جملة قصيرة وشهيرة وردت في إعلان تليفزيوني في رمضان يصور شابا في مواقف مختلفة لا يؤخذ له رأي ولا يعمل له أي حساب، وتتخذ القرارات الخاصة بحياته دون استشارته، وهو يقف سلبيا عاجزا مستسلما مقهورا أو حائرا مرتبكا. ويبدو أن الأمر تخطى الموقف الإعلاني البسيط وجاء على الجرح، لأن هذا الإعلان وجد انتشارا كبيرا وتعليقات واسعة في الحياة العامة وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، وأصبح "تيمة" يوصف بها كثير من الشباب في مواقف متعددة حين يستبعدون من القرارات الأسرية أو من الخيارات المجتمعية.
وهذه العبارة "إنت ماحدّش بيعملّك حساب"، نراها في بيوتنا في الأبناء الذين يواجهون حالة من السلطوية أو التسلطية الأبوية (أو الأمومية). والفرق بين السلطوية والتسلطية، هو أن السلطوية تعني هيبة السلطة الأبوية (دون تعمد مباشر لذلك) ووقعها على الأبناء بحيث تجعلهم يتجنبون باختيارهم مخالفتها أو مواجهتها أو الخروج عليها، أما التسلطية فهي تعني قصد السلطة الأبوية فرض سطوتها بالقهر والترهيب وعدم السماح بالمخالفة أو الخروج مع إذعان الأبناء قهرا وخوفا لهذه الحالة التسلطية.
وقد وصفت التربية في العالم العربي بأنها تربية سلطوية أو تسلطية في أغلبها، ولهذا ابتعد العرب كثيرا عن الدخول في حالة الديموقراطية والتي دخل فيها أغلب شعوب العالم، على الرغم من الانتفاضات والثورات وحركات التمرد والمعارضة هنا وهناك، وذلك يعود إلى عاملين هامين أولهما تشبث السلطة التقليدية بالأنظمة الأبوية القديمة، وثانيها أن الشعوب نفسها قد تربت على الخضوع للسلطة الأبوية سواء كانت عادلة أو ظالمة، بل إنها تقلق وتخاف إذا غابت عنها تلك السلطة الأبوية، وكثيرا ما تسعى إلى إعادة خلق وتنصيب سلطة أبوية جديدة (قوية وقاهرة ومستبدة) تشعر في ظلها بالأمان وتضحي في سبيل ذلك بحريتها واستقلالها وحقها في المشاركة في القرارات التي تخص حياتها ومستقبلها، بل تدع كل ذلك (طواعية أو قهرا) في يد السلطة الأبوية.
والذهنية العربية قد تعبر حدود الهيبة والرهبة التي تضفيها على السلطة الأبوية وتبالغ في الأمر حتى تصل إلى تقديس أو تأليه تلك السلطة، ليس حبا في السلطة ولكن راحة لأنفسهم حتى يعيشوا في حالة طمأنينة إلى سلطة أبوية مقدسة تدير حياتهم وهم في غفلة نائمون. وبعد فترة قد تطول أو تقصر تصحو العقلية العربية على صدمة أو صدمات توقظها من هذه الحالة الإستسلامية المطمئنة اللذيذة للسلطة الأبوية، فتكتشف أن ذلك الأب أو الكبير قد مات أو باع أو سقط، فتعيش تلك العقلية حالة من اليتم والحيرة والخوف والضياع، لا تخرج منها إلا بصناعة سلطة أبوية جديدة، وتتكرر تلك الدورات بلا نهاية متوقعة، وكأنها عاهة نفسية مستديمة في التركيبة العربية والتي ترضى (في أغلبها) بحالة العبودية والتبعية، ولا تقلق حين تسلم إدارتها وخياراتها لسلطة أبوية مهما كانت طبيعتها، ولهذا لا يعمل لها أحد حساب.
وفي لحظات استثنائية قد يتمرد بعض الأبناء على تلك السلطة الأبوية في البيت أو المجتمع، ولكن سرعان ما تفشل تلك الحركات ويتضح أن الأبناء لم يصلوا بعد إلى حالة النضج التي تمكنهم من التوافق فيما بينهم وإدارة حياتهم بشكل أفضل، لذلك يسهل قمعهم وإعادتهم إلى بيت الطاعة من جديد.
وربما تكون هذه "التيمة" (انت ماحدّش بيعملّك حساب) لها صدى الآن في العالم العربي بعد تداعي ثورات الربيع العربي وإجهاضها، وهي كانت تمثل إيجابية الشباب وقدرتهم على تعتعة العديد من الأنظمة المستبدة والمستتبة في العالم العربي، ولكن دارت الأحوال في الاتجاه العكسي ونجحت ثورات مضادة في الانقضاض مرة أخرى وتم وأد تلك الثورات (الشبابية في الأساس)، ولم يجد هؤلاء الشباب وغيرهم سبيلا إلا الاستسلام أو الانتظار أو الخضوع لإرادة السلطة الأبوية التقليدية التي عاشوا تحت سطوتها سنوات طوال، وحلموا باستبدالها بنظم ديموقراطية حديثة من خلال انتفاضات وثورات شعبية واسعة بعضها كان سلميا وبعضها كان عنيفا، ولم تفلح أيها في التغيير حتى هذه اللحظة، بل لقد ازدادت النظم التقليدية الحاكمة تمسكا بالسلطة وحفاظا عليها وحذرا وتوجسا من أي بوادر تغيير.
واقرأ أيضًا:
مصر بعد الانقلاب: الأمن عاد، والخوف ساد! / الدم الرخيص / لديهم وزارة السعادة .. ولدينا سعادة الوزير2017 / الآثار النفسية لاتفاقية تيران وصنافير