الصدقة تحقق العدالة الاجتماعية
الفصل السابع عشر(9)
للصداقات الخاصة أثر عميق في توجيه النفس والعقل، ولها نتائج هامة فيما يصيب الجماعة كلها من تقدم أو تأخر، ومن قلق أو اطمئنان. وقد عني الإسلام بتلك الصلات التي تربطك بأشخاص يؤثرون فيك ويتأثرون بك، ويقتربون من حياتك اقترابا حثيثاً لأمد طويل.
إن هذه الصلات إن بدأت ونمت نبيلة خالصة تقبلها الله وباركها، وإن كانت رخيصة مهينة ردها في وجوه أصحابها. [الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ*يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ] (الزخرف67 – 68).
إن الإسلام –كما علمت– دين تجمُّع وألفة ونزعة التعرف إلى الناس والاختلاط بهم أصيلة في تعاليمه، وهو لم يقم على الاستيحاش، ولا دعا أبناءه إلى العُزلة العامة والفرار من تكاليف الحياة، ولا رسم رسالة المسلم في الأرض على أنها انقطاع في دير، أو عبادة في صومعة، كلا، فإن الدرجات العالية لم يعدُها الله عز وجل لأمثال أولئك المنعزلين المنطوين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم" – أخرجه الترمذي.
لمن شٌرعت الجماعات؟، وعلى من فٌرضت الجمعة؟، ومن الذي يحمل أعباء الجهاد ويعين في أزمات الأوطان الكالحة؟!، إن ذلك كله يستلزم أمة توثقت فيها العلاقات الخاصة والعامة إلى حد بعيد. ولذلك أجاب ابن عباس رضي الله عنهما عندما سئل مراراً عن رجل يصوم النهار ويقوم الليل ولكنه لا يحضر الجمعة ولا الجماعات، فقال: خبِّروه أنه من أهل النار– أخرجه الترمذي، ذلك أن الإسلام شديد الحرص على أن تكون شعائره العظمى مثابة يلتقي المسلمون عندها ليتعاونوا على أدائها ويستوحوا من جوها الطهور عواطف الود المصفى والإخلاص العميق.
وكلما ُضخِّم العدد الذي ينتظم المسلم مع إخوانه تكاثرت عليه بركات الله. في الحديث: "وإن صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وكلما كثر فهو أحب إلى الله عز وجل" – أخرجه أحمد وأبو داود.
وفي حديث آخر: "صلاة الرجلين يؤم أحدهما صاحبه أزكى عند الله من صلاة أربعة تترى، وصلاة أربعة أزكى عند الله من صلاة ثمانية تترى، وصلاة ثمانية يؤمهم أحدهم أزكى عند الله من صلاة مائة تترى" – أخرجه البزار والطبراني.
وقد رغب الإسلام في تكثير سواد المسلمين ورؤيتهم حشودا متضاعفة لا فرادى منقطعين، على أن أمر العزلة والاختلاط وما يتبعه من إنشاء الصلاة وتكوين الصداقات يخضع لأحكـام شتى، فكل اعتزال عن الأمة يُضيِّع الأمر بالمعرف والنهي عن المنكر أو يُضعِف من جانب الدفاع عن الإسلام أمام خصومه هو جريمة ولا يُقبل من صاحب ذلك الاعتزال عذر.
والناس بعدئذ طبائع، منهم الذي يهرع إلى المجامع الحافلة، وسرعان ما يتصل بهذا وذاك ويستأنس بتصفح الوجوه ومحادثة القريب والبعيد، ومنهم من يُزَج به في المحافل المزدحمة، فإذا هو يقيم حول نفسه سورا يطل منه على الناس بحذر ويتوارى خلفه إن قَصَدَهُ قاصده.
إن كلتا الطبيعتين هداهما الإسلام نهجها السوي؛ فيقال للأول: خالط الناس، وادع إلى دينك، ويقال للآخر: المؤمن هين لين إلف مألوف.
على أن الإسلام أوجب اعتزال الفتن، فإذا اضطربت البلاد وتصارع أهلها على الدنيا وانتقضت عُرا الفضائل فإن مقاطعة الفساد لون من استنكاره، وذلك في حدود مراتب التغيير التي شرعها الله لخصومة المنكر من تغيير باليد، فإن لم يستطع فباللسان، فإن لم يستطع فبالقلب وليس بعد إنكار المنكر بالقلب مثقال ذرة من إيمان.
عن أبي سعيد الخُدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" - أخرجه مسلم.
أي أن اعتزال الفساد لا يُقبل ممن يملك تغييره بلسانه، فضلا عن يده، والمُقاطعة سلاح استُخدِم في هذا العصر بحكمة، جربته الأمم المُستضعفَة مع عدوها القاهر، ومنزلة المقاطعة من أسلحة الكفاح الأخرى هي منزلة الاعتزال من أساليب الإصلاح الكثيرة. أي أنها مهرب العجزة عندما لا يجدون وسيلة غير الفرار بدينهم، ولقد شهدنا في السنوات الأخيرة أنماطاً من تلك المُقاطعات كمُقاطعة المُنتجات الأمريكية والبريطانية أثناء غزو أفغانستان والعراق، وكذلك مُقاطعة البضائع الدانمركية عندما نشرت صحيفة دانمركية رسومات تُسيء إلى النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، ثم رفضت تلك الصحيفة والحكومة ورئيس الوزراء في الدانمرك تقديم الاعتذار عن تلك الصور بحجة احترام حرية الصحافة!!، وكأن احترام حرية الصحافة أهم من احترام رموز الأديان السماوية!!.
وعلى ضوء هذا البيان تفهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سُئل: أي الناس أفضل يا رسول الله؟
قال:"مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله"
قيل: ثم من؟
قال:"رجل معتزل في شعب من الشعاب يعبد ربه"- أخرجه البخاري ومسلم.
ثم إن العزلة والاختلاط لا يمكن أن يكونا وصفين دائمين للإنسان، فليقسم الإنسان وقته بين الخلوة النافعة والاختلاط الحسن ليخرج من الحالين بما يصلح شأنه كله.
يتبع >>>>>>>>>>> الحب في الله