الخليفة الواثق أن يكون شاهدا عليهما.
قال الأذرمي: أخبرني عن الله سبحانه وتعالى حين قال [...... الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ] (المائدة : 3 ) أكان الله تعالى هو الصادق في قوله [اليوم أكملت لكم دينكم] أم أنت الصادق في نقصانه حتى تقول مقالتك؟ فسكت ابن أبي دؤاد.
فقال الأذرمي يا أمير المؤمنين هذه اثنتان.
قال الخليفة الواثق نعم اثنتان.
ثم قال الأذرمي يا ابن أبي دؤاد مقالتك هذه أعلمها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم جهلها؟
قال ابن أبي دؤاد: بل علمها.
قال الأذرمي فهل دعا الناس إليها؟ فسكت ابن أبي دؤاد. قال الأذرمي يا أمير المؤمنين هذه ثلاث فقال الواثق نعم ثلاث.
قال الأذرمي: هل اتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إن علمها أن يمسك عنها ولا يطالب أمته بها؟!!.
فقال ابن أبي دؤاد: نعم
قال الأذرمي: "وهل اتسع لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ذلك؟"
فقال ابن أبي دؤاد: نعم
فقال الأذرمي: "أفلا وسعك ما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم ووسع الخلفاء الراشدين بعده؟!!!" فسكت أحمد بن أبو دؤاد.
وجعل الواثق يقول: "أفلا وسعك ما وسعهم؟ أفلا وسعك ما وسعهم؟ ثم أمر بفك قيد الشيخ الأذرمي"، ولما فكوه أخذ الشيخ ذلك القيد.
فقال له الواثق لم أخذته؟
فقال إنني نويت أو أوصي أن يوضع بين جلدي وكفني عندما أموت، حتى أخاصم به هذه الظالم عند الله تعالى يوم القيامة، فأقول له يارب لم قيًدني وروع أهلي ثم بكي، فبكي الواثق ومن حضر المجلس. وسأله الواثق أن يجعله في حلٍ من ترويعه وتعذيبه وأمر له بأربعمائة دينار، فقال لا حاجة لي بها ولم يأخذها. وبعد هذه المناظرة أمسك الواثق عن التمادي في القول بخلق القرآن. والرجل الذي يأنس من نفسه قوة الاستجابة لدواعي الحق يواجه من شاء بما شاء مثل الشيخ الأذرمي - ولا يتوارى أبداً ليطعن من وراء ستار.
وتحريم الإسلام للغيبة فيه محافظة على رجولة المسلم، وإمساك لعنصر القوة فيه، وفيه شيء من تأكيد الذات للنفس والغير، فإن الشخص الذي ينخنس لينفس عن أحقاده في الخفاء بذكر المعايب المستورة أو المعروفة هو لا شك شخص وضيع، لا تستبعد منه أبداً الانحناء أمام الأقوياء من ذوي النفوذ و السلطان ذلاً ومهانة، وفي نفس الوقت هو يتطاول على عباد الله من الضعفاء المنكسرين. إن الغيبة من شيم الضعفاء "وكل اغتياب هو جهد من لا جهد له". وليس معنى ذلك أن نجابه بالسوء من نود مساءاتهم، بل إذا وجدنا في امرئ ما عيبا فنحن بإزائه بين أمور معينة:
إن كان هذا العيب عاهة في بدنه، أو ضآلة في مرتبته، فمن السفاهة التشنيع عليه به، فليس من خلق توكيد الذات ذم الآخرين أو غيبتهم. وإن كان ذنبا انزلق إليه شخص ما، وليس من شأنه أنه يفارقه دائما، فإنما هي كبوة الجواد، فمن الدناءة أن نفضح مثله، وأن نشهر به بين الناس.
أما إذا كان العيب الذي وجدناه جرأة مستهتر، أو معصية مجاهر، فهذا الذي يجب أن يقابل بكلمة الحق، تقرع أذنيه دون مبالاة. وهناك عالم جليل لم تمنعه مودته ومنادمته لخليفة المسلمين من رد غيبة سيدنا علي وولديه الحسن والحسين رضي الله عنهم وأرضاهم جميعا، ولم يقبل حتى مقارنة حبه لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم بأبناء الخليفة الذين يقوم بتعليمهم وتأديبهم إنه:
يعقوب بن السِّكِّيت رحمه الله تعالى:
أصله من خوزستان، إمام في اللغة والأدب والنحو، وله كتب كثيرة في اللغة والأدب. كان نديما للخليفة المتوكل على الله، كما ألزمه بتأديب ابنه المعتز. وفي يوم من الأيام كان ابن السكيت في مجلس الخليفة المتوكل فدخل عليهم ابناه المعتز والمؤيد فقال لابن السكيت يا يعقوب أيما أحب إليك ابناي هذان أم الحسن والحسين رضي الله عنهما، (وكان من أهل النصب، أي يعادي ويكره آل البيت من أبناء عمومته من أبناء علي بن أبي طالب رضي الله عنه)، كأنه كان يريد أن يختبر نديمه ومعلم أبنائه، هل هو ممن يحبون آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فانتفض ابن السكيت وثارت حميًته وكأنً الذي يكلمه فرد من الناس وليس الخليفة - وكان يمكنه مداراة هذا الخليفة، وهو العالم الفقيه الممسك والملم بأسرار اللغة والشعر والقرآن والحديث، والدليل على ذلك أنه أثناء تدريسه للمعتز، ابن المتوكل وولي عهده، قال له إذا سألك أمير المؤمنين عن آخر سورة حفظتها فلا تقل النازعات ولكن قل: "السورة التي بعد سورة عبس".
وهذا يدل على مدى دقته في استخدام كلمات اللغة، فهو يخشى أن يسمع نديمه المتوكل كلمة النزع، وهي التي ذكرت في القرآن من قبل بمعنى نزع الملك ونزع الروح من عباد الله!! - ولكن هذا العالم "يعقوب بن السكيت" أبى إلا أن يسمع الخليفة المتوكل أقذع الكلام عندما تعلق الأمر بغيبة آل بيته صلى الله عليه وسلم، والتعريض بهم؛ فاستمع معي لما قاله لهذا الخليفة الظالم، وهذا نموذج لكلمة الحق عند السلطان الجائر:
"والله إن قنبرا خادم أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب رضي الله عنه خير منك ومن ابنيك، فضلا عن الحسن والحسين رضي الله عنهما سيدا شباب أهل الجنة"، فغضب المتوكل غضبا شديدا وأمر رجاله الأتراك أن يطرحوه أرضا ويدوسوا بطنه، فطرحوه وداسوه ثم حملوه إلى داره فمات من غده.
ولكن ما أعظم العدل الإلهي؛ فلقد قُتل هذا الخليفة على يد رجاله من الأتراك بعد ثلاث سنوات من قتله لابن السُكِّيت، ليس هذا فحسب بل شارك في قتله ولده محمد المنتصر، ليكون ذلك شؤما وحسرة عليه، لأن شيرويه بن كسرى قتل أبيه من قبل طمعا في الملك، ثم لحق به حسرة وكمدا في غضون ستة أشهر، تماما كما حدث للمنتصر قاتل أبيه؛ فليعتبر الظالمون بذلك!!
ولكي تكون هذه الكلمة خالصة ينبغي أن تبتعد مشاعرنا عن الشماتة وحب الأذى، وأن تقترن بالرغبة المجردة في تغيير القبيح، وإصلاح الفرد والجماعة. وليس من هذا البتة أن تذكر العاصي بشرٍ عند أعدائه لتقترب من قلوبهم، أو لتطعم من موائدهم، أو لتتظاهر بالبراءة من الخصال الذي ذممتها فيه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أكل برجل مسلم أكلة، فإن الله يطعمه مثلها من جهنم، ومن كسى ثوبا برجل مسلم فإن الله يكسوه مثله من جهنم، ومن قام برجل مسلم مقام سمعة ورياء، فإن الله يقوم به مقام سمعة ورياء يوم القيامة" – أخرجه أبو داوود.
والإسلام يكره أولئك الذين يعيشون في الدنيا أذنابا، تغلب عليهم طبائع الزلفى، والتهافت على خيرات الآخرين، ويحبون أن يكونوا في هذه الحياة كالضباع التي تقتات من فضلات الأسود. إن المسلم أكبر من أن يربط كيانه بغيره على هذا النحو الوضيع. بل يجب أن ينأى عن مواطن الهوان، وأن يضرب في فجاج الأرض يبتغي العزة والكرامة.
وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحاب الجنة وخلالهم، وأصحاب النار وخلالهم، فعد فضائل القوة والكرامة والنبل في الأولين، وقرن رذائل الهوان والاختلاس والعجز والتلاعب بالآخرين. وقال: "أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال. وأهل النار: الخائن الذي لا يخفى له طمع –وإن دق– إلا خانه. ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك. وذكر البخل والكذب والشنظير الفحاش (سيء الخلق الفحاش)، وإن الله أوحى إليً أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد" . – أخرجه مسلم.
على أن هناك أمورا قد تعرض للمسلم فينوء بها، وربما يهون في نفسه ما دامت مصاحبة له. فالتعاسة النفسية والهوان الاجتماعي قد يضغطان على الإنسان ضغطا يقعده، ويجعله سيء التفكير، كثير التشاؤم، قليل الإنتاج، وواجب المسلم أن يبذل كل جهد للتملص من هذه القيود الكئيبة والخروج من مآزقها القابضة.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بربه من هذه المصائب الهدامة: "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال" – أخرجه أبو داود.
والصبر والرجاء، هما عدة اليوم والغد، يتحمل المرء في ظلهما المصائب الفادحة فلا يذل، بل يظل محصنا من نواحيه كلها، عاليا على الأحداث والفتن، لأنه مؤمن، والمؤمن لا يضرع إلا لله.
ويتبع >>>>>>>>>>> العلماء ومخالطة السلطان