الاستعارات والتشبيهات في الع.س.م للوسواس القهري3
12) قواعد فقهية مفيدة في علاج الوسواس القهري:
ولعل الاستخدام المعرفي للقواعد الفقهية كاستعارات وتشبيهات في علاج الوسواس القهري من قبل المعالجين التقليديين يجعلها الأقدم بين الاستعارات المستخدمة في العلاج المعرفي بشكل عامٍّ، وقد استخدمها الفقهاء كقواعد تساعد الموسوس في ضبط التفكير والسلوك، كما استخدموها كاستعارات تُستدعى ويقيس الموسوس حاله عليها، ومن أمثلتها:
1- «اليقين لا يزول بالشك» «لا تنجيس بالشك»
2- «لا نجاسة إلا بعلامة» «والحكم بالنجاسة من غير علامة وسوسة»
3- "الجاف على الجاف طاهر بلا خلاف"
4- «المشقة تجلب التيسير»
5- «الأصل في الصفات العارضة العدم»
أولاً: قاعدة "اليقين لا يزول بالشك":
لإدراك الأمور في أصول الفقه درجات:
(1) اليقين 100%: وهو جزم القلب بوجود الشيء أو عدم وجوده بالاستناد إلى الدليل؛ مثال: الجزم بموت الحيوان بعد حزِّ رقبته بالسكين.
(2) غلبة الظن: وهو رجحان أحد احتمالين على الآخر، وطرح الاحتمال المرجوح وعدم إقامة وزن له لشدة ضعفه، وذلك بالاستناد إلى دليل (النسبة التقريبية: 80-99%).
(3) الظن: وهو ترجيح أحد الاحتمالين لكن مع عدم طرح الاحتمال المرجوح، (النسبة التقريبية: 51-79%)؛ مثال: ترجيح احتمال رسوب الطالب الذي لم يدرس قبل الامتحان، مع احتمال نجاحه لالتزامه بالدوام أثناء العام.
(4) الشك (50%): تساوى الاحتمالين بحيث لا يمكن ترجيح أحدهما على الآخر؛ (أي كل احتمال يمكن وجوده بنسبة: 50%).
(5) الوهم: وهو الجانب المرجوح، (يوجد في القلب بنسبة: 49% فأقل)؛ مثاله: الطرف المرجوح في الأمثلة السابقة [انظر: شرح القواعد الفقهية: ص79-86].
فإذا كان الإنسان متيقنًا من أمر (100%) وشكَّ فيه (50%)؛ فهذا الشكُّ لا يؤثر على يقينه ولا يعمل به؛ لأن الضعيف لا يغلب القوي، وكمثال تطبيقي على الشك بطهارة الثياب/ أو تلوثها:
المريض: غسلت ثيابي بالأمس، لكن لا أدري ربما أصابها نجاسة/ جراثيم وربما لا، الأفضل أن أغسل تخلصًا من الشك الذي في قلبي، وربما إذا كانت هناك نجاسة لم تصح صلاتي.
المعالج: لا تعمل بهذا، ولا يؤثِّر هذا الشكُّ في صحة صلاتك؛ لأنك تيقنت طهارة الثوب بغسله، وشككت بحصول النجاسة، واليقين لا يزول بالشك.
ومما لا يعمل به أيضًا: الظن إن تبيَّن خطؤه؛ فهناك قاعدة تقول: (لا عبرة بالظن البيِّن خطؤه)؛ مثال:
المريض: أظن أن هذا الثوب نجس/ ملوث لأن طفلاً صغيرًا كان يلبسه.
المعالج: احتمال قوي، لكن قد تبيَّن خطؤه إذ لا نرى على الثوب شيء، ولم يذهب الطفل إلى مكان نجس.
وهذا المفهوم أيضًا يمكن استخدامه في أنواع كثيرة من الوساوس، إذ إن الوسوسة هي كثرة الشك الذي يعارض يقين الموسوس من غير دليل (رفيف الصباغ، 2008).
ثانيًا: قاعدة "لا تنجيس بالشكّ":
كثير من الموسوسين يبالغ في طقوس التطهر متحججًا بنجاسة متخيلة، وهنا يلزم الوعي بعدد من القواعد الفقهية لمناجزته:
قاعدة فقهية تقول: لا تنجيس بالشكِّ؛ وبالتالي فالأشياء تبقى طاهرة على حالها ما لم تتأكد نجاستها 100%؛ أي بعلامة تظهر لنا رأي العين بما لا يدع مجالاً للشك أو الاحتمال، ولا نفتش عنها لأن في ذلك تعمقًا.
وأيضًا عند الشعور بارتداد الماء من أسفل لأعلى أثناء التغوط، طالما أن هناك احتمالاً ولو 1% ألا يكون الإحساس صحيحًا، أو أن الماء الذي ارتد ليس نجسًا فلا يعاد الغسيل، فعند السؤال عن التيقن من نجاسة الماء -في أغلب الحالات- يجد الشخص نفسه يقول: ربما نعم وربما لا، محتمل، غالبًا، كل هذه العبارات لا تقوى على التنجيس؛ لأنها لم تبلغ مبلغ تيقن النجاسة، وإنما احتمال وشك (اليقين = 100%، والاحتمال في أحسن أحواله 99%، و99% لا تغلب 100%).
وتمكن الاستفادة من نفس القاعدة عند تحاشي لمس الأشياء، يسأل الموسوس نفسه: لماذا لا ألمسها؟ فترد: ربما تكون نجسة، فربما كان من لمسها لا يتورع عن النجاسة! طيب، هل أنا متأكد أنه حين لمسها كانت يده نجسة ولم تكن طاهرة؟ لا طبعًا! إذن القاعدة الفقهية تقول: الأصل في الأشياء الطهارة، وأخرى تقول: لا تنجيس بالشكِّ، إذن شكُّنا بالنجاسة لا يزيل طهارة الأشياء الأصلية.
ولا يجب على أيٍّ أن يفتش ويشمَّ ويبحث في ملابسه أو أعضائه عن أي شيء يكون سببًا لنقض الوضوء أو فساد الصلاة، فالتفتيش تعمُّق مذموم ومنهي عنه شرعًا، وكذلك إذا أصاب رجله أو ذيله بالليل شيء رطب ولا يعلم ما هو؛ لم يجب عليه أن يشمه ويتعرف ما هو، وهذا هو الفقه، فإن الأحكام إنما تترتب على المكلف بعد علمه بأسبابها، وقبل ذلك هي على العفو، فما عفا الله عنه فلا ينبغي البحث عنه.
ثالثًا: قاعدة "الجاف على الجاف طاهر بلا خلاف":
وتعدُّ هذه القاعدة كنزًا في قطع سلسلة الانتشار السحري التي كثيرًا ما يعيق تخيلها الموسوسين، فإذا لمس أحدهم مقبض باب الحمام فإنه يحسب أن يده تنجس القلم إذا أمسكه، والقلم ينجس الدفتر، والدفتر ينجس الطاولة... إلخ، ومن الميزات الفقهية ذات العلاقة أنواع المطهرات الأخرى غير الماء؛ مثل: الدَّلك، والفرك، والمسح، والجفاف، وانقلاب العين، وغيرها... ففي بعض المذاهب مثلاً: يطهر الخفُّ والنعل إذا تنجَّس بشيء له جرم بالدَّلك، والمنيُّ اليابس بالفرك، ويطهر الصَّقيل كالسِّيف والمرآة بالمسح، والأرض المتنجِّسة بالجفاف إن كانت تتشرب النجاسة مثل التراب، أما الصخر والبلاط فلا يطهر بالجفاف، والخنزير والحمار بانقلاب العين؛ أي التغير إلى شيء آخر لا علاقة له بالأول، كما لو وقعا في المملحة فصارا ملحًا. (الموسوعة الفقهية الكويتية، مادة: طهارة)، وهناك أشياء أخرى منها ما هو متفق عليه ومنها ما هو مختلف فيه، ولها تفصيلاتها التي لا مجال لذكرها هنا، وما يهم أنه ليس بالإمكان الحدُّ من انتشار النجاسة بالجفاف فحسب، وإنما يمكن تطهيرها أيضًا به وبأشياء أخرى لا علاقة لها بالماء.
رابعًا: قاعدة "درء المفاسد أولى من جلب المصالح":
يعني إذا خُيِّرْنا بين فعلين في أحدهما جلب لمصلحة وفي الآخر دفع لمفسدة، ولا يمكننا فعلهما معًا؛ اخترنا فعل ما يدفع المفسدة، وتركنا ما يجلب المصلحة، وهذا مأخوذ من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ) رواه البخاري ومسلم.
فالمنهيات (وما يتبعها من مفاسد) يجب تركها بغير شرط، وأما المأمورات (وما يترتب عليها من مصالح) فتفعل بشرط الاستطاعة، فيؤخذ من هذا أن الشرع اعتنى بأمر المنهيات ومفاسدها أكثر من المأمورات ومصالحها؛ لهذا نقدِّم درء المفسدة عند تعارض المصلحة مع المفسدة [انظر: المدخل الفقهي: ص74، شرح القواعد الفقهية: ص205].
تطبيق على وسواس الترتيب:
- الموسوس: أحب الترتيب جدًا لما فيه من جمال، ولما يحدثه في النفس من ارتياح، وغير ذلك من الفوائد والمصالح، ولكني أقلق جدًا إذا لم تكن الأمور في غاية الترتيب، وأمضي جلَّ وقتي وأنا أرتب وأنظم الأشياء.
- المعالج: اهتمامك المبالغ فيه بالترتيب يجلب لك فوائد ومصالح جمالية، واجتماعية مختلفة، لكن أنت لا تستطيع ترتيب أمورك وأشيائك إلا من خلال أفعال تضر بك، وتُضيِّع وقتك، وتعيقك عن أشياء أخرى أهم من الترتيب، وهذه كلها مفاسد، ومعلوم أن (درء المفاسد أولى من جلب المصالح)، فيلزمك إذن ترك زيادة الترتيب دفعًا للمفاسد، وإن كانت تُفوِّت عليك المصالح الجمالية التي تحبها.
خامسًا: قاعدة "إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضررًا بارتكاب أخفهما":
كانت القاعد السابقة في الكلام على تعارض مصلحة ومفسدة، وهذه القاعدة تتكلم على تعارض مفسدتين، أحدهما أكبر من الأخرى، ففي هذه الحالة نهتم بشأن المفسدة الكبيرة فنفعل ما يدفعها، وإن كان ذلك يترتب على فعل مفسدة أخرى أقل منها ضررًا، وفي معنى هذه القاعدة قاعدة "الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف"، وقاعدة "يُختار أهون الشرّين" [انظر: المدخل الفقهي: ص72].
تطبيق على وسواس الصلاة:
- الموسوس: يؤسفني أن أقول لك: إني تركت الصلاة لأني لا أستطيع فعلها كما ينبغي، فأنا أمضي الوقت كله في محاولات فاشلة لأدائها على نحو صحيح، ولكني لا أشعر أني أحسنت فعلها، فصرت أخاف من الصلاة وتركتها!
- المعالج: وما رأيك؟ أيهما أهون، أن تترك الصلاة بالكلية أم أن تصلي صلاة غير كاملة؟
- الموسوس: ولكن الصلاة غير الكاملة، تعني أني لم أصلي، فما الفائدة؟
- المعالج: إن الشريعة في هذه الحالة أمرتك أن تصلي -ولو صلاة ناقصة- واختارت لك أهون الشرَّين، حماية لك من أعظمهما أعني ترك الصلاة، وما أمَرَتْك به الشريعة هو المطلوب منك، فكيف يكون غير صحيح؟ إذن: صلاتك الناقصة صحيحة، فلا تتعب نفسك في إعادتها، وهي خير لك مما أنت فيه الآن من ترك الصلاة، فما رأيك؟
سادسًا: قاعدة "المشقة تجلب التيسير":
هذه القاعدة من أمهات القواعد التي تدور عليها معظم أحكام الشريعة، وهي تعبِّر عن مضمون آيات كثيرة في القرآن الكريم؛ منها قوله تعالى: (يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة: 185]. وقوله: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج: 78].
فالله تعالى شرع أحكامًا تيسر للناس أمورهم حتى لا يقعوا في المشقة والحرج، كتشريع البيع والشراء لتأمين حاجات الإنسان، وإباحة النظر للخاطبين لتحقيق المودة بين الزوجين.. وغير ذلك، وبالتالي فإن القاعدة في التعامل مع رشاش النجاسة، هي أننا لا نطهر الجسم والثياب إلا إذا رأينا النجاسة بأم أعيننا، فحينها نطهر الجزء المتنجس فقط، أما ما لا يرى بالعين فمعفوٌ عنه، وهناك أيضًا تيسيرات أخرى في المذاهب تجيز الصلاة مع وجود شيء من النجاسة، وقد قدَّرها الحنفية بمساحة مقعر الكف (وهو مبسوط)، كل هذا فضلاً عن أن يقين الطهارة لا يزول بالشك في وجود النجاسة مهما بلغ ذلك الشكُّ من قوة.
وإضافة للأحكام الشرعية العادية التي تقوم في أساسها على التيسير، هناك أحكام شرعت لمراعاة الحالات التي تعظم فيها المشقة وتزيد عن الحدود العادية؛ كالأحكام التي شُرعت للتخفيف على المسافر والمريض، وكذلك أحكام التخفيف على الصغير والمجنون والناسي والجاهل المعذور.. وغير ذلك، وتطبيقات هذه القاعدة أكثر من أن تُحصى [انظر: الأشباه والنظائر: 1/ 194-209، شرح القواعد الفقهية: ص157-162].
وإذا كانت الشريعة قائمة على التيسير، فليس من المستغرب أن يذم الشرع الوسواس ويطلب الانتهاء عنه، لما فيه من الحرج العظيم للناس، وليس من المستغرب أن تُشرع أحكامٌ خاصة بالموسوس تخالف أحكام غير الموسوسين، من باب التخفيف عليهم والمساعدة على تخلصهم من علتهم، فالموسوس في أمور العقيدة لا عبرة بما يجري في فكره، ولا تخرجه وساوسه عن الإسلام، والموسوس في الصلاة لا تبطل صلاته مهما طرأ عليه من شكٍّ، وكذلك في الوضوء.. والموسوس في الطلاق لا يقع طلاقه.. وهكذا.
سابعًا: قاعدة "الأصل في الصفات العارضة العدم":
صفات الشيء على نوعين: صفات أصلية؛ وهي الصفات التي يشتمل عليها الشيء بطبيعته؛ كالبياض في اللبن، والبكارة في الأنثى، والنجاسة في الخنزير، وصفات عارضة؛ وهي التي تحدث بعد أن لم تكن موجودة؛ كالعلم في الإنسان، والنجاسة في الثوب.
فالقاعدة في الصفات الأصلية أن تكون موجودة (يعني: أن يولد الخنزير وهو نجس، وأن يخرج اللبن من الضرع وهو أبيض)، بينما على العكس: القاعدة في الصفات العارضة أن تكون غير موجودة أو معدومة؛ (يعني: أن يولد الإنسان جاهلاً ليست فيه صفة العلم، وأن يكون الثوب طاهرًا ليست فيه صفة النجاسة) [انظر: شرح القواعد الفقهية: ص117-120].
تطبيق:
- موسوس يخاف أن يكون دهس شخصًا ما أثناء قيادة السيارة؛ نقول له: الأصل في الإنسان أن يولد بريء الذمة من الذنب والجريمة، ويبقى هكذا إلى يقترف جريمة بيقين لا يقبل الشك، وحيث عُدِم اليقين في حقك، فإنك ما زلت بريئًا من صفة الجريمة؛ لأن (الأصل في الصفات العارضة العدم)، وكذلك هناك قاعدة أخصُّ تقول: (الأصل براءة الذمة)، فلا داعي لعودتك للتأكد من براءتك لأنها لم تتغير.
- موسوس يخاف من التلوث/ النجاسة، فيغسل الأشياء الجديدة قبل استعمالها؛ نقول له: الأصل أن تُخلَق الأشياء وتوجد نظيفة طاهرة سالمة من العيوب، وأما التلوث/ النجاسة فهي صفات عارضة تطرأ على الأشياء وليست أصلية فيها (والأصل في الصفات العارضة العدم)، فالتلوث/ النجاسة غير موجودَيْن إلى أن تعلم وجودهما بيقين، إذن: غسل الأشياء الجديدة إضاعة للوقت في إزالة شيء غير موجود، ومشقة لا داعي لها، فقاوم رغبتك في الغسل؛ لأنه تبين بعد هذا الكلام أنه ضرب من العبث، لا يوافقك عليه عاقل.
ثامنًا: قاعدة "الأصل إضافة الحادث إلى أقرب أوقاته":
و(الحادث) هو الأمر الذي قد وجد بعد أن لم يكن موجودًا، والمراد بهذه القاعدة: أنه إذا تأكدنا من وجود شيء لكن لم نعرف تاريخ وجوده؛ فننسب وجوده إلى أقرب زمان ممكن من وقت علمنا به [انظر: شرح القواعد الفقهية: ص125-131].
تطبيق:
الموسوس: قبل أن أذهب إلى عملي صباحًا رأيت في ثيابي شيئًا من النجاسات، ولا أعرف متى حصل هذا، وأريد أن أقضي صلاة يومين، حيث قمت بتغيير ثيابي منذ ذلك الحين.
المعالج: متى دخلت إلى الحمام آخر مرة قبل أن ترى النجاسة؟
الموسوس: قبل ساعتين من رؤيتي لها، عند طلوع الشمس.
المعالج: النجاسة أمر طارئ، حادث، وجد في ثيابك ولم يكن موجودًا عندما لبست تلك الثياب، أليس كذلك؟ وإذا جهلت زمن وجودها فالأصل إضافة الحادث إلى أقرب أوقاته، وأقرب زمن ممكن لحدوث هذه النجاسة: قبل العلم بها بساعتين عند دخول الحمام، وهذا بعد أدائك لصلاة الفجر، فلا داعي لإعادة أي من الصلوات التي صليتها؛ لأن النجاسة لم تكن موجودة أثناء الصلاة حسب علمنا الذي نُكَلَّف على أساسه!
هذه بعض المفاهيم والقواعد الشرعية، التي تقوِّم الفكر وتصحِّح مسار العقل وتعين على علاج الموسوسين، ولا شكَّ بأن المفاهيم الشرعية التي تساعد على ذلك كثيرة جدًا، لكننا اكتفينا بأبرزها، وأكثرها استخدامًا، وأيسرها فهمًا، ولا شكَّ –أيضًا- أنه إذا تم استخدام هذه المفاهيم بالطريقة المعمول بها في العلاج المعرفي الحديث فإنها ستؤتي نتائج طيبة، وتساهم مساهمة كبيرة في إقناع الموسوسين من المسلمين الذين لا يطمئنون في أمور عباداتهم سوى للمعارف الإسلامية (رفيف الصباغ، 2008).
13) استعارات مبنية على أحكام فقهية تيسر العلاج.
1- التيمم = الغسل والوضوء!
مما وجدته مفيدا جدًّا أثناء عملي مع الموسوسين في الغسل أو الوضوء؛ التطرق إلى فكرة أو مفهوم الرخصة بجواز التيمم بديلاً مشروطًا للوضوء و/ أو الغسل، هذه الفكرة في ذاتها تبين أن قيمة الوضوء ليست في تفاصيله، وإنما في حكمته؛ فيضرب المثل في حوار مع المعالَج حول التيمم والوضوء والغسل... هكذا:
المعالِج: هل تعرف ما هو التيمم؟ وما هي الأحوال التي يجوز فيها؟
المعالَج: نعم أعرف عندما ينعدم الوصول إلى الماء للوضوء.
المعالِج: فقط للوضوء؟
المعالَج: ماذا تقصد؟
المعالِج: التيمم يجوز لرفع الحدثين الأصغر (خروج الريح أو التبول أو التبرز... إلخ)، والأكبر (ممارسة الجنس كاملاً أو التقاء الختانين أو للتطهُّر من الحيض... إلخ)، وهو ما يعني أن التيمم يساوي الوضوء، وما يتحقق من الأخير يتحقق من الأول، والكلام نفسه ينطبق على الغسل؛ فالتيمم أيضًا يمكن أن يساوي الغسل، وما يتحقق من الأخير يتحقق من الأول، المهم هو تحقُّق التهيؤ للوقوف بين يدي الله عز وجل (في صورة التطهر)، المهم هو هذا، وليس التفاصيل، وهذا يعني أن التفاصيل التي تغرق أنتَ فيها ليست ذات قيمة! هل تتفق معي؟
المعالَج: حسنًا أتفق، ولكن الحمد لله الماء موجود، وسأحاول أن أسمع ما نصحتني به.
2- الاستنجاء مقابل الاستجمار:
ويفيد كذلك في علاج الإسراف في الاستنجاء أن نشرح فقه الاستنجاء والاستجمار، مع مقارنة النتيجة المختلفة جدًّا ماديًّا (استخدام الماء مقابل المسح بورق أو قماش... إلخ)، بالتأكيد لا يتساويان ماديًّا، لكنهما متساويان فيما يمنحان المرء من جاهزية للوضوء والتهيؤ للوقوف بين يدي الله، فلما كان المسح (أي الاستجمار) يُذهب عين النجاسة ويُبقي أثرها، بينما الماء (أي الاستنجاء) يذهب العين والأثر؛ فقد جعل الله رخصة لعباده أن تصح الصلاة بالاستجمار، أي مع إزالة العين فقط، ويستنتج من ذلك أن ليس المطلوب أيًّا من التفاصيل التي يغرق فيها الموسوس أثناء التهيؤ، فليس المطلوب إحسان التخلُّص من النجاسة 100%! لأن النظافة المجهرية ليست بمقدور البشر، ولا يكلِّف الله نفسًا إلا وسعها، وعلى الموسوس علاجيًّا ألا يتبع إلا الأيسر، وألا يشقَّ على نفسه في التفاصيل.
3- الاستجمار ثم التيمم:
من المفيد من شرح فقه الاستجمار أيضًا بيان أنه -بالرغم من نقص إزالته للبول أو الغائط عن إزالتهما بالماء- مساوٍ تمامًا للاستنجاء، وأنه ليس مشروطًا بغياب الماء كما في حالة التيمم (وهذه مع الأسف معلومة غائبة عن ذهن كثير) أي أن الاستجمار اختيار، ثم يؤخذ المثال إلى أقصاه، حين نقول: لو أن امرأة رأت علامة الطهر من حيضها أو جامعها زوجها وأرادت أن تصلي؛ فلم تجد ماء على الإطلاق.. تراها تستجمر ثم تتيمم؟ فيرد المعالَج: نعم، فنسأله: وهي بلا ماء لا تستطيع بالتأكيد محو آثار النجاسات من على أعضائها؛ فهل تستجمر ثم تتيمَّم؟ فعندها يرد المعالَج: تستجمر ثم تتيمم؟ فنسأله: افترض أن جاورتها في صفِّ الصلاة امرأةٌ اغتسلت عشرًا إحداهن بالمسك! أهي عند الله أفضل منها؟ يفيد ذلك جدًّا أغلب موسوسي الاستنجاء!
فموسوس يشكُّ بنجاسة البيت الذي فيه أطفال علاجه: اليقين لا يزول بالشك، نقول: المكان طاهر؛ لأننا غير متأكدين، قد يكون المكان الذي نقف ونصلي عليه لأننا لم نتيقن نجاسته قد يكون نجسًا بالفعل دون أن نعلم؛ في هذه الحالة: النجاسة موجودة في الواقع، والمفروض ألا تصح الصلاة، لكن الذي تعبدنا الله به ألا ننسف اليقين بالشك، ألا يكون هناك نجاسة حسب القواعد التي وضعها، لا يهم في الواقع هل هناك نجاسة أم لا حتى نبقى ندقق وندقق لإزالتها، وإنما يهم تطبيق أمر الآمر جل وعلا، وعلى سبيل المثال أيضًا: فالحكم بالنسبة للموسوس أن يبني على الأكثر في عدد ركعات صلاته، ومن المحتمل أن يكون أنقص ركعة فعلاً، وهذا غير مهمٍّ، وصلاته صحيحة؛ لأن الله تعالى تعبَّده بهذا؛ أي أمره به، ولم يأمره بغيره.
وأيضًا الاستجمار ليس كالاستنجاء، والتيمم ليس كالوضوء، ومسح الخف ليس كغسل الرجل، ولكن النتيجة واحدة؛ لأن فعل أيِّ منهما طاعة لله عز وجل، والصدق فضيلة، وقد يوسوس الإنسان في أنه يكذب، ويظن أن عليه الصدق في كل شيء، ولكن الذي أوجب علينا الصدق أوجب علينا الكذب في حالات!! مثل أن يتوقف إنقاذ شخص على الكذب، إذا اختبأ -مثلاً- عند شخص وطلبه ظالم، فيجب على الشخص الكذب لإنقاذ المظلوم، الموسوس هنا يجزع من قضية كيف يكذب، لكن مثل هذه الأحكام شرعت لنعلم أن الفعل ليس مطلوبًا لذاته، ولكننا ننفذه خضوعًا لله وتعبدًا له.
الفكرة هنا أن الإنسان عبد لله، يطلب منه تنفيذ أمره ليرضى عنه، أمره بالوضوء، أم بالتيمم، أم باستعمال الماء أم بالحجر، كل هذا سواء؛ لأنه عبارة عن امتثال أمر وأداء واجب، فالمطلوب هو الوقوف عند أوامر الشرع وحدوده، والتفاصيل التي يدقق ويغرق فيها الموسوس، غير مطلوبة شرعًا، فالتدقيق خروج عن الشرع، من حيث يظن أنه التزام تامٌّ به، فليس المطلوب التخلُّص من النجاسة 100% حسب الواقع، ولا حسب رأي الإنسان، وإنما حسب أوامر الشرع، والشرع لا يطالب بالنظافة المجهرية، ولا بما خرج عن وسع الإنسان؛ أي أن المطلوب هو التخلص من النجاسة حسب ما أمر الشرع، حتى وإن كان الواقع غير ذلك، ليس المطلوب تنظيف الأعضاء قبل الصلاة، وإنما التهيؤ للوقوف بين يدي الله، بما أمر، إن أمر باستعمال الماء استعملناه، وإن أمر بالتراب استعملناه، ولو أمرنا بغير ذلك لفعلناه، وكل ذلك سواء عند الله فهو يريد منا الطاعة، لا ذات الماء ولا ذات التراب؛ (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لحومهَا وَلَا دمَاؤهَا وَلَكنْ يَنَاله التَّقْوَى) [الحج: 37]، وعندما يقتنع الموسوس بهذا يستطيع التخلُّص من وسواسه بسهولة بمجرد معرفته للحكم الصحيح.
المراجع:
1. وائل أبو هندي، رفيف الصباغ، محمد شريف سالم ويوسف مسلم (2016) نحو فهم متكامل للوسواس القهري، البابُ الثاني: العلاج السلوكي للوسواس القهري، سلسلة روافد 138 تصدر عن إدارة الثقافة الإسلامية، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، دولة الكويت
ويتبع >>>>>>: الاستعارات والتشبيهات في الع.س.م للوسواس القهري استدراك
واقرأ أيضًا:
احتياطات الأمان، والوسواس القهري / العلاج السلوكي للوسواس القهري3 / علاج الغسيل القهري2