الفصل الثامن عشر(14)
أذكر هنا معاناة سيدة ترجو أن تكون جادة في عملها، ولاحظوا معي أنها سيدة وليست رجلاً، وأن هذا يحدث في مجتمعات العمل ذات الكثافة العالية من السيدات، فما بالكم بمجتمعات العمل ذات الكثافة العالية من الرجال؟!.
ضحك وهزل واستهتار.. هذه هي بيئة العمل في بلادنا
أكاد أستقيل من عملي منذ أول يوم، أنا أميل للعزلة غالبا وليس دائما، وذلك لتجنب الشخصيات الاستفزازية المتسلطة والفضولية، وحتى يستريح دماغي من الأفكار المزعجة وضميري من التأنيب المستمر؛ لأنني لو تكلمت سأكون صيداً سهلاً للاستفزازيين.
أحيانا أكون مستعدة تماما للجدال كما لو أني في معسكر، ولكن صدقوني إذا استخدمت أسلوب الجدال مع الآخرين فلن يُحقق لي ذلك أي مطلب من الآخرين في العمل، أما إذا أخذت الأمور بـ"هزار واستهتار وهزل تمشي أموري كلها وبكل بساطة" وعلى عكس ما أتوقع، أكون أحياناً مجهزة بردود أفعال مسبقة؛ وعندئذ يقولون عني أنني: عصبية، وصعبة ومزاجية، لقد تعبت كثيرا.
والآن دعوني أصف لكم بيئة العمل الذي أعمل فيه: موظفات كثيرات، فوق طاقة القسم، مكاتبهن بجانب بعضها في غرفة واحدة عشوائية لا تسمح بالاستقلالية، أشبه بفصل دراسي نسائي مزدحم بالجالسات والواقفات، مع الهرج والمرج المستمرين طوال ساعات العمل، قهوة وشاي ولغو ونوم، مع الصراخ والضجيج أحياناً، حاولت أن أكون مستقلة قدر ما أستطيع حتى تكون علاقتي بهم رسمية؛ لأنني لا أثق بأحد، حذرة، أتحاشى التجمعات الكبيرة؛ وغير مستعدة للمواجهة، ولا أحب أن أجرح أحداً.
هل هذه بيئة عمل؟ هزل وضحك وصوت عالي، أين رئيس القسم؟!، ألا يمكن أن يدخل فجأة؟!؛ ولأنني من أسرة محافظة فلا أستطيع الشكوى؛ لأن هذا هو الوضع العادي في الأقسام الأخرى منذ سنوات، وأنا حديثة العهد بالوظيفة!!، وصدق المثل القائل: "عملٌ يُجهِد ولا فراغٌ يُفسِد".
وإذا كان العاملون في الدول المتقدمة قد يتوترون من كثرة العمل كما في الولايات المتحدة الأمريكية أو من إدمان العمل كما في اليابان، أما في بلادنا فما يوتر العاملين هو مشاكل العمل ذاته والتي ذكرنا بعضها في المشكلة السابقة، وإذا كان الغرض من هذا الكتاب هو تشخيص بعض عيوبنا قي مجالات حياتية مختلفة غلب عليها قهر وتسلط البعض على الأغلبية، وأهم ما أعنيه بهذا القول هو تسلط وفساد الكثير من الإدارات في بلادنا.
وسأذكر بعض مجالات الفساد من رشوة ومحسوبية وظلم وتعدي على الضعفاء أحياناً، لدرجة أن أصبح من مصوغات التعيين لبعض الوظائف هو فساد الشخص وارتكابه لمخالفات وتجاوزات في العمل مُسجلة عليه في الشئون القانونية!؛ فيكون ذلك الشخص هو الأفضل عند من هو أكبر منه قدراً لتولي المنصب الإداري المرموق!، والحُجة في ذلك هي أنه سيكون مُطيعاً لمن هم يكبرونه إدارياً، ولن يثير لهم أي مشاكل إذا اتخذوا قرارات مُجحفة وخاطئة ولمنفعتهم الشخصية!، فالمهم هو الخضوع التام والخنوع لولي نعمته (أقصد من عيَّنهُ في هذا المركز الإداري المرموق دون أن يكون لديه ما يكفي من المؤهلات الأخلاقية والمهارات الإدارية التي تؤهله لهذا المنصب).
لقد ذكرني هذا الحديث بسؤال طرحته مقدمة برامج - ذكية و لبقة لبرنامج مميز في إحدى الفضائيات العربية على ضيفها المُطرب الشعبي المُهتم بتقديم مشاكلنا السياسية والاقتصادية في صورة أغاني مرحة خفيفة الظل، وكان السؤال هو: ماذا ستفعل لو توليت منصب رئيس الجمهورية في مصر؟!.
فرد بذكاء شعبي فيه قدر من الحرص: لا داعي أن تختاري لي منصب رئيس الجمهورية، ولكن ليكن منصب رئيس الوزراء، ووقتها سأولي ولديّ وزارتين، كل واحد منهما وزارة كبيرة!، وبعد ذلك أقوم بتوزيع الوزارات الباقية على أقاربي وأصدقائي المُقربين، وحقيقة لا أدري: أهو قصد السُخرية من الواقع المُر الذي نعيشه في بلادنا؟!، أم أنه تكلم بتلقائية شديدة عما يدور في نفسه حقاً؟!، لا أدري!!.
وتذكرت هنا أيضاً حديثاً نبوياً شريفاً، فقد سَأل أحد الصحابة رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: متى الساعة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "إذا وُسِد الأمرُ لغيرِ أهلِهِ فانتَظِر السَّاعة".
فهل ما نعيشه من فوضى وفساد إداري من علامات الساعة؟!، وبمعنى آخر تعيين الشخص غير المناسب في المكان غير المناسب، وهذا هو قمة الفساد الإداري في الكثير من بلادنا.
وفي نظري أن نجاح الإدارة يحتاج إلى إخلاص شديد لله أولاً من حكامنا وحكوماتنا ومُديرينا ومن كل راع مسئول عن رعيته وعلى كل المستويات بداية من رب الأسرة وحتى الملك أو الأمير أو رئيس الجمهورية، علينا أن ننسى مصالحنا الخاصة إلى حد ما، وليس إلى حدٍ كبير، في سبيل إنعاش بلادنا التي تحتضر من الفساد الضارب بجذوره في كل مكان، وثاني خطوة في العلاج وببساطة هي وضع الشخص المناسب في المكان المناسب، ضاربين عرض الحائط بمصالحنا الشخصية، ورغباتنا الخاصة، علينا أن نهجر المحسوبية والرشوة والتحايل على القوانين لتحقيق مكاسب شخصية، علينا أن ننصف المظلوم ونأخذ على يد الظالم حتى ولو كان من أقاربنا المُقربين، علينا أن نتواصى بالحق وإن كان على أنفسنا أو على ذوي القربى، علينا أن نلتزم بالصدق والعدل عند اتخاذنا لأي قرار إداري يتعلق بحقوق الآخرين، هل نستطيع أن نحقق هذا الحلم في الإصلاح الإداري ببلادنا؟.
يذكرني هذا الحديث ذو الشجون أيضاً بما ذكره الدكتور زويل في إحدى محاضراته أن نهضة أي أمة عبر استقراء التاريخ تحتاج إلى ثلاث دعائم أساسية لابد من توافرهم لتحقيق النهضة المطلوبة، وهم:
1- احترام الجميع للقانون والخوف من الوقوع تحت طائلته، وتطبيقه على الجميع بلا تمييز ولا تفرقة، هذا القانون الذي يحميه الشعب وحكومته فلا سماح بالتحايل ولا التلاعب، لأنه قانون عادل يحقق المصلحة العامة لجميع أبناء الأمة، ولا داعي أبداً لتفصيل قوانين (من ترزية القوانين) مُضادة لنصوص القانون الأساسية (كما يحدث في المجالس النيابية أحياناً) لإشباع الأهواء والرغبات الشخصية للإداريين على مختلف مستوياتهم!.
2- نظام تعليم أساسي وفني وجامعي راسخ البنيان، يُنفََق عليه بسخاء من الجميع؛ من ميزانية الدولة ومن أصحاب رءوس الأموال والمستثمرين الشرفاء، ومن تبرعات أثرياء الأمة، مع إنعاش البحث العلمي المُتعلِق بالتكنولوجيا المتقدمة في كل المجالات، وتشجيع الاستثمارات في مجالات البحث العلمي المُختلفة، فلقد تبين أن الاستثمار في تنمية المهارات المهنية والفنية والتقنية للبشر عن طريق التعليم هو من أفضل أنواع الاستثمار للأمة على الإطلاق.
3- قدر من الحرية لكل أبناء الأمة يسمح بالنقد وعرض الآراء الحرة المختلفة لاختيار الرأي السديد المناسب من بين هؤلاء الآراء.
يقول المتنبي:
لقد أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي
يتبع >>>>>>>>>>> من عرف ما يطلب هان عليه ما يبذُل