لا لفرصة العمر
الفصل الرابع عشر
"للفُقَرَاءِ الَّذِين أُحْصِرُوا في سَبِيلِ اللهِ، لا يَسْتَطِيعوُنَ ضَرْبَاً فِي الأرْضِ، يَحْسَبَهُمُ الجَاهِلُ أغْنِياَء مِنَ التَعَفُفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لا يَسْألُونَ النَّاسَ إلحَافاُ "، البقرة 273 .
"للفُقَراءِ الّذِين أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ":أي حصرهم المشركون في المدينة.
"لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأرْضِ": كان أحدهم لا يستطيع أن يخرج يبتغي من فضل الله، كالتجارة مثلاً.
"يَحسَبَهُم الجَاهِلَ":أي يظن من لا يدري بأمرهم وحالهم أنهم:
"أغنياء" من تعففهم عن المسألة، وتركهم التعرض لما في أيدي الناس، صبراً منهم على البأساء والضراء. ويُقال أيضاً: يحسبهم الجاهل بأمرهم أغنياء من التعفف.
ويعني بقوله: "مِنَ التَعفُف"، تعني من ترك مسألة الناس.
وهو التفعل من العفة عن الشيء، والعفة عن الشيء تركه.
"تَعرِفُهُم" يا محمد، "بسيماهم"، يعني بعلاماتهم وآثارهم، من قول الله عز وجل:
"سيماهم في وجوههم من أثر السجود" [الفتح: 29]، وهذه هي لغة قريش.
وقد اختلف أهل التأويل في السيما التي أخبر الله جل ثناؤه أنها لهؤلاء الفقراء الذين وصف صفتهم، وأنهم يُعرفون بها.
فقال بعضهم: هو التخشع والتواضع لله وللمؤمنين.
وقال آخرون: يعني بذلك: تعرفهم بسيما الفقر، وجهد الحاجة في وجوههم .
وقال آخرون: معنى ذلك أنك تعرفهم برثاثة ثيابهم. وقالوا: الجوع خفي .
"لا يسألون الناس إلحافا" فيُقال: قد ألحف السائل في مسألته إذا ألح، فهو يُلحِفُ فيها إلحافاً.
عن أبي سعيد الخدري قال أعوزنا مرة فقيل لي: لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته؟! فانطلقت إليه معانقاً، فكان أول ما واجهني به قوله: من استعف أعفه الله، ومن استغنى أغناه الله، ومن سألنا لم ندخر عنه شيئاً نجده!، قال: فرجعت إلى نفسي فقلت: ألا أستعفف فيعفني الله!، فرجعت، فما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً بعد ذلك من أمر حاجة، حتى مالت علينا الدنيا فغرقتنا (أي بالمال والثروة)، إلا من عصم الله.
عن قتادة قوله: "لا يسألون الناس إلحافا"، ذكر لنا "أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: إن الله يحب الحليم الغني المتعفف، ويبغض الغني الفاحش البذيء السائل الملحف"، وهنا وإن كان هناك دعوة لمساعدة المُعسِر، مع تشجيع لمن يُقرِض الناس؛ فهذا من باب تفريج الكربات عن المسلمين، وعلى من يأخذ القرض أن يكون لديه صدق نية السداد في أقرب فرصة يتيسر له فيها سداد دينه، وكان صلى الله عليه وسلم يرفض الصلاة على أي واحد من صحابته يموت وعليه دين إلا بعد أن يقوم رجل من أقاربه أو أصدقائه بسداد دينه أولا؛ وذلك لعظمة ذنب عدم سداد الدين قبل وفاة المسلم!.
القاضي يرفض أمر الخليفة المنصور ويرد الأرض لصاحبها
أخرج عن عبد الله بن صالح قال: كتب المنصور إلى سوار بن عبد الله قاضي البصرة: انظر الأرض التي تخاصم فيها فلان القائد وفلان التاجر فادفعها إلى القائد، فكتب إليه سوار: إن البينة قد قامت عندي أنها للتاجر، فلست أخرجها من يده إلا ببينة، فكتب إليه المنصور: والله الذي لا إله إلا هو لتدفعنها إلى القائد، فكتب إليه سوار: والله الذي لا إله إلا هو لا أخرجتها من يد التاجر إلا بحق، فلما جاءه الكتاب قال المنصور: ملأتها والله عدلاً، وصار قضاتي تردني إلى الحق!.
وأخرج من وجه آخر أن المنصور وُشي إليه بسوار القاضي، فاستقدمه فعطس المنصور، فلم يشمته (لم يقل له يرحمكم الله) سوار، فقال المنصور، ما يمنعك من التشميت؟! قال: لأنك لم تحمد الله، فقال المنصور قد حمدت الله في نفسي، قال سوار: وأنا شمتك في نفسي، قال المنصور: ارجع إلى عملك فإنك إذا لم تحابني لم تحاب غيري، وهكذا يكون دفاع القاضي العادل عن أموال الناس فقراء كانوا أم أغنياء، فهو لا يجامل أحدا في حقوق البشر ولو كان ذلك الشخص هو خليفة المسلمين!.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خطبة من خطبه: تعلمون أيها الناس: أن الطمع فقر، وأن اليأس غنى، وأن المرء إذا يئس من شيء استغنى عنه فجعل عمر اليأس بإزاء الطمع، وسمعت أحمد بن المعدل ينشد شعراً لرجل من القدماء يصف ناقة:
صفراء من تلد بني العباس صيرتها كالظبي في الكناس
تـدر أن تسـمـع بالإبسـاس فـالنـفـس بيـن طمـع ويــاس
فجعل الطمع بإزاء اليأس
قال ابن إسحاق: كان أسامة بن حبيب، ونافع بن أبي نافع، وبحري بن عمرو، وحيي بن أخطب، ورفاعة بن زيد بن التابوت (من يهود المدينة)، يأتون رجالا من الأنصار كانوا يخالطونهم، ينتصحون لهم، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولون لهم: لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر في ذهابها ولا تسارعوا في النفقة فانكم لا تدرون علام يكون، فأنزل الله فيهم: "الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله" أي من التوراة، التي فيها تصديق ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم "وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا *والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر" إلى قوله: "وكان الله بهم عليما" (النساء: 37-39).
وفي الحث على الزكاة والصدقة والإنفاق الكثير من الآيات والأحاديث الصحيحة:
قال الله عز وجل: فيما يثني به على الذين يسمحون بأموالهم لأهل الحاجة إليها: "وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين * الذين ينفقون في السراء والضراء". وقال: "هدى للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون". إلى غير ذلك من الآيات وذم البخلاء في غير آية فقال: "الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا". وقال: "فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه". وقال: "والله لا يحب كل مختال فخور * الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد". وقال: "ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون".
وفي سورة يس نرى هذا الحوار بين المؤمنين المنفقين على من يستحق العون من الفقراء وبين الكافرين البخلاء بما أنعم الله عليهم من غنى ومال:
"وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله"، أعطاكم الله، "قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم"، أنرزق، "من لو يشاء الله أطعمه"، وذلك أن المؤمنين قالوا لكفار مكة: أنفقوا على المساكين مما زعمتم من أموالكم أنه لله، وهو ما جعلوا لله من حروثهم وأنعامهم، قالوا: أنطعم، أنرزق من لو يشاء الله رزقه، ثم لم يرزقه مع قدرته عليه، فنحن نوافق مشيئة الله فلا نطعم من لم يطعمه الله، وهذا مما يتمسك به البخلاء، يقولون: لا نعطي من حرمه الله، وهذا الذي يزعمون باطل، لأن الله أغنى بعض الخلق وأفقر بعضهم ابتلاءً، فمنع الدنيا من الفقير لا بخلاً، وأمر الغني بالإنفاق لا حاجةً إلى ماله، ولكن ليبلو الغني بالفقير فيما فرض له في مال الغني، ولا اعتراض لأحد على مشيئة الله وحكمه في خلقه، "إن أنتم إلا في ضلال مبين"، يقول الكفار للمؤمنين: ما أنتم إلا في خطا بين في اتباعكم محمداً صلى الله عليه وسلم وترك ما نحن عليه.
الاعتدال في الإنفاق:
يقول الله تعالى في سورة الإسراء:
"والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما", ثم قال منفراً عن التبذير والسرف "إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين" أي أشباههم في ذلك، قال ابن مسعود: التبذير هو الإنفاق في غير حق, وكذا قال ابن عباس, وقال مجاهد: لو أنفق إنسان ماله كله في الحق لم يكن مبذراً, ولو أنفق مُداً في غير حق كان مبذراً!!، وهذا مفهوم هام جدا في حد الاعتدال، والفاصل بين الكرم والسفه في الإنفاق، وقال قتادة: التبذير أو النفقة في غير الحق أو النفقة في الفساد أو للإفساد كلهم معاصي لله تعالى.
وخلاصة قوله تعالى: "وكان بين ذلك قواماً" أن خيار الأمور أوسطها؛ فإذا وجد العبد المال أنفقه في وجوه المعروف بالتي هي أحسن، وأن يكون موقنا بما عند الله، وأن ثقته بما عند الله أوثق بما هو لديه وإن لم يكن لديه مال لزم القناعة والتكفف وعدم الطمع.
وقال الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: "أتى رجل من بني تميم إلى رسول الله فقال: يا رسول الله إني ذو مال كثير, وذو أهل وولد وحاضرة, فأخبرني كيف أنفق, وكيف أصنع؟!، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تخرج الزكاة من مالك إن كان, فإنها طهرة تطهرك, وتصل أقرباءك, وتعرف حق السائل والجار والمسكين فقال: يا رسول الله أقلل لي؟ فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيراً فقال: حسبي يا رسول الله إذا أديت الزكاة إلى رسولك فقد برئت منها إلى الله وإلى رسوله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم إذا أديتها إلى رسولي فقد برئت منها ولك أجرها, وإثمها على من بدلها".
وقوله تعالى: "إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين" أي في التبذير والسفه وترك طاعة الله وارتكاب معصيته, ولهذا قال "وكان الشيطان لربه كفوراً" أي جحوداً, لأنه أنكر نعمة الله عليه ولم يعمل بطاعته, بل أقبل على معصيته ومخالفته. وقوله: "وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك" الاية, أي إذا سألك أقاربك ومن أمرناك بإعطائهم وليس عندك شيء, أعرضت عنهم لفقد النفقة "فقل لهم قولاً ميسوراً" أي عدهم وعداً بسهولة ولين, إذا جاء رزق الله فسنصلكم إن شاء الله, هكذا فسر قوله: "فقل لهم قولاً ميسوراً" أي الوعد بالخير والمساعدة عند تحسن الظروف والأحوال.
نموذج للإنفاق في سبيل الله:
مسجد كأنني أكلت
"أو صانكي يدم"
هل سمع أحد بمثل هذا الاسم الغريب؟!
هو جامع صغير في منطقة "فاتح" في اسطنبول واسم الجامع باللغة التركية هو "صانكي يدم" أي كأنني أكلت!.
ووراء هذا الاسم الغريب قصــة، فيها عبرة كبيرة .
في كتابه الشيق "روائع من التاريخ العثماني" كتب الأستاذ الفاضل "أورخان محمد علي"، قصة هذا الجامع؛ فيقول أنه: كان يعيش في منطقة "فاتح" شخص ورع اسمه خير الدين أفندي، كان صاحبنا هذا عندما يمشي في السوق، وتتوق نفسه لشراء "فاكهة" ، "أو لحم"، أو "حلوى"، يقول في نفسه: "صانكي يدم"، يعني كأنني أكلت" أو "افترض أنني أكلت"!!، ثم يضع ثمن ذلك الطعـام في صندوق له، ومضت الأشهر والسنوات، وهو يكف نفسه عن لذيذ الأكل، ويكتفي بما يقيم أوده فقط، وكانت النقود تزداد في صندوقه شيئا فشيئا، حتى استطاع بهذا المبلغ القيام ببناء مسجد صغير في شارعه، ولما كان أهل الشارع يعرفون قصة هذا الشخص الورع الفقيــــر، وكيف استطاع أن يبني هذا المسجد, أطلقوا على الجامع اسم جامع: "صانكي يدم"، كم من المال سنجمع للفقراء والمحتاجين؟!، وكم من المشاريع سنشيد في مجتمعنا وفي العالم؟!، وكم من فقير سنسد جوعه وحاجته؟!، وكم من القصور سنشيد في منازلنا بالجنة إن شاء الله؟!، وكم من الحرام والشبهات سنتجنب؟!.
وأهدي القصة التالية لأغنياء المسلمين كي يتعلموا منها كيف ينفقون؟ وكيف يقتصدون لينفقوا على أغراض إنسانية نبيلة؟ والواقع والحقيقة أن معظم الأبحاث العلمية الغربية –التي تساعد على تطور الفكر البشري- بمراكز الأبحاث الكبرى بالجامعات الغربية المرموقة يقوم بتمويلها الأثرياء من أمثال هذا الرجل؛ فهيا بنا نقرأ ما ذُكر عنه:
كانت هناك مقابلة استغرقت ساعة زمن على قناة "سي إن بي سي" الأمريكية مع ثاني أغنى رجل في العالم، إنه "ورين بفت" والذي تبرع بمبلغ 31 بليون دولار من ثروته لأمور خيرية، وهنا بعضاً من مظاهر حياته وفيها دروس للاستفادة وخصوصا لأصحاب النفوذ والملايين في بلاد المسلمين:
اشترى أول سهم مالي عندما كان عمره 11 سنة، والآن يأسف بأنه ابتدأ متأخراً جدا!!!
اشترى مزرعة صغيرة في عمر الرابعة عشر من ادخاره في توزيع الجرائد اليومية!!!
لازال يقيم في نفس بيته الصغير المكون من ثلاث غرف في وسط بلدة "أوماها"، والذي اشتراه عقب زواجه قبل 50 عام، ويقول بأن لديه كل ما يحتاجه في ذلك المنزل والذي لا يوجد به جدار خارجي أو سور.
اعتاد أن يقود سيارته بنفسه حيثما يريد وهو لا يوجد لديه سائق أو رجال أمن يحرسونه.
لم يسافر أبدا بطائرة خاصة بالرغم من أنه يملك أكبر شركة طيران خاصة بالعالم.
تتكون مجموعته الاستثمارية من 63 شركة وكل ما يفعله هو كتابة رسالة واحدة سنويا للتنفيذيين في تلك الشركات يحدد لهم الأهداف للسنة المقبلة. لم يعقد أبدا اجتماعات أو يجري مكالمات انتظامية. قاعدتان فقط يعطيها لأولئك المسئولين:
القاعدة الأولى: لا تفرط أبدا في شريكك المالي.
والقاعدة الثانيه: لا تنسى أبدا القاعدة الأولى.
لا يشارك اجتماعيا مع حشـود المجتمع الراقي.
كان فيما مضى من عمره بعد العودة لمنزله يعمل لنفسه الفشار ويشاهد التلفاز.
"بيل غيتس" أغنى رجل في العالم، قابله لأول مره قبل خمس سنوات ولم يكن يتوقع بوجود شيء مشترك بينه وبين و"ورن بفت"، لذلك حدد المقابلة بنصف ساعة فقط. ولكن عندما قابله، استمرت المقابله لعشر ساعات ومن يومها أصبح "بيل جيتس" شديد التعلق "بوورن بفت"، و"ورن بفت" لا يحمل الهاتف الجوال ولا وجود للكمبيوتر على طاولته. نصيحته للشباب "ابتعد عن البطاقات الائتمانية" واستثمر في ذاتك وتذكر الآتي:
المال لا يصنع الرجل بل الرجل هو الذي يصنع المال.
عش حياتك بكل بساطة وعفوية.
لا تفعل ما يقوله الآخرون، فقط استمع إليهم ولكن اعمل ما تراه حسنا.
لا تنجرف وراء الأسماء التجارية، إلبس تلك الأشياء التي تشعر معها بالارتياح.
لا تضيع نقودك في الأشياء غير الضرورية، فقط أنفقهم على المحتاجين الحقيقيين.
إجمالا، هي حياتك، فلماذا تعطي الآخرين الفرصة ليتحكموا في معيشتك.
ويتبع >>>>>>>>>>> الحجر على السفيه والمجنون