لما كنت واحدة من مئات آلاف اللاجئين الفلسطينيين إلى لبنان، وحفيدة جدين عزيزين أجبرا على الهجرة من فلسطين، خوفاً من العصابات الصهيونية التي ارتكبت بحق الشعب الفلسطيني أفظع المجازر وأكبر المذابح لإجبارهم على ترك بلداتهم وقراهم، والحلول مكانهم في ديارهم واستيطان أرضهم، فيما عرف بأكبر عملية تهجيرٍ ولجوءٍ في القرن العشرين، حيث هجر اليهود الوافدون بمساعدة بريطانيا قرابة مليون فلسطيني، انتزعوهم من أرضهم، وخلعوهم من ديارهم، وجردوهم من ممتلكاتهم، وألقوا بهم في العراء وتحت الخيام في بلاد الجوار، وسلموهم ضمن مخططٍ مدروسٍ ونيةٍ مسبقةٍ إلى وكالةٍ دوليةٍ أنشئت خصيصاً لأجلهم، وأوكلت مهام الاهتمام بهم ورعايتهم، عرفت باسم "الأونروا"، تمهيداً لإعادتهم إلى بلداتهم في فلسطين، إلا أن مساعي العودة قد تعذرت كما أن جهود الإغاثة قد تعطلت.
رأيت وأنا الشابة الفلسطينية التي أحزنني كثيراً حال جديِّ، الذين عاشا طوال عمرهما وهما يفكران في العودة، ويعدان العدة لمغادرة المخيمات وترك بلاد اللجوء إلى فلسطين، التي عشقاها وأحباها، وضحيا من أجلها وعملا في سبيلها، إلا أنهما ماتا قبل أن يتحقق حلمهما، وغادرا الدنيا وعيونهما نحو فلسطين ترنو وإليها تتطلع، كحال عشرات آلاف الفلسطينيين الذين رحلوا مثلهما قبل أن يتحقق حلمهم، ويستعيدوا ملكهم، ويعودوا إلى ديارهم، إلا أنهم أودعوا هذا العلم لأبنائهم، وسلموه لهم أمانةً في أعناقهم، عهداً يحافظون عليه ولا يفرطون فيه ولا يتنازلون عنه، يعملون من أجله، ويضحون في سبيله، وإلا يسلمونه طاهراً نظيفاً قوياً ثابتاً للأجيال من بعدهم ليتحقق مهما طال الزمن، ويستعيدوا حقوقهم وحقوق أجدادهم مهما عظمت الصعاب وكثرت التحديات.
رأيت أن أكتب بقلمي معاناة أهلي وحلم شعبي، وأن أسجل ما استطعت معاناتهم، وأن أدون قصصهم وحكاياتهم، وأن أخلد للأجيال القادمة أحلامهم وما عملوا من أجل تحقيقها، وما قدموا من تضحيات في سبيلها، وهي كثيرة وعديدة على مدى سنوات اللجوء وعلى طول وامتداد بلاد اللجوء والشتات، فقد جرت خلال السنوات التي اقتربت من الثمانين عاماً قصصٌ كثيرة ووقعت حوادث كبيرة، كثير منها محزنة أليمة، وأخرى جميلة سعيدة، وبعضها إنساني وغير اجتماعي، وغيرها نضالي ومقاوم، مما يفتخر بها شعبنا ويعتز بها أهلنا، ولكنها لتناثرها بعيدة، ولعدم تناقلها غير معلومة.
فأردت هنا ضمن سلسلةٍ منظمةٍ ممنهجةٍ، معنونةٍ مرتبةٍ أن أعيد الحياة إلى الكثير من القصص والحكايات الفلسطينية الحقيقية الواقعية، التي عاشها أهلنا وعانوا منها، وتلك التي فرحوا فيها وفخروا بها، لأضمها إلى سلسلةٍ طويلةٍ من الأعمال الفلسطينية الخالدة، التي تتحد مع التراث الوطني والموروث الشعبي الذي به نقاتل ونكافح، وبه نصبر ونواجه، لأنني أرى أن هذا الموروث الشعبي هو جزءٌ من سلاحنا، وأحد أدوات نضالنا، نعتز به ولا نفرط فيه، إذ له قوة السلاح ومضائه، وفيه أثره ونتائجه، فلا نستخف به ولا نقلل من شأنه.
ولنعلم أن العدو الصهيوني يحاربنا به ويقاتلنا من أجله، فهو يدرك أن ما تحمله ذاكرتنا، وما تنقله ألسنتنا، وما تحفظه عقولنا، وما ترويه أمهاتنا، وما تورثه جداتنا، إنما هو سلاحٌ حقيقي، يخاف منه العدو ويدرك أثره ويعرف مفاعيله، ولهذا فهو يريد أن يشطب من ذاكرتنا كل هذه الأماني والأحلام، وكل تلك القصص والحكايات، لأنه يعرف أنها وقود العودة، وزاد المعركة.
ولعلني هنا ضمن هذه السلسلة التي أسأل الله سبحانه وتعالى أن يعينني فيها، ويهيئ لي من يساعدني عليها، ويزودني بذاكرة شعبنا ووعي أهلنا، أدعو كل صاحب تجربة ورواية، وكل حافظ قصة وحكاية، وكل عالمٍ بحادثةٍ أو واقعة، أن يدونها ليحفظها، أو يزودنا بها لنرويها ونسردها، فهذه القصص والحكايات ملك لأجيالنا وحق لشعبنا، ربما حالت الظروف الصعبة دون نقلها ومنعت المعاناة دون حفظها، ولكننا اليوم نستطيع أن نسجلها بأمل، وأن نعيد إليها الحياة بثقة، فأجيالنا الطالعة أمينة على ما ترك الأجداد، ووفية لما كانوا يحلمون به ويعملون من أجله.
قصصنا وحكاياتنا أيها السادة ليست خيالاً ولا هي مختلقة، كما أنها ليست افتراضية بل هي حقيقة واقعية، تجسد معاناتنا وترسم فرحنا، توضح حكايتنا وتسرد مأساتنا، وهي ليست للتسلية والتسرية، بل هي للعبرة والتجربة، وهي للشحذ والهمة، وللعزم والمضاء، حتى لا أنسى عكا ولا تنسون صفد، ولا تطوي الأيام صفورية وحيفا ولا الطنطورة والناصرة، ولا يافا وأسدود وبيسان وطبريا، فهذه أرضنا الموروثة، وبلادنا المصونة، سنحفظها بالبندقية والرصاصة، وبالكلمة والحكاية، وبالثوب والكوفية، وبالموال والأغنية، حتى تعود إلينا أرضنا فلسطين حرة، أبيةً عزيزةً كريمةً.
معي هنا على مدى الأيام ستقرأون قصصاً تظنونها غريبة، وتعتقدون أنها خيالية، ولكنكم ستدركون بعد قليل أنها قصة عائلتكم وحكاية أهلكم ووقائع جيرانكم وتغريبة شعبكم، وهي قصص كثيرة قديمة جديدةٌ، يرويها الأبناء عن الأجداد، وينقلها الصغار عن الكبار، ولكن غيرها الكثير وقع مع الأجيال الطالعة، وعاشها الأبناء الحاليون، ونسج خيوطها المهجرون الذين لا زالوا هم اللاجئين، رغم أن الكثير منهم هاجر ولجأ في بلادٍ بعيدةٍ عاش فيها وحمل جنسيتها، وتعلم وعمل فيها، وبرع وتميز وأعطى فيها كما يعطي أبناؤها الأصليون، ولكنه رغم الغنى والثراء، والنجاح والتميز ما نسي أبداً أنه عربي فلسطيني، عيونه ترنو إلى هناك حيث البلاد المقدسة التي استوطنها العدو واحتلها الغرباء، ولكنهم إليها حتماً سيعودون، ومعهم جميعاً بإذن الله سنعود.....
تعالوا بنا أيها الشعب العنيد، يا شعب الجبارين أيها العظماء، يا أبناء أمةٍ ستنتصر على ضعفها وستستعيد حقها، نفتح سجل الذكريات، ونقلب صفحات التاريخ، وننبش الماضي القريب والبعيد، نبحث عن الدرر، ونفتش عن القصص، ونروي حكايانا ونتعلم منها الحكم، هيا ننفض الغبار عن سلاحٍ ظنه البعض أنه عتق وثلم، وضعف وخرب، ولكن الحقيقة أنه ما زال حاداً مضاءً، وفاعلاً قادراً....
بيروت 23/1/2020
يتبع الحكاية الأولى ....
واقرأ أيضا:
عنصريةُ الاحتلالِ الإسرائيلي في ميزانِ عدلِ الأممِ / أزمة لبنان تخنق اللاجئين الفلسطينيين وتحاصرهم